Culture Magazine Thursday  24/06/2010 G Issue 316
فضاءات
الخميس 12 ,رجب 1431   العدد  316
 
أمام مرآة «محمد العلي»
«العلي» وتجربة كتابة قصيدة النثر!
علي الدميني

ما الذي يغري شاعراً مثل «محمد العلي»، أبدع في إنشاء القصيدة العمودية، ثم تألق في كتابة قصيدة التفعيلة منذ أن انحاز إليها في عام 1965م، لكي يجرب كتابة قصيدة النثر؟

أتراه كتبها على سبيل التجريب، أم لرفع العتب، أم أنه قد وجد فيها مناخاً آخر للتعبير عن تجربة مختلفة وإنجاز شعري مغاير؟

تلك أسئلة محددة نقارب عبرها ما أنتجه شاعرنا في هذا الحقل الشعري من نصوص بدأ تجريبه لكتابتها منذ عام 1967م، وحتى اليوم، رغم العدد القليل الذي نشره منها.

وحيث قد وقفنا في الكتابة السابقة أمام مرتكزات قصيدة التفعيلة المنتمية للحداثة الشعرية العربية المعاصرة، وافتراقاتها عن متن قصيدة العمود، وأشرنا إلى موقع محمد العلي المتميز في تلك التجربة، فإننا سنحتاج للإلماع إلى أهم خصائص قصيدة النثر، وما تؤسس له من بلاغة شعرية مغايرة لقصيدة العمود وقصيدة التفعيلة على السواء.

سياق هذه التحولات التي طالت بنية معمار القصيدة، حين نتأمله اليوم، يعيننا على القول بأن التحول من قصيدة العمود إلى التفعيلة، هو فاعلية رمزية تعبر عن التشوف المضمر للانتقال من هيمنة الخطاب الشفوي (كسلطة الجماعة والثقافة والشكل الفني) إلى فضاءات الثقافة المكتوبة وما تتيحه أمام الشاعر من ممكنات إبداعية تفتح أمام الذات إمكانية تفردها عن سطوة الجماعة ومواضعاتها، لكي تخرج حالة إنشاء النص الشعري من قيد الضرورة الشفوية إلى فضاء حرية الكتابة المفتوحة، رغم أن الشكلين بقيا ملتزمين بموسيقى التفاعيل المقيدة أو المفتوحة، وبأنساق مجاز التجريد الشعري، وبالتماهي في/ ومع لغة كل الأزمنة، بحيث ظلا أكثر وفاءً للذاكرة الشعرية، وأقل ذهاباً في مسارب القطيعة مع التراث.

قصيدة النثر و»القطيعة»

قصيدة النثر عبرت بوضوح حاسم عن تجربة التحول – ضمن اختبار الشعريات الجديدة – من الثقافة الشفوية إلى الثقافة المكتوبة، مؤكدة بذلك على مفهوم القطيعة الشكلانية على الأقل مع التراث (كأحد مرتكزات قيم الحداثة)، ومضت بدأب أكبر للتعبير عن حرية الذات المطلقة في التفكير والإبداع والانتماء إلى العصر والمدينة، وفي إنتاج كتابة مغايرة لا أسلاف لها، ولا طموح في تشكيل أية تقاليد أو نماذج.

وقد مرت تجربة التنظير الأدبي لجماليات قصيدة النثر واشتراطاتها (في الساحة الثقافية العربية)، بطورين مهمين، يمكن أن نشير إلى الأول ببلاغة التنظير التأسيسي، وإلى الثاني ببلاغة التجربة المعاصرة.

التنظير الأول والذي استند إليه نقاد وشعراء قصيدة النثر منذ بداية الستينيات في العالم العربي، اعتمد على مرجعيات قصيدة النثر الأوروبية، وعلى عدد من منظريها. ويستشهد في هذا الصدد عبد القادر الجنابي في قراءته الموسعة لقصيدة النثر والمنشورة في موقع إيلاف بدراسة بربارة جونسن عن ثورة بودلير الثانية، بقولها «قصيدة النثر تتميز بقوتين متعارضتين: حضور ضد غياب السمة، وإحالة إلى قانون «الشعر» ضد الإحالة إلى قانون «النثر». ولعل هذا القول يتفق تماماً مع ما ذهبت إليه «سارة برنار» قبلها في كتابها» قصيدة النثر من بودلير وحتى الآن «من أن قصيدة النثر تنطوي» في آن على قوة فوضوية هدامة تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظمة تهدف إلى بناء (كلّ) شعري، ومصطلح قصيدة النثر نفسه يظهر هذه الثنائية» (د. حسام الدين خلاصي

- www.bn-arab.com)

مرتكزات قصيدة النثر

يُعد كتاب «سارة برنار» العمدة في هذا المجال، حيث لخص كثير من النقاد والدراسين لقصيدة النثر أهم ما ورد فيه من المرتكزات المؤسسة لهذه الشعرية، (ومنهم د. خلاصي بحسب المرجع السابق) ونجملها فيما يلي:

الإيجاز: ويعني الكثافة في استخدام اللفظ سياقياً وتركيبياً، وكتابة النص القصير، لأن النص الطويل يفقد ومضات توهجه الشعري بالانزلاق إلى عادية النثر النفعي.

التوهج: ويعني الإشراق أو السطوع، بحيث يكون اللفظ في استخدامه متألقاً في سياقه، وكأنه مصباح مضاء، إذا استبدلناه بغيره ينطفئ بريقه.

اللازمنية: .. أي أن يكون اللفظ غير محدد بزمن، فالدلالة متغيرة، بحيث يبقى النص إمكانية مفتوحة للتأمل والاستمتاع عبر الأزمنة.

الوحدة العضوية: حيث لا يمكن الانفعال بجمالية النص ودلالاته إلا بحضور كل أجزائه (مقاطع وعتبات).

الكتابة: قصيدة النثر نص على الورق وليس نصا شفويا، أو مقصوداً للإلقاء التفاعلي مع الآخرين.

الموسيقى: تخلي القصيدة عن كل ما يحد من حرية تشكيلها، باطراح مقومات الوزن والتقفية، أوالإيقاع التفعيلي.

وإذا ما أزحنا جانباً عنصر الموسيقى، وقرأنا بإمعان بقية هذه المرتكزات الشكلانية لقصيدة النثر، فإننا نستطيع القول بأنها تنطبق على قصائد معظم شعراء الحداثة (شعراء التفعيلة)، في العالم العربي وفي مقدمتهم محمد العلي.

ولأن الظروف الثقافية والذائقة الفنية السائدة في الساحة الشعرية العربية قد قاومت قصيدتي التفعيلة والنثر معاً، إلا أنها سرعان ما تكيفت مع الزمن للتفاعل مع استقبال قصيدة التفعيلة، للعديد من الأسباب ومنها احتفاظها بالموسيقى، فيما ظل رفضها لقصيدة النثر شرساً وعنيداً، مما حدا بشعرائها ونقادها إلى الاشتغال على أطروحة «الموسيقى الداخلية» أو الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر، للبحث عن رافعة تسهم في فك الطوق عن محددات انتشارها في الساحة الثقافية العربية.

وعن تلك الموسيقى المتوهمة أو الإيقاع الداخلي تم طرح مفهوم «النبر» أو الإيقاع الهامس، وغيرهما من الاجتهادات التبريرية للتعويض عن غياب الموسيقى لزمن طويل دون جدوى، ولعلنا نجد في كلام د.عبد الملك مرتاض ما يحرر هذه الأطروحات الشكلانية من أوهامها في قوله: «إن الإيقاع الداخلي يختلف عن الوزن، حيث إنه مجموعة أصوات متجانسة ومتناغمة.. لتشكيل نظام إيقاعي يقع وسطاً بين دقة العروض في ميزانها، وتساهل النثر في فوضاه».

وقد تطور هذا الاشتغال النقدي على تحديد جمالية قصيدة النثر بتجاوز ذلك الوهم حول الموسيقى الداخلية أو الإيقاع الداخلي، بالتركيز على مقوماتها كنص شعري يعتمد المجاز في بناء الصورة الشعرية بسلاسة وعفوية متحررة من قيد الوزن والإيقاع الموسيقي، وبالانزياح عن الصياغات والتعابير السائدة سواءً في الكلمة أو الجملة أو كامل النص، وفي افتراع أبواب الدهشة والجدة والمغامرة، وبالالتفات إلى اليومي وجمالياته المنسية.

وفي ذلك يقول د. محمود الضبع: «علينا أن نتجاوز محور «النثر - الشعر» إلى محور اللغة الاعتيادية مقابل اللغة الشعرية». أما محمد العلي فإنه دائما يردد: «الشعر هو الذي ينقلني من حالة إلى حالة أخرى» ولم يحصر ذلك في أي شكل من أشكال النماذج الشعرية الثلاثة!

أما «أدونيس» فإنه يقول: «إن كثيراً مما كتبه الشعراء في قصيدة النثر لا يمتّ إلى الحداثة بصلة، بل هو كم تراكمي، لأنه شعر سيئ جداً، وهذا لم يكن في مصلحة قصيدة النثر، وإن ساهم في انتشارها على نطاق واسع»... «فالمسألة الجوهرية في الشعر، ليست الكتابة بالوزن أو النثر، وإنما هو في رؤياه ورؤيته... في العالم الذي يفتحه ويبنيه، وفي الجمالية التي يصدر عنها، ويؤسس لها... هو فيما وراء الوزن والنثر معاً» (جريدة الثورة السورية 26-9-2005م -

www.thawrah.alwehdah.g.sy).

وضمن سياق هذه المقولات التي تطورت عبر الزمن، يمكننا أن نصل إلى بعض ملامح التنظير المعاصر لبلاغة قصيدة النثر، خارج موضوع الموسيقى الخارجية والداخلية.

قصيدة النثر قصيدة المدينة:

مثلما رأى النقاد من قبل أن الرواية هي ابنة للمدينة الحديثة، فإنهم أيضاً يرون أن قصيدة النثر هي طفلتها الشعرية.

لماذا؟

- لأن المدينة الحديثة حاضنة جديدة تقوم على استقلالية الفرد في عمله ونشاطه الاجتماعي والثقافي عن مواضعات وضغوط الحواضن القديمة المتمثلة في هيمنة مؤسسات (القرابة والجماعة والقبيلة) وقيمها الثقافية والاجتماعية (وبشكل نسبي في عالمنا العربي).

فالمدينة في هذا الأفق تهيئ الظروف الملائمة للفرد لكي يتعاطى بشكل أكثر حرية مع ذلك الواقع أو المصير، والذي قد يجابه فيه وحدته وغربته واغترابه، مثلما يمكن أن يجد فيه حريته أيضاً، ولعل المبدع هو الأكثر تأثراً وتفاعلاً وتعبيراً عن هذه المناخات المستجدة.

- نبهتني ورقة د. سعد البازعي التي قدمها في جمعية الثقافة والفنون بالدمام عام 1995م، عن التجربة الشعرية في قصائد «سنابل في منحدر» للشاعر محمد الدميني، إلى هذا المحور الهام حين أشار إلى أن قصيدة «النثر» اليوم هي قصيدة المدينة بامتياز. كما عرض لهذه الرؤية ( وإن أتت في سياق آخر) في مقالاته المنشورة في جريدة (الجزيرة) تحت عنوان «نثر المدن» بقوله: «السمات المعروفة لقصيدة النثر، كانت بارزة لدى معظم الشعراء تقريباً (في السعودية في مرحلة التسعينات)، ومن أهمها التمحور حول تفاصيل الحياة اليومية، لا سيما في المدينة بوصفها الإطار الحتمي المعاصر للحياة الاجتماعية، ..الإطار الذي يحتاج الفرد إلى مواجهة منجزاته الحضارية من ناحية ومشكلاته المعقدة من ناحية أخرى .كما أن ذلك الإطار هو ما تحتاج اللغة الشعرية وشكل القصيدة إلى التأقلم معه، من حيث المعجم الشعري وبناء النص...الخ» (منبر الحوار والإبداع - 10-12-2007م - نقلا عن ثقافية جريدة الجزيرة).

- وضمن هذه الرؤية، تقول الكاتبة والشاعرة صباح زوين: «المدينة هي لغة، ولا أستطيع أن أتخيّل قصيدة النثر خارج المدينة وأزقتها وشوارعها وتقاطعاتها وزواياها ومقاهيها....وقد ركزت على عنصر المدينة.. لأني لا أرى قصيدة النثر خارج هذه الجغرافيا... ذلك لأن المدينة ثورة على الريف.. ففي المدينة تجديد للنظرة إلى العالم، وإلى الإنسان، وبالتالي إلى اللغة... فالمدينة هي «الوعاء» الأفضل لحالة التشظي، وأعني بها تشظي نواة العشائرية والقبلية والطائفية والعائلية والجماعية والسلالية... حيث يخرج الشاعر في المدينة من أسطورة هذه الروابط إلى واقع فك الارتباط، وخوض عالم «الفردية» الكبيرة، حين يغدو التناقض بين الأفكار وتضادها، وينتج عنه تضاد وتناقض الفرديات لا المؤسسات المختلفة ..» (www.edu.edu.ib)

- إن قصيدة النثر تقدم نفسها كشكل حرّ نسبياً من التقاليد والعادات السائدة، مثرية بهذا حرية الإبداع والتحرر من الجديّة والقيود المألوفة.. وقد تكون فعّالة في تقصي الشعر عن طريق نحوٍ مختلف عما هو عليه في كتابة الشعر المنظوم. (الشاعر الأمريكي -بروك هرفت- فراديس - العدد 6-7).

- بقي لي بعد هذا الكلام أن أضيف إليه بعض ما أراه من تجليات بلاغة قصيدة النثر المعاصرة، في ما يلي:

- الانتقال من هيمنة مجاز التجريد والغنائية والصواتة العالية إلى مجاز التجسيد، والتأمل، والنبرة الهادئة، وهذا ما يجعل النص منتمياً إلى حضوره الزمني، عبر الكلمات والإشارات والتعابير اللصيقة بواقعه المتجدد، عوضاً عن السياحة عبر الأزمنة الأسطورية والتاريخية، والارتهان إلى اللغة المتعالية على زمنها.

وفي هذا المنحى تفيد قصيدة النثر من تجربة حية تصنعها قصيدة الشعر الشعبي في كافة مستوياتها، حين تخلق البيئة الطبيعية لاستخدام الكلمات والمصطلحات والتعابير المستجدة على لغة المعيش اليومي، واستيعابها في نسيج النص، دون أن يبدو ذلك نشازاً أو تعبيراً مغترباً عن بنيته.

- الانحياز التام لشعرية النص المكتوب وتقاليده، خارج مضمرات الفن الشفوي ورسائله.

- تعميق مفاعيل حق الفرد في أن يصبح كينونة مستقلة تعبر عن ذاتها وحمولاتها الفكرية والثقافية، بمعزل عن إكراهات أو ضغوط المؤسسات المتعددة.

ولكن هل يكفي كل ذلك التوصيف أو التنظير الشكلاني لإنتاج قصيدة نثر شعرية معاصرة؟ ولكي تكتمل صورة هذا التساؤل، سأورد رأيين لشاعرين يذهبان بنا بعيداً في تأمل دلالة كلمة «ولكن»!!

يقول شاعرنا السابق «بروك هرفت» - في عبارة تنظير شعارية لا تقل ادعاءً من نزق التبشير الإيديولوجي - «إن النثر (إيقاعاته، استخدامه لفضاء الصفحة ..الخ) يقدم إمكانات ينبغي للشعر أن يمتلكها إذا كان له أن يحتفظ بمكانته كاستخدام «للغةٍ» يستغل أقصى إمكاناتها؟». كما يقول عبد القادر الجنابي، الشاعر والباحث المعروف: «إن قصيدة النثر تتيح لنا أن نتخلص من الفخ الأيديولوجي المرتبط بشعر التفعيلة».

وإزاء هذين الرأيين وغيرهما، سوف نتساءل: هل يكمن استخدام أقصى إمكانات اللغة الشعرية في إطراح الموسيقى جانباً والذهاب إلى النثر فقط، أم باستثمار تلك الإمكانية الموسيقية إلى أقصى ممكناتها الجمالية؟

وهل ارتبطت كتابة قصيدة التفعيلة بالإيدولوجيا كحالة قدرية لا فكاك منها، أم أن الإيدولوجيا لصيقة بالنثر العادي، ومنه هذه الدعاوى المثقلة برنينها!

في ظني أن الانفكاك من قيد الوزن والتفعيلة وحده لا يعين شاعر النثر على إنتاج نص جديد يغني المشهد الشعري وإنما لا بد من توافر العدة الثقافية والمعرفية ورهافة الحساسية اللغوية، والرؤية الواضحة للشاعر التي تعنى بقضية ثقافية أو جمالية مهما كان حجمها أو استهدافاتها، لكي يبدع نصاً مغايراً يفيد من كل هذه المناخات المهيأة لاستقبال قصيدة نثر قادرة - في غياب الموسيقى أو التحرر من قيدها - على إبداع نموذجها الفني المختلف.

محمد العلي - موضوع حديثنا هنا في سياق تجريبه لكتابة قصيدة النثر- يقول: «عندما أقرأ أربعة أسطر أو خمسة من كتابة الماغوط، فإنها توصلني إلى حالة لا تستطيع عشرات القصائد أن توصلني إليها». فكيف نقرأ قصائد النثر التي كتبها شاعرنا على ضوء هذه التنظيرات والتوصيفات، بما فيها مآخذه عليها؟

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة