Culture Magazine Thursday  25/03/2010 G Issue 303
فضاءات
الخميس 09 ,ربيع الثاني 1431   العدد  303
 
(التلقِّي) (وَطَرَفَا الخِطَاب)
رحلَةٌ في مَتَاهَات الأسئلَة! (1-2)
عمر بن عبدالعزيز المحمود

يُعَدُّ (أبو تَمَّامٍ) من الشعراء القلائل الذين أثاروا (حِراكاً نقدياً) لافتاً تَجاوز حدود (الزمان والمكان)، وظَلَّ الدارسونَ إلى يومنا هذا (مختلفين) في (نصوصه) بين (مُدافعٍ) عنه و(مُتعصِّبٍ) عليه و(مُنصِفٍ) له، وقد كانت كثيرٌ من روايات الخصومة والاختلاف حول (نصوصه) تكشف عن (لَمَحَاتٍ نقديةٍ) مهمة تَحوَّلت فيما بعد إلى (مبادئ وقضايا) تبنَّتها كثيرٌ من (المناهج النقدية الحديثة).

فقد رَوَت كُتُب الأدب والنقد أنَّ (أبا سعيد الضرير) و(أبا العميثل) عابا على (أبي تَمَّام) (غموض) بعض شعره، وأخذا عليه (تعقيد) كثيرٍ من معانيه، حتى استعصت بعض (نصوصه) على الفهم، فعندما استمعا إلى قوله:

أهُنَّ عَوادي يُوسُفٍ وصواحبُه

فعَزماً فقِدماً أدركَ النجحَ طالبُه

قالا له - مُنكرين باستهجان -: (يا أبا تَمَّام.. لِمَ لا تقولُ ما يُفهم؟)، فأجابهما أبو تَمَّام على الفور بإجابة عَدَّها النقاد وغير النقاد من الإجابات (المسكتة المفحمة)؛ فقد أجاب: (ولِمَ لا تفهمان ما يُقال؟).

لقد كان لهذه (الرواية الأدبية) دلالاتٌ موحية فيما بعدُ على قضية نقدية في غاية الأهمية تتمثَّل في (التلقي) وملابساته، وطُرحت - إزاء ذلك - كثيرٌ من التساؤلات التي تُجسِّد (صعوبة) هذه القضية وتكشف عن مسالكها (المعقَّدة)، ولكي يتصوَّر القارئ الكريم هذه (الصعوبة) وذلك (التعقيد) فليتأمل هذه الأسئلة:

- هل ينبغي على (المبدع) أن ينزل بلغته وأسلوبه إلى مستوى (القارئ/ المتلقي)؟

- وهل يَجِبُ عليه أن يتنازل عن (أفكاره الجديدة المبتكرة) التي لم يألفها الآخرون من أجل أن (يفهم) (القارئ/ المتلقي) (فكرته) و(يستوعب) (الرؤية) التي يود أن يكشف عنها؟

- هل يَحرِمُ (المبدع) قلمه من (التحليق) في (فضاءات اللغة) و(الغوص) في (أعماق المعاني) لأجل ألا يغلق (أبواب التواصل) بينه وبين (القارئ/ المتلقي)؟

- وهل يُضحِّي (المبدع) (بِمَعانٍ غريبة) و(ألفاظٍ موحية) يرى أنها تعلي من (القيمة الفنية) لنصه من أجل عيني (القارئ/ المتلقي) الذي يُوجَّه إليه هذا (النص)؟

- أم أنه لا بد أن يضع نصب عينيه (الإبداع) و(الإمتاع) فحسب حتى لو كان يتوقَّع أنَّ (القارئ/ المتلقي) ربما (لا يفهم) المراد ولا يستطيع (تلقي الفكرة)؟

- وهل تقف مُهمَّة (المبدع) في (خطابه) على (ابتكار المعاني) و(إبداع الرؤية) دون أن يَحسِب ل(القارئ/ المتلقي) - وهو الذي يستقبل هذا (الخطاب) - أي حساب؟

- وهل يُفترض ب(المبدع) أن يهتمَّ بتألق (النص) ومحاولة إعلاء (قيمته الفنية) للوصول به إلى أرفع مراتب (الأدبية) و(الفنية) حتى لو كان تحقيق هذا الهدف سيضطره إلى (الغموض) و(التعقيد) ويدفعه إلى سلوك مسالك (الإغراب) مما قد يؤدي إلى عدم وصول (الرؤية) واضحة في ذهن (القارئ/ المتلقي)؟

- أم أنَّ (القارئ/ المتلقي) يَجب ألا يقف مكتوف الأيدي هو الآخر دون أن (يبذل جهداً) للوصول إلى (المعنى)؟

- وهل يُفترض أن يُحَرِّكَ (القارئ/ المتلقي) (فِكره) و(عقله) لكي يتلقَّف (الرؤية) ويُمسِك ب(الفكرة)؟

- وهل ينبغي على (القارئ/ المتلقي) أن يُعاني في إجهاد (فِكرهِ)، ويحاول أن يقترب من (النص) بكل أسراره وجمالياته؛ لكي (يصل) إلى بُغيته، و(يَحصل) على مراده؟

- أم أنَّ الأصل في القضية ألا يفعل شيئاً من ذلك؛ لأنه هو (مستقبل الخطاب)؛ لذا فليس عليه أن يألو جهداً في (مقاربته)، وليس لزاماً عليه أن يُتعب نفسه في محاولة (الوصول) إلى أبعاده ومضامينه؟

- وهل تنحصر مهمة (القارئ/ المتلقي) في (قراءة) (الخطاب) و(تلقيه) دون أن (يرتقي) إلى مستوى (النص) الذي يحمله، ودون أن (يتأهل) (لاستقباله) بالأدوات المعرفية من (ثقافة) و(خبرة) و(ذائقة)؟

- وهل يستقبل (القارئ/ المتلقي) (الخطاب الأدبي) مستشعراً أنَّ (المبدع) لا بد أن يكون قد استحضره أثناء العملية الإبداعية؛ وبالتالي هو يفترض أن يتلقى هذا الخطاب - وفق هذا الشعور - بكل يسر وسهولة دون أن يدخل نفسه في متاهات التفكير والتأمل؟

إنَّ هذه الأسئلة وغيرها تُجسِّد (صعوبة) قضية واحدة من قضايا (التلقي) الشائكة، وتكشف للمتأمل عن المدى الذي وصلت إليه هذه القضية في (التعقيد)؛ لأنَّ الحكم لصالح (المبدع) والقول بأنه لا ينبغي عليه أن يتنازل عن (الارتقاء) بنصه إلى أعلى درجات (الفنية) والإتقان ربما (يلغي) (استقبال) (القارئ/ المتلقي) لإبداعه الذي كُتب في الأصل له وأُنشئ من أجله، والحكم لصالح (القارئ/ المتلقي) والذهاب إلى أنه يُفترض أن يصله (الخطاب) واضحاً دون تعقيد أو إبهام بوصفه (المستقبل) الأول لهذا (الخطاب) ربما يؤدي إلى وقوع (المبدع) في مآزق (السطحية) و(الابتذال)، و(الوضوح الصارخ) الذي لا يليق ب(لغة الأدب)، كلُّ ذلك طمعاً في إرضاء (القارئ/ المتلقي) والاطمئنان على وصول (الرؤية) إليه واضحة دون لبس أو غموض، وإلا فما الفائدة إذن من (مُمارسة الإبداع) ما دامت أبواب (التواصل) بين (الطرفين) ستكون مُغلقة؟

إنَّ هذه (القضية) وأمثالها من القضايا النقدية الشائكة لا يمكن أن يتناولها ناقد في مساحة ضيقة كهذه، بل تحتاج إلى (دراسة) مستقلة متعمقة تكشف عن جميع (ملابساتها)، وتحاول أن تقدم صورة كاملة عن أسبابها ومسبباتها، والقضايا التي ربما (تقاطعت) معها في بعض مسائلها، والقضايا الجزئية التي نتجت منها، كما لا بد أن تهتم الدراسة بتقديم الصورة الحقيقية لهذه القضية مسلطة الضوء على (المرجعية الفكرية) التي اتخذتها أرضية لها، وتحاول إزاء كل ذلك إبراز (النموذج) الأمثل للتعامل معها والوصول إلى (رؤية) واضحة فيما يتعلق بالحلول التي يُمكن أن تسهم في جلائها وبيانها وتقريب وجهات النظر فيها، والحصول بعد هذا على (منهج) واضح المعالم - حين (مقاربتها) - يرضي جميع الأطراف، ويعطي كل ذي حق حقه.

والذي يُمكن أن يُقال هنا أنَّ كلاً من (المبدع) و(المتلقي) (شريكٌ) أساس و(عضوٌ) فعَّال، سواء في (العملية الإبداعية) أو (الممارسة النقدية)، وهما يَمتلكان الأهمية نفسها في هذه (الشراكة)، فلولا (المبدع) ما أُنشئ (الخطاب)، ولولا (المتلقي) ما خرج (النص) إلى حيِّز الوجود؛ لذا فإنَّ مراعاة كلِّ واحدٍ منهما أمرٌ لا بُدَّ منه، وظُلمُ أحدهما على حساب الآخر لا شكَّ أنه سيؤدي إلى (خلل) في (العملية الإبداعية) و(إشكال) في (الممارسة النقدية)، وهذا يتطلب من (الناقد) أن يتنبه إلى هذا الأمر جيداً حين يريد (مقاربة) هذه القضية النقدية، وأن يحرص على معرفة (وظيفة) كل طرف من هذين الطرفين وما يُمكن أن يُقدِّمه كلُّ واحدٍ منهما لإنجاح (الممارسة الإبداعية)، وإبقاء أبواب (التواصل) مشرعة بينهما.

إنَّ (المبدع) حين يشرع في (الممارسة الإبداعية) يواجِه أمامَه (مُعضلةً) كبرى تتمثَّلُ في مدى قدرته على (الجمع) بين أمرين (متناقضين) - (أو يبدوان كالمتناقضين) - الأول: (الارتقاء) بلغته وأساليبه إلى أعلى مستويات (الفنية) من خلال الاعتماد على خاصية (الانزياح) أو (العدول) في (لغة الأدب)، ومحاولة (إنتاج) (خطاب) يَحملُ (دلالاتٍ مبتكرة) و(معاني جديدة مدهشة)، كل ذلك من أجل تحقيق (الأدبية) في لغة (النص) و(الفنية) في شكل (الخطاب)، أما الأمر الثاني فهو (الإبقاء) على أبواب (التواصل) بينه وبين المتلقي مُشرَعة مفتوحة على مصراعيها، و(تَجنُّبُ) كُلِّ ما من شأنه أن يكون سبباً في (إغلاق) هذه الأبواب، أو يتسبَّب في خلق نوعٍ من (الضبابية) و(العتمة) بين (القارئ) و(الدلالة)، وهذا الشعور لا بد أن يكون حاضراً لديه أثناء (الممارسة الإبداعية)؛ لأنَّ عدم حضوره يعني إهمال (المتلقي) الذي تُمارس هذه (العملية) من أجله؛ مما يؤدي إلى (عبثية) في (إنتاج الخطاب) لانتفاء وجود أحد ركني (العملية) التي لا تتمُّ ولن تتمَّ دونه.

الرياض omar1401@gmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة