Culture Magazine Thursday  24/06/2010 G Issue 316
الملف
الخميس 12 ,رجب 1431   العدد  316
 
قمة التواصل!
أ. د. بديع محمد جمعة *

في الرياض ومنذ عشرين عاماً التقيت لأول مرة بالدكتور محمد الربيِّع (أبي هشام) في بيت صديق هو الأستاذ الدكتور: صلاح صالح حسنين، أستاذ اللغة العربية وكان وقتها معاراً للرئاسة العامة للبنات بالرياض، وكنت في ذات الوقت معاراً إلى جامعة الملك سعود، اجتمعنا دون أن يربطنا أي عمل مشترك، أو تبعية إلى جامعة واحدة، وكان الود وحلو الحديث وسماحة الخلق القاسم المشترك الذي وحّد بين القلوب، ومنذ ذلك اليوم، وطوال السنوات الخمس التي قضيتها معاراً بالرياض ؛ كنا نلتقي فيزداد التواصل، وتزداد المحبة والأخوة الخالصة، وتتعمق العلاقة القلبية البعيدة عن أي مقصد إلا تعميق الود والإخلاص في المحبة أملاً في زيادة التواصل.

وبعد انقضاء سنوات الإعارة الخمس، وعودتي إلى عملي الأصلي بآداب عين شمس بالقاهرة، ظل التواصل قائماً، بل ازداد عمقاً ومودة، فلم يكن يمضي شهر إلا وكان التواصل بيننا هاتفياً، وخلال الخمس عشرة سنة منذ العودة إلى القاهرة، وحتى الآن أتيحت لي الفرص لزيارة الرياض أربع مرات، كنت في اثنتين من ها مدعواً لحضور مهرجان الجنادرية، وكان أبو هشام يتابع أسماء المدعوين، لذا ففي صباح اليوم التالي لوصولي إلى الرياض، أفاجأ بهاتف رقيق من أبي هشام مرحباً بقدومي، وبأن سائقه الخاص ينتظرني بالسيارة على باب الفندق كي يكون اليوم الأول لي في الرياض في ضيافة الصديق الكريم أبي هشام الذي لم يكن يكتفي بهذا اللقاء الأول، بل كان يحرص على تعدد اللقاءات كلما سنحت الفرصة، وهو في كل مرة حاتمي الطباع كريم السجايا، ولم يكن هذا الترحاب وذلك اللقيا حكراً على بديع، بل كان جميع من عرفهم أبو هشام – وهم كثير – يحظون بهذا التواصل، بل قمة التواصل..

ومثل هذا حدث في الزيارتين الثالثة والرابعة، حيث كانت الثالثة بدعوة من جامعة الإمام بالرياض، وكان اللقاء يكاد يكون يومياً طوال الخمسة عشر يوماً التي قضيتها في ضيافة الجامعة، أما الزيارة الرابعة والأخيرة، فكانت تلبية لدعوة من وزارة الحج للمشاركة في ندوة بمكة المكرمة، كان يتصل بي يومياً ويصر على أن أسافر إلى الرياض بعد مراسم الحج، حتى يتجدد التواصل فيما بيننا، ولكن الظروف لم تسنح بالسفر إلى الرياض، فاعتذرت لأبي هشام قائلاً: إن التواصل الروحي قائم بيننا سواء التقينا أم تعذر اللقاء، وعلى كل حال فإلى لقاء قريب!

وإذا أسعدنا الحظ وجاء أبو هشام إلى القاهرة بلده الثاني، سواء أكان الحضور لمتابعة جلسات مجمع اللغة العربية، أو معهد المخطوطات العربية، أو للمشاركة في ندوة أو مؤتمر بإحدى الجامعات المصرية الحريصة على دعوته للمشاركة في ندواتها إيماناً منها بقيمته الأدبية والعلمية، فكان أبو هشام حريصاً كل الحرص على تجديد وتعميق تواصله مع كل معارفه وأصدقائه – وهم كثر – وكانت الصعوبة كل الصعوبة في أن تجد وقتاً لتسرقه من كل هؤلاء المحبين المتواصلين معه والمنتشرين في ربوع مصر كلها من الأسكندرية شمالاً إلى أسوان جنوباً.

وإذا علم أبو هشام بأن أحد محبيه قد داهمه مرض، أو أدخل إلى أية مستشفى طلباً لجراحة أو علاج. نجده يسارع بزيارته في البيت أو بالمستشفى، وهذا ما حباني به عندما أجريت لي جراحة القلب المفتوح بمستشفى دار الفؤاد بالقاهرة، وقد سعى كثيراً لزيارتي بالمستشفى، ولكن ظروفي الصحية في الأيام الأولى للجراحة حالت دون إتمام هذه الزيارة الإخوانية الخالصة، واُضطر إلى العودة إلى الرياض، مما دفعه بعد شهر واحد بالسفر إلى القاهرة كي يعودني في البيت بعد مغادرة المستشفى، ولكي يسجل مكرمة من مكارم ذلك التواصل العميق الذي يميزه عن الآخرين.

لم أستطع يوماً أن أشكره، ولا أستطيعه الآن، لأن الشكر لن يفيه حقه، ولأنه جُبل على التواصل، بل هو قمة التواصل.

لم يكتف الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع بهذا التواصل الأخوي فقط، بل كان عمله العلمي قمة في التواصل مع جميع ثقافات وآداب الشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية، إيماناً منه بأنه إذا كان التواصل بين حضارات الشرق والغرب ضرورة حياة لرفاهية الإنسانية وسلامها الاجتماعي، فإن التواصل بين الشعوب الإسلامية أكثر إلحاحاً وفائدة حتى تستعيد الشعوب الإسلامية وحدتها وتماسكها بعد أن فرّق الاستعمار فيما بينها طوال قرنين من الزمان أو أكثر. واعتبر التواصل هدفه الأكبر منذ توليه عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام ومواصلة هذا الدور عندما تولى وكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، ويعلق على هذا الهدف النبيل بقوله: «راجع مقدمة كتابه: التواصل بين آداب الشعوب الإسلامية».

كنت سعيداً بهذا العلم، حفياً به، حريصاً على استمراره، لما لمسته فيه من تواصل وتعارف بين الأدباء المسلمين وتقوية للروابط بين شعوب العالم الإسلامي، وق اعدتهم الكبرى: العالم العربي، ولغتهم العظمى: اللغة العربية الخالدة، لغة القرآن الكريم.

لم يكن يكتفي بالدعوة إلى هذا التواصل داخل أروقة جامعة الإمام وإداراتها المختلفة، بل كان حريصاً على إبراز هذه الدعوة والترويج لها في جميع الندوات التي شارك فيها داخل المملكة وخارجها، مثال ذلك: محاضراته في النادي الأدبي بالقصيم، ومحاضراته في مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة، ومشاركته في ندوة الوفاء بالرياض، ومحاضراته في المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض، وأخيراً محاضرته القيمة بكلية الآداب بجامعة عين شمس.

وقد لخص الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع أبعاد هذا التواصل وأهميته في كتابه القيم «التواصل بين آداب الشعوب الإسلامية»، والذي صدر عام 2006م، عن مركز دراسة الحضارات المعاصرة التابع لجامعة عين شمس بالقاهرة، وقد رحبت الجامعة بنشره لثقتها أولاً في مؤلفه، وثانياً لتحقيق مبدأ التواصل الذي طالما دعا إليه صاحب التواصل أبو هشام الإنسان والعالم.

جاء هذا الكتاب في ثلاثة مباحث، مبحثه الأول عن المقدمات المنهجية لدراسة آداب الشعوب الإسلامية، ومبحثه الثاني عن جهود جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في تنمية التواصل بين آداب الشعوب الإسلامية، أما مبحثه الثالث والأخير، فقد خصه المؤلف للحديث عن تأثير الأدب العربي في آداب الشعوب الإسلامية.

ولاشك في أن جميع الأعمال التي أصدرتها جامعة الإمام، وذكرها المؤلف في مبحثه الثاني، كانت كلها نتيجة مباشرة لاتصالات ومساعي الدكتور الربيِّع بمؤلفي هذه الكتب ومترجميها، ومنها سلسلة آداب الشعوب الإسلامية التي عُنيت بالتعريف بالأدب الإسلامي في كل من الآداب الآتية: الأدب التركي، الأدب الأردي، الأدب الفارسي، الأدب السواحلي، أدب الهوسا، الأدب الأفغاني، الأدب الأزبكي، الأدب الأندونيسي، وغيرها من آداب الشعوب الإسلامية.

كما أشرف على إصدار عدد من معاجم اللغة في هذه اللغات الإسلامية، كي تكون عوناً للدارسين على تعلم هذه اللغات وقراءة كنوزها الأدبية أو الترجمة منها إلى اللغة العربية.

هذه مجرد ومضة لا تستطيع أن تلقي بأضوائها الخافتة كي تنير طريق التواصل الرحب الذي عايشه ويعيشه الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع، ذلك الطريق الذي ميّز حياته وعلاقاته بأصدقائه ومحبيه، واتسمت به مراحل حياته العلمية والعملية.

وفي النهاية أبتهل إلى الله العلي القدير أن يمد في عمر أبي هشام كي يواصل دعوة التواصل حتى تفيق شعوب العالم الإسلامي وتستعيد وحدتها الثقافية، وسابق مجدها العلمي، وأن يجازيه الله خيراً ويمتعه بموفور الصحة والعافية هو وأسرته الكريمة حتى يواصل العطاء ويظل متربعاً على قمة التواصل.

* أستاذ اللغة الفارسية بجامعة عين شمس
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة