Culture Magazine Thursday  24/06/2010 G Issue 316
مراجعات
الخميس 12 ,رجب 1431   العدد  316
 
استراحة داخل صومعة الفكر
تقولين
سعد البواردي

وهو يقول أيضاً.. ربما لتصديقها.. وربما أيضا لمقارعتها الحجة بالحجة حتى لا يتحول إلى ظل قابع وتابع نافياً عن الشبهة التي تقول:

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

أيهما أعلى صوتا.. هي؟ أم هو؟ أم هما على تلاقٍ.. وتكافؤ في ميزان القصد والقصيد؟ هذا ما يمكن التعرف من خلال شواهد نصوصه الآتية..

بداية الحليبي هو الذي قال.. لا هي. ولا سعد الذي عناه الشاعر في قوله:

وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني

شجونا فزدني من حديثك يا سعد

بماذا تحدث شاعرنا وهو بين فكي تيه:

قد تلد الصحراء العاقر بيتا

والليل الأمرد ينبت شتلة شيب

وتضج الدنيا بالموتى

سيان ولادة افق رحب في زمني

أو مولد بئر مشوبهة باطنها في علم الغيب

المشاهد أمام عينيه تتزاحم، عالم معتوه يتمرغ في أوحال العيب.. عالم أعمى.. حياة هي الموت بعينه.. تيه لا يحتاج إلى مزيد.

شاعرنا يحاكم ضمير شعره.. ظاهرة صحية ليتنا نفتح المزيد من المحاكم لمقاضات ضمائرنا..

أمتَّ شعري أم ماتت أحاسسي

أم غيض زيتك فاسترخت فوانيسي

شطران يفتقران إلى علامات تعجب! واستفهام؟

ماذا تريد بقلبي؟ كله حرق

ان كنت تبغيه قلبا غير مأنوس

يا شعر كل بقاع الأرض خارطتي

ولا تقاس حدودي بالمقاييس

نعم.. مقاييسها الأحاسيس المتفجرة التي تحكي لغة العالم بآماله وآلامه.. القصيدة طويلة حافلة بالصور الجميلة أكتفي منها بهذه المقاطع المعبرة

ما بين أمتي الثكلى وحلم غدي

وبين قلبي عهد غير منكوس

ألملم الحرف من جرحي وجرح أخي

وأسكب الحبر دمعاً في قراطيسي

إذا اشتكت مهجة جرحا أضج أسى

كأن كف الأسى دقت نواقيسي

حديث شجون نستزيد منه الشجون يا خليفة سعد..

(عيناك والربيع) أيضا مقولة شاعر لعروس أحلامه:

عيناكِ حلوتان رشفتا عسل

أكاد أحتسي الفتون منهما احتساء

وددت لو استعاض بكلمة (قُبَل) بدلا من احتساء التي احتساها!

عيناكِ والربيع ظبيتان يا حبيتي

اطلتا عليّ من جبل..

حبيبتي أجل: بحيرتان مقلتاكِ فامنحيني لحظة

أعوم فيهما يلفني الرداء.. أضمد اللواعج الجريحة الظماء

أخشى عليك من جاذبية موج فتنتها أن تغرق.. العوم في بحر الهيام لا مجاديف له.

هذه المرة هي التي قالت بلسان شاعرنا:

تقولين.. قاس أنتَ لست بشاعر

ولا لمست يوما رؤاك مشاعري

وحبي ما أوحى إليك قصيدة

ولا أدركت عيناك سحر بيادري

لغيري تغنى الحرف يا طير دوحتي

وسكناك في عشي ومغناك خاطري

لغيري تقول الشعر! واخيبة المنى

لقد كنت بين الصحب زوجة شاعر

أفتش بين الحرف والحرف علّني

أراني ولو طيفا وراء الضمائر!

هذا البعض من صوت عتب صارخ من زوجة تقاسمها الحياة زوجة أخرى.. انتهى بشكوى:

سأشكوك يا مولاي لله حرقة

وما خاب من ناجى عظيم السرائر

وبعد أن قالت.. قال هو دافعاً ومدافعاً:

هويت وقد جفت بشعريَ أحرفي

وهاجت أحاسيسي وغاصت محاجري

وغبتُ وديواني يضم بحيرة

منَ الدمع ويح الدمع كم كان قاهري

أمحبوبتي عفوا.. بنفسي غيرة

تنازعني في الشعر ذكر الحرائر..!

ترفعت في شعري عن اللهو والهوى

فطابت مضاميني وزانت مظاهري

شاعرنا يقدم اعتذاره.. لأن خياره لم يكن زوجة ثانية تضاجعه سكنه.. بل قضية تسكن أعماقه وتشغل باله إلى درجة الارتهان

تعيش بأجفاني جراح لأمتي

تنامت وقد نامت عيون المآزر

فلا تعتبي لو قل حظك في الرؤى

وقد ملك الإسلام فيض معابري

وأضحت يد الأقصى تلف وثائقي

ودمع ضحايا الصرب حبر دفاتري

لا تعجبي إن لاح في وجهي الأسى

وماتت على ثغري جميع نوادري

كان عشقه الأول والأخير عشق حياة لا تقبل الإهانة والمهانة.. فهل قبلت منه الاعتذار وهو يؤكد لها حبه؟!

وأنتِ كما قد كنتِ حلمي وهاجسي

ومينائي الأحنى لقلبي المسافر..

في أدبيات العشق لحظات رياء.. ولحظات كبرياء تحدث عنها:

بيني وبينك ألف باب مغلق

ما بينها بين العراق وجلّق

صدي إذا شئت الصدود أو انجلي

أو كنتِ ما أغلقتِ بابك أغلقي

أنا لم تعدلي في وصالك رغبة

إني ذبحت صبابتي وتشوقي

في هذا ما يكفي من الصد.. ولكن دون رد..

(غضبي أحبك!!) هكذا تستهويه الجفوة الحلوة.. أن يجد مذاقا لدموع ساخنة تذرف على الخدين كي تمسح في النهاية أخاديد الهجران والجمود!

ملح الحياة رأيت الهجر والعتبا

فعاتبيني إني أعشق العتبا

هبي عتابكِ لهوا أستلذ به

مازلت طفلا أحب اللهو واللعبا

لقد مللت هدوءا فيك يقلقني

وقد عهدتُ مهاتي فيك أن تثبا

إني تعودت صيد الظبي نافرة

ما اتفه الصيد للقناص إن قربا

هكذا يرى الحب حركة لا تخلو من لهاث وركض لا يرهق الأنفاس.. ولا يزهق طاقة الإحساس.

في ديوان شاعرنا المبدع محمود الحليبي (تقولين) مجموعة من العناوين التي تعني مناسبات بعينها أتجاوزها إلى أخرى ذات نزعة حياتية أو تأملية.. أتحدث عن (الخيال) كما رسمته ريشته:

خيال يا صغيرتي ابسمي

أبوك مغرم ببسمة الصغار.. ألف ألف مغرم

أبوك حينما يراك تبسمين يحلم..

يرف كالصغير في الفضاء

وحينما يراك تجهشين بالبكاء يهرم

ينهدُّ كالبناء حين يهدم

وجهان لانفعال نفسي متغير.. بسمة طفل هي الحلم.. وهي بكاء طفل هو الحزن..

أمام المشهدين موقف تجيره الظروف هو بالنسبة إليها المتلقي والصدى.

شاعرنا الحليبي كدليل سياحي أخذنا معه إلى جدران حارته القديمة كي يقرأ لنا نبض ماضيها وتداعيات حاضرنا..

صمت في صمت.. وجراح تنمو وجراح

مزمنة تتسلق جدران البيت..

وأحلق.. أسمع همس الأشباح

تتراقص تعزف موسيقى الموت

لابد للأشياء، الإنسان، الحيوان، البنيان، من عمر افتراضي تشيخ معه الملامح.. وتسورُّ شيخوخته الملاحم.. ثم ما هو أبكى!

ومضيت أتابع مشواري ومضيت

لا شيء سوى أبواب مشروخة

حلقات عالقة خرساء تشتاق أنامل تطرقها. وبقايا صوت

وزوايا للماضي شاهت كانت حسناء

العنكب أضحى يقطنها.. هو ذا فيها يبني كوخه..

كلت أعصاب المسمار فقدت خشبات تتدلى أوتارا بيد الإعصار

كانت دار أجمل دار تتجلد كيما تصمد في وجه الشاري.. عاجلها كأهلها الهرم فمات كأهلها.. أو هي في سبيلها إلى الموت. سنة حياة

صرخة أسير.. كم أسير في عالمنا صرخ من الظلم.. وفي وجه الظلم.. منذ بداية الخليقة وحتى اللحظة وجه الحقيقة يرصد لنا تاريخا مداده دم.. وصفحاته صفعات.. وأقلامه ألم.. وكتابه جلادون.. وضحاياه مئات مئات الملايين.. أسلمهم الأسر إلى واقع مليء بأصناف القلق والوحشة والعذاب..

الليل والجلاد والبرد العنيد.. ولا دثار

والرعب يلهث في العروق بلا حدود.. أو منار

ويظل يجرعه الوريد دما.. ونار

والهيكل المصلوب في صدر الجدار

والساعد المقهور يأكله الحديد.. ولا فرار

آواه.. تمضغني القيود

آواه.. تقهرني السلاسل

آواه.. من ليل يطول ولا نهار

البعض من ملامح الصورة القاتمة التي يحياها بشر جندلهم الأسر كل ذنبهم أنهم دافعوا عن أوطانهم وأهليهم وكان مصيرهم زنازين الجلادين. ولأن لكل حرية ضريبة يجب دفعها لابد للنصر من مشارف.. ولابد للحرية من ثمن.. هكذا يستشرفه شاعرنا أملا في نهار جديد لا ظلام ولا ظلم فيه.

ياركب الصحوة لا تحمل همّ العثرات

فالدرب طويل وجميل رغم الآهات

بجبينك يا أمل الأمة نور الآيات

وبكفك تنفرج الغمة رغم الظلمات

مادامت لله غدت كل الخطوات

فالنصر لأمتنا قسماً قسماً هو آت

يا ركب الصحوة إن تظمأ فدم وتراب

أو تشعر بالجوع فحولك شوك وذئاب

لا تأبه بخطاك التعبى لا تخش صعاب

فالنصر وربك مورود ما عاد سراب

مشارف نصر مازال حلما بعيد المنال؛ لأن قوى الشر أمضى من قوى الخير.. ولأن حق القوة أعتى من قوة الحق.. ومع هذا لا يأس مع الحياة كما لا حياة مع اليأس..

أخيرا مع فارس رحلتنا الشاعر المتمكن محمود بن سعود الحليبي في ديوانه (تقولين) كما اسماه.. و(قال) كما أنا اسميه لأن قوله الأكثر.. أخيرا مع عنوانه الأخير الخطير (الأمة واخطبوط اليأس).

نسج الفجر خيوطه

ويراع الشمس أجرى في المسافات خطوط

وزهور الآمل الهائم في الأرض تفوح

وحداء النور في الأجواء تاه

وأنا في شرفتي الثكلى أنوح..

(أمتي) و(أمتاه)!

شبك اليأس عليها اخطبوطه

ويقولون لحرفي (لا تحزن)؟!

ويصيحون لشعري: كيف تيأس؟!

هذه الدنيا بساتين خصيبة!!

ونسوا أني جزء من تفاصيل الحكاية

ما دروا أني جرح بجراح العز مثخن

نخلة من عبق المجد المسجى! تتنفس

مقلة أذكت لظاها لوحة الذل الكئيبة

مهجة ذوّب فيها حزن هذه الأرض نايه

أيها الناس افيقوا..

لن أفسر ماء شاعرنا بالماء.. ولن أضيف إليه.. الواقع نفسه أقوى مقولة وأصدق حديث.. يكفي ما نلمسه وما نشاهده على امتداد رقعتنا العربية والإسلامية من استهداف يطال أمنه وايمانه سلاحه وإسلامه دون أن نتحرك دفاعا ودفعا درءا للمخاطر..

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

***

محمود بن سعود الحليبي

95 صفحة من القطع الكبير

الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة