Culture Magazine Thursday  27/05/2010 G Issue 312
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الآخر 1431   العدد  312
 
التراث الإنساني قوة دافعة للارتقاء
د. فالح شبيب العجمي

فيما طرحته النيويورك تايمز مؤخراً - من تحليل لأثر الثقافات المتراكمة من تراث الإنسانية في نزوع هذه التجمعات البشرية نحو مرتبة أعلى بفضل هذه القوة الدافعة - يتضمن الجدة، ويدعو إلى الدهشة. فكون الإنسان قد حقق خلال 20000 سنة مضت خطوات جوهرية في مراحل تطوير نفسه، لم يكن ذلك خافياً على المؤرخين والأنثروبولوجيين؛ لكن الجديد في الأمر هو كون تراثه الذي اضطلع دوماً بدفع الإنسان - حسبما يُعتقد - نحو الاتجاه الآخر، يُظن الآن بأنه عامل التطوير الأقوى.

وهذا التراث الإنساني المقصود هو السلوك المتعلَم، بما في ذلك التكنولوجيا. فعلماء الأحياء يرون في عناصره وسائل حماية من القوى الانتقائية الأخرى الضاغطة؛ فتكيّف الإنسان من خلال الملابس قد ساعده على مقاومة البرد القاتل، واستصلاح الأراضي الزراعية مكّنه من الحصول على فائض يستعين به في أوقات المجاعة والظروف الصعبة. بل إن بعض الثقافات الغذائية، مثل أنظمة الحمية المختلفة المعاصرة، تؤدي إلى تكوين عوامل انتقاء ضاغطة في المجتمعات التي تستخدمها بشكل واسع، ولفترات زمنية طويلة. كما أثبت ذلك كيفن لاند من جامعة سانت أندروز في أسكتلندا في بحثه المنشور في شهر فبراير (2010) بمجلة Nature Reviews Genetics؛ أي أن جينات التراث (الثقافة الممتدة لعقود) ضمن عوامل الارتقاء الجيني، وربما تكون العنصر المهيمن في مسار التطور البشري.

وكانت براهين كل من بويد (من جامعة كاليفورنيا/ لوس أنجلوس) وريتشرسون (من جامعة كاليفورنيا/ دافيس) في تأسيس هذا الاتجاه قبل عقود، بأن التراث يمثل القوة الانتقائية الدافعة الأقوى، ما توصلا إليه من أن تواجد اللكتوز في أجساد كثير من الناس في شمال أوروبا يعود إلى أن أغلب الناس هناك يقصون الجين (المورّث) المسؤول عن هضم اللكتوز (السكر المتلبن) في الحليب بعد فطامهم مباشرة. وخلافاً لشعوب شمال أوروبا الحالية، فإن أسلافهم الذين انحدروا من مربي قطعان الماشية القدامى؛ حيث كانت هي المهنة المزدهرة في المنطقة قبل 6000 عام، لم يكونوا يقصون ذلك المورّث، مما جعله فاعلاً حتى في مرحلة البلوغ.

وإذا نقلنا قياس خريطة الجينيوم البشري من تلك المورثات البيولوجية البحتة إلى جينات السلوك المتعلَمة الأخرى، مثل إدمان الإرهاب (بشتى أنواعه)، أو استساغة الاستبداد، وقبول تجاهل قيم صانعة لكرامة الإنسان وأخلاقه، فما الذي نجده في هذا المجال لدى فئات تعودت على تعطيل جينات كانت عاملة في أجيال سابقة؟

فحسبما يتحدث القائمون على إصلاح من تشربوا الإرهاب خلال سنوات طويلة؛ من تعليم وتقبّل وممارسة، أنهم يأنفون من اتباع سلوك مغاير، حتى وإن قلّت قناعاتهم المنطقية بجدوى تلك المنظومة، أو سلامة ترابط حلقاتها. ويصف أحد الزملاء هذا السلوك المتعلَم على مدى حياة جيل كامل، بأن رواسبه في مراكز تحليل المعلومات واستدعاء الخبرات في دماغ الإنسان بأوصاف لا تختلف كثيراً عن ذلك اللكتوز المتلبن من فرط إهمال الإنسان في شمال أوروبا للجين المسؤول عن هضمه.

أما استساغة الاستبداد، فهي قيمة تنشأ عندما يتحول الخضوع إلى عادة؛ وهي – بالطبع – في بنيتها لا تبتعد عن تحول الجين الفاعل إلى خامل. فتدجين الأخلاق، والبحث عن المصالح مرحلة أولى، يتلوها مخاتلة الذات للتغلب على المقاومة الداخلية، ثم دفن الكرامة، وتبني مقولات المستبد دون إحساس بإهانة تراث القيم الإنسانية.

وهذا ما يدعو كلا من الفئتين إلى مناوأة مبادئ العقد الاجتماعي الذي ارتضته كثير من المجتمعات البشرية المؤمنة بتطور كل مورثاتها وبقائها بفاعلية كاملة؛ مما يخلق الاستقرار، وينشئ أجيالاً مطمئنة إلى مستقبلها، وإلى استمرار خلق تلك الجينات.

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة