Culture Magazine Thursday  24/06/2010 G Issue 316
فضاءات
الخميس 12 ,رجب 1431   العدد  316
 
مساقات
ما القصيدة؟
أ.د عبد الله بن أحمد الفَيْفي

تَحْدث في جدليّات (قصيدة النثر) مغالطاتٌ تستهدف إلغاء معنى كلمة «نثر» من هذا المصطلح، للقول إن ما كان يُسمّى- سابقًا- «نثرًا» أصبح اليوم يعني في اللغة والأدب: «شِعرًا»! غير أن التساؤل لمن يقول بهذا هو عن القسم الآخر أيضًا من هذا المصطلح الأكذوبة، وهو كلمة «قصيدة».. فأين «القصيدة» أصلاً في تلك النصوص؟

هل فكّر هؤلاء في معنى كلمة «قصيدة» هاهنا؟

لو فعلوا لأدركوا أن ما يُسمّى «قصيدة النثر» لا يمكن أن يُسمّى «قصيدة» أصلاً؛ لأن معنى «قصيدة» منتفٍ عنه لغويًّا، ناهيك عن انتفائه فنّيًّا.

إن «القصيدة» لم تسمّ بهذا الاسم في اللغة العربيّة- ولغير العربيّة ما لها- إلاّ لأن النصّ «مقصّد»، أي منغّم، منظّم، مرتّل في وحدات موسيقيّة، وفي وزن مستقيم، أو ما أطلق عليه الخليلُ: بحر. ذلك لأن من معاني «القَصْد: استقامة الطريق... وطريقٌ قاصد: سهلٌ مستقيم... والقَصْدُ: العَدْل... وهو الوسط بين الطرفين... والقَصْدُ: الاعتمادُ، والأَمُّ... روي أن الرسولَ، عليه السلام كان أَبيضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا؛ وقيل: معنى المقصَّد أَنه كان رَبْعة بين الرجلين، وكلُّ بَيْن مستوٍ غيرِ مُشْرفٍ ولا ناقِص فهو قَصْد... وقال الليث: المقصَّد من الرجال الذي ليس بجسيم ولا قصير، وقد يُستعمل هذا النعت في غير الرجال أَيضًا... والقَصِيدُ من الشِّعْر: ما تمَّ شطر أَبياته، وفي التهذيب: شطرا بنيته، سُمّي بذلك لكماله وصحّة وزنه. وقال ابن جني: سُمّي قصيدًا لأَنه قُصِدَ، واعتُمِدَ، وإِن كان ما قَصُر منه واضطرب بناؤُه، نحو الرَّمَل والرَّجَز، شِعرًا مرادًا مقصودًا، وذلك أَن ما تمَّ من الشِّعْر وتوفّر آثَرُ عندهم، وأَشَدُّ تقدّمًا في أَنفسهم، ممّا قَصُر واختلَّ، فسَمُّوا ما طال ووَفَرَ قَصِيدًا، أَي مُرادًا مقصودًا، وإِن كان الرَّمَل والرَّجَز أَيضًا مرادَين مقصودَين. والجمع قصائد، وربما قالوا: قَصِيدة كذا! والصواب: قَصِيْد... وقيل: سُمِّي قَصِيْدًا لأَن قائله احتفل له، فنقّحه باللفظ الجيِّد والمعنى المختار، وأَصله من القَصِيْد، وهو المُخُّ السمين، الذي يَتَقَصَّد، أَي يتكسّر لِسِمَنِه، وضِدّه: الرِّيرُ، والرَّارُ، وهو المُخُّ السائل الذائب، الذي يَمِيعُ كالماء ولا يتَقَصَّد، والعرب تستعير السَّمينَ في الكلام الفصيح، فتقول: هذا كلامٌ سمين، أي جيّد. وقالوا: شِعرٌ قُصِّدَ، إذا نُقِّحَ وجُوِّدَ وهُذِّبَ. وقيل: سُمّي الشِّعْرُ التامُّ قصيدًا لأَن قائله جعله من باله، فَقَصَدَ له قَصْدًا، ولم يَحْتَسِه حَسْيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل رَوَّى فيه خاطره، واجتهد في تجويده، ولم يقتَضِبْه اقتضابًا، فهو فعيل من القَصْد، وهو الأَمُّ... ابن بُزُرج: أَقصَدَ الشاعرُ، وأَرْملَ، وأَهْزَجَ، وأَرْجَزَ، من القصيد، والرَّمَل، والهَزَج، والرَّجَزِ... وقال أَبو الحسن الأَخفش: وممّا لا يكاد يوجد في الشِّعر البيتان المُوطَآن ليس بينهما بيت، والبيتان المُوطَآن كذا!، وليست القصيدة إِلا ثلاثة أَبيات. فجعل القصيدة ما كان على ثلاثة أَبيات. قال ابن جني: وفي هذا القول من الأَخفش جواز، وذلك لتسميته ما كان على ثلاثة أَبيات قصيدة. قال: والذي في العادة أَن يُسمّى ما كان على ثلاثة أَبيات أَو عشرة أَو خمسة عشر: قطعة، فأَمّا ما زاد على ذلك فإِنما تسمّيه العرب قصيدة. وقال الأَخفش: القصيد من الشِّعر هو: الطويل، والبسيط التامّ، والكامل التامّ، والمديد التامّ، والوافر التامّ، والرجز التامّ، والخفيف التامّ، وهو كلّ ما تغنّى به الركبان. قال: ولم نسمعهم يتغنّون بالخفيف؛ ومعنى قوله المديد التامُّ والوافر التامّ يريد أَتمّ ما جاء منها في الاستعمال، أَعني الضربين الأَوّلين منها، فأَما أَن يجيئا على أَصل وضعهما في دائرتيهما فذلك مرفوض مُطَّرَحٌ.»(1) قلتُ: وواضح أن معنى قوله «التامّ» هاهنا ما يقابل «المجزوء» من كلّ بحر، كأنما المجزوء لا يُعَدّ قصيدًا.

فعلى هذا فإن ما ليس فيه من الكلام وحدات نغميّة تتقصّد فليس بقصيدٍ البتّة، وعلى أرباب قصيدة النثر، إذن، أن يبحثوا عن لفظٍ آخر غير «قصيدة»، مثلما ألغوا من قبل كلمة «شِعر» واستعملوا «نثر». وهذا ما فعله النقد العربيّ القديم حين سمّى هذا الشكل من الكلام: «الأقاويل الشِّعريّة»؛ لأن «النثيرة» هي: «رِيرٌ لغويّ، أو رارٌ»، أي سائلة ذائبة مائعة كالماء، لا تتقصَّد. ولذا فإن دلالة «قصيدة نثر» تشير ببساطة إلى: «نصٍّ موزون.. غير موزون»، أو «قصيدة.. لا قصيدة». ولا معنى لهذا الهراء، لا عقلاً، ولا ذوقًا، ولا لغة، إلاّ ك»نثر.. الذي يعني: شِعرًا، أو شِعر الذي يعني نثرًا».

إنه اسم متضارب، متناقض، مريض في ذاته، فضلاً عن طبيعة النصّ نفسه الذي سُمّي به. وهو صورة لاضطرابٍ ذهنيّ ومفاهيميّ و ذوقيّ ولغويّ، ولاختلالٍ عقليّ ولوثةٍ معرفيّة، بدأت منذ تلك النصوص الفرنسيّة التخريبيّة لكلّ الأبنية، لغويّةً ونوعيّة. وقد كانت هذه «البكتيريا» النوعيّة بالأمس كامنةً في قطاعٍ هامشيّ من الأدب، ذي أبعاد فوضويّة تدميريّة، كما تحدثت (سوزان برنار) في كتابها «قصيدة النثر»، الذي تخلص- في آخر سطرٍ منه- إلى أن قصيدة النثر ليست بتجديد للشكل الشعريّ، بمقدار ما هي ثورة احتجاجٍ ونضالٍ فكريّة للإنسان ضدّ مصيره.(2) ثم تفشّت من بعد إلى جسد النقد الأدبي، فاكتسبت الشرعيّة، بل راحت تُقصي أيّ مقاومة أو ممانعة أو مناعة مكتسبة.

وبناء عليه، فإن صفة «قصيدة» تنتفي عن قصيدة النثر، واستخدام هذه الكلمة فيها هو محض لغوٍ، لا يعني شيئًا. وأمّا الاتكاء على المجازات التعبيريّة والتهويمات الدلاليّة فمتروك لحالات الشِّعريّة، ولا موقع له من النقد. غير أن بلوانا أن قد أصبح النقّاد شعراء والشعراء نُقّادًا. وذاك عبثٌ يحول بين حلم النقد الأدبيّ أن يقترب من العِلم، وأن تكون له وظيفته، وذلك حين يتحوّل النقد بدوره إلى شِعر منثور، أو عاطفيّات، وتحزّبات، ينفر من منطق العقل، وقوانين اللغة، ومعايير العِلم؛ لأنها تَحْرِمه الأهواء، ونعمة المجاملات، وتحاصر أمزجته، وتحول دون عاطفيّاته.

إنما الأفن الأكبر في هذا المخاض كلّه أن يُحصر الإبداع في قمقم جنسٍ أدبيٍّ عتيقٍ واحد، وأن تُحشر كلّ شِعريّة، وكلّ موهبةٍ خلاّبة، مثيرةٍ للشهقات، في قائمةٍ واحدة وحيدة، هي: (قائمة الشِّعر). هذا هو التصنيف القاتل للمواهب والإنجازات الإبداعيّة، الذي يتّهم به عشّاق قصيدة النثر من يُخرجها من الشِّعر، وهم الذين يمارسون التصنيف والتحديد والحجر على أنفسهم بأنفسهم وعلى أحبّتهم، بامتيازٍ لا تتمتّع به إلا أكثر العقول انغلاقًا، حين يسوقون تلك النصوص، ويسوقون أربابها، سوقًا إلى حضيرة الشِّعر وقطعان الشعراء. ذلك أن من حقّ قصيدة النثر- بقطع النظر عن دلالة المصطلح- أن تنماز عن الشِّعر، لا أن تنحبس فيه. ولكن ما العمل في عقلية القطيع؟ لن يطمئن كُتّاب قصيدة النثر إلاّ إذا انضمّوا إلى قطيع الشعراء، وانضووا تحت لوائهم القديم، ومُنحوا هويّتهم الفاتنة، ظانّين أن ذلك تحقّقهم، وما هو في الواقع إلاّ ضياع منجزهم واختلاف هويّته النوعيّة. وتلك هي فضيحة نقدنا، بعد فضيحة شِعرنا!

نعم، قد أبدو في بعض ما أكتب في هذه المساقات مغرّدًا خارج السِّرب اليوم. ومن لا يغرّد خارج السِّرب فليس بطائر غرّيد. وسِرب اليوم في معظمه سِرب جراد، على كل حال، لا غناء هناك ولا اخضرار. ولكن مهما يكن من شيء، فإن عزائي يأتي من قرّاء نوعيّين، يتفاعلون أو يختلفون بشرف. في حين يُصدم المرؤ في آخرين، كان يُجلّهم، فإذا هم لا يحتملون الرأي ولا النقد ولا الاختلاف، فينقلبون على أعقابهم كيوم ولدتهم قبائلهم، سُكارى بحميّاتهم ونوباتهم العصبيّة.

ومن تلك التفاعلات الكريمة، التي أعتزّ بها، تلك الرسالة التي وردتني من الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي، حول أحد المساقات الشائكة:

العزيز الدكتور ابن فيفاء الغنَّاء

سلام الله عليك..

اللغة الواضحة ضيّعتها الفضائيّات أوّلاً، وضيّعها المشتغلون فيها، وضيّعها من يكتب أو يعلّق في المواقع المتناقضة المختلفة، فلا لغة ولا نحو ولا تعبير؛ لأن ظلام التفكير، وافتقار الوضوح، وقلّة المخزون، تسيطر على كلّ هؤلاء. ومِن ثَمَّ فإن حربًا شعواء تقوم ضِدّ هذه اللغة، وضِدّ أهلها، في الإعلام بصنوفه المتناقضة والمتباينة.. فسلام عليك وعلى حرصك القويم على لغتنا الجميلة.

***

(1) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (قصد).

(2) يُنظر: (1993)، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، مراجعة: علي جواد الطاهر (بغداد: دار المأمون)، 288.

أخوك: الدكتور قاسم السامرائي - هولندا
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة