Culture Magazine Thursday  27/05/2010 G Issue 312
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الآخر 1431   العدد  312
 
أمام مرآة «محمد العلي «
قصائد الهجرة الثالثة
علي الدميني

يعيننا الديوان، وقد حفل بأمكنة كتابة وتواريخ قصائده، على الانتباه إلى عودة الشاعر إلى جنّة الشعر وجحيمه في «هجرته الثالثة»، حيث أنتج حوالي أربعين نصاً في عشرة أعوام، بينما لم يكتب (أو ينشر) إلا ثلاثين نصاً خلال هجرته الثانية إلى الدمام، والتي امتدت إلى ثلاثين عاماً.

لماذا؟

لأسباب سنتأملها لاحقاًً.

وقد استعار معدا الديوان للطبع الأستاذان « محمد الشقاق وحمزة الشقاق» عنوانه « لا ماء في الماء « من عنوان قصيدة سابقة للشاعر، وبموافقته، حيث أثبتا في مطلع الديوان تقدمة قصيرة كتبها الشاعر.

وبالرغم مما ينطوي عليه «العنوان» من مشاعر الألم والانكسار، إلا أنه كان يعبر في نصه الأول عن حالة جدلية مفتوحة ولم تغلق بعد، بين جراح الألم وتبديات الأمل، مما يمكن تلمسه في الجمل الشعرية التالية:

« بيني وبينك هذا الضباب الذي يمنح الحلم أشواقه

يمنح الوهم أجنحة الماء».

وقوله: « وها أنت فيه غويٌ

كنافورة من نخيل «.

وكذلك ما ورد في خاتمة النص الراقصة:

« وأرقص ..أرقص والكأس،

والذكريات الحييات

عن أمس، أو عن غدٍ سوف يأتي

وبيني وبينك هذا الضباب الجميل «. (الديوان – ص 52)

ولذا فإن عنوان « لا ماء في الماء « قد حمل دلالتين متمايزتين داخل الديوان، نجد تمظهرات أولاهما في مرحلة الهجرة الثانية، حيث كان «الماء « معادلاً موضوعياً «للمعنى « الدال على «الأمل»، والذي مضى شاعرنا، كأحد أبرز شعراء التجربة، في العمل على بلوغه، وخاض من أجله مخاضات التحولات والصراعات والآمال الكبرى، فبقي – رغم الصعاب- يلوّح في الآفاق.

أما الدلالة الثانية المختلفة فستبرز في مرحلة « الهجرة الثالثة»، حين يغدو ذلك «العنوان» تعبيراً عن غياب «المعنى « أو موته، بدءاً من قصيدة « لقد ضعت» التي يؤرخها الديوان كأولى القصائد التي كتبها في بيروت عام 1998م، فنرى منذ الوهلة الأولى أن عنوان النص - كبؤرة دلالية شاملة - قد انزاح عما ألفناه فيه من دلالات إيحائية مواربة، متجهاً صوب المباشرة الجارحة، بينما ذهب متن هذا النص (وسواه ) في تجلية دلالات غياب «الماء عن الماء « أو موته فيه!

وقد اخترت المحاور التالية لمقاربة قصائد هذه المرحلة:

صراع القرين (الشعر في الشعر )

شعرية الحزن وتراجيديته

قصائد (المرأة / الجسد)

قصائد النثر.

وقبل ذلك سأجمل، في عجالة، بعض سمات تلك التجربة دلالياً وجماليا، مع الإشارة إلى ما تفترق به عن مرحلتها السابقة من ملامح.

محمد العلي غالباً ما يتبدى لنا وكأنه قد ولد شاعراً ناضجاً، ولهذا فإنه لن يفاجئنا في قصائد الهجرة الثالثة، باجتراح المختلف، ولكنه سيمضي إلى تعميق مجرى تجربة شعرية عرفناه بها، من خلال ما يمتلكه من حساسية لغوية عالية تقوم بعملية انزياح خلاق للمفردة عن قاموسها وعادات تداولها اليومية، وكذلك عبر مرجعية معرفة واسعة وقادرة على تشكيل بؤر التوتر وتساؤلاته المحرضة على قراءة جمالية النص وما يقبع خلفه من رؤى ودلالات.

ولهذا فإن تجربته المتميزة تتجاوز وباستمرار عادة ألفنا لها أو اعتيادنا عليها، لأن شاعرها ما زال متمكناً من مهاراته الفنية والثقافية القادرة على إصابتنا، في جل قصائده، بحالات من الدهشة والاستمتاع، بما تحمله من مكامن إبداع جديدة.

ويمكن النظر إلى تلك الإمكانات عبر المحورين التاليين:

خصوصية اللغة وكثافة التعبير:

وحيث « لا بد أن يصبح للشاعر أو لأي كاتب كبير لغة خاصة، لغة مختلفة متفردة وجديدة محددة، لا تتشاكل مع غيرها فضلاً أن تحاكيه» (شاعر النص وشاعر التجربة – د.معجب الزهراني – موقع جامعة الملك سعود)، فإنه يمكننا القول بأن اللغة لدى شاعرنا هي من ذلك الطراز المختلف والمتفرد، حين تصبح «كوناً « مفتوحاً للابتكار والخلق والإدهاش، ومختبراً لتشكيل رؤية مختلفة وأفق مغاير، لا يتحول النص فيها إلى وسيلة تواصلية مجانية تحمل مكونات ثقافية أو مواقف شعارية مباشرة، وإنما إلى حالة جمالية ودلالية جديدة، لا تعدو الرؤية عن أن تكون محرضاً يتسرب بشفافية هامسة في رموز الشاعر وكثافة صوره الشعرية، الجزئية والكلية، حيث يشكلها عبر أسلوب خاص يصفه الشاعر بأنه « يتسم بالإيجاز الواضح والاختزال غير المخلّ، والعمل على ما اصطلح عليه بترميز اللغة،.....أو شحن الجمل بدلالات ضمنية أكثر من الدلالات الصريحة. « (العلي شاعرا ومفكرا – ص 632).

وقد احتفظت قصائد «المرحلة الثالثة» بكل تلك الخصائص، بل ومضت في تعميق فاعلية رسم الصورة الشعرية عبر تجادل حالتي تخليق: دهشة عيون الطفولة بإزاء بهاء تأمل الحكيم الرائي في نفس الآن، حتى في أقسى حرائق الشاعر وانكساراته.. وسنرى أنه لم يعد يكتب القصيدة التركيبية ذات البعد الملحمي، وإنما يندمج في حالة شديدة التركيز على / والتعبير عن محرض جمالي، وحيد وخاص ومختلف، في كل نص.

ولذلك فإن غالبية نصوصه لم تتجاوز أسطرها 37 سطراً، ولم تتعد جملها الشعرية سبع جمل، سوى في قصيدتين بدا الشاعر فيهما وقد تفاعل مع وطأة الألم، فذهب لاستعادة أنموذجه التركيبي الأكثر وفاءً للتعبير عن حمولات التجربة المتشظية،، سيما وأنه كتب تلك القصيدتين في الدمام خلال رحلة الشتاء !

قلق التجربة، والخروج على

« النموذج»:

يمكن توصيف رؤية «العلي « بالبنية المعرفية والجمالية المتجددة التي تنتج تحولاتها، فكراً وإبداعاً، نظراً إلى ما ينطوي عليه من طبيعة القلق الخلاق، والتي يأخذ فيها الشكّ والسؤال والمراجعة الدائمة موقعه الجذري حيال زحزحة المسلمات والمفاهيم والقناعات والنماذج الثقافية القارة من سبات لغتها اليقينية، إلى ممكنات الحوار والجدل والتجاوز، وذلك من خلال تحريض الذات لأخذ موقعها في قلب حركة سيرورة التاريخ البشري المتقدم إلى الأفضل، لتؤدي وظيفة فعل نقدي مزدوج: يطال الذات ومكونات نماذجها العليا (القديمة والمستحدثة)، مثلما يعمل على نقد الواقع الثقافي ومركباته المختلفة وأوهامه المستقرة، من أجل «تفكيك» سطوة النموذج:

ونشير هنا إلى بعض تجليات ذلك الاشتغال:

أ – في حقل الكتابة الثقافية:

في اشتغالات مقالاته ودراساته، يقارب سلطة « النموذج المضاد» بأدوات معرفية وعلمية، تعمل على تفكيك مسلمات «النموذج» مستعينة على ذلك بمتون ومواقف متعددة من داخل سياقه ومن خارجه، لتقوم بوظيفة المحاورة والتقويض، دون أن يغدو صوته أو حضوره « أنموذجاً» عدائياً أو إلغائياً لتلك السلطة المضادة.

كما أنه من الجهة المقابلة يضع مسافة بينه وبين « أنموذجه» الذي يعمل على تنميته في الواقع الثقافي والاجتماعي أيضاً، فيعرضه أمامنا وفق رؤية تحليلية وعلمية تتفحص مرتكزاته، وتشكك في أحكامه المطلقة، وتضعه في منطقة قريبة من الاحتمال لا اليقين المطلق، فينأى بحضور قناعاته المحددة عن أن تكون «أنموذجا» دعائياً أو تبشيرياً محضاً، حتى ليبدو أنه ضد سطوة «أنموذج « قناعاته الذاتية نفسها!

ب – في حقل التجربة الشعرية:

سنلمح في تجربته الشعرية خروجه المبكر من سطوة «أنموذج» أعلام الشعر العربي،بما فيهم «المتنبي»، الذي استحضر تجربته الفنية (البحر، والروي، والقافية ) في قصيدة «غارة الفجر»، ليؤكد من خلال ذلك النص قدرته على الافتراق عن «أنموذج « صاحب تلك العباءة الضخمة.

وحين كتب قصيدة « التفعيلة» فسنراه وقد تجاوز تأثره بتجربة السياب وبعض الرواد الآخرين في فترة قصيرة، منذ قصيدته «سفر» المكتوبة في عام 67م، لذا استبعد الشاعر بعض تلك النصوص التي ظهر عليها التأثر بقاموس السياب وأسلوبيته في بناء الجملة، ومنها أولى قصائده في حقل شعر التفعيلة المعنونة ب « في الغابة»، مثلما استبعد - لأسباب لا نعرفها - قصائد متميزة أخرى لا علاقة لها بتلك المرحلة مثل « غابة الصدأ»، و»غوران» و»شو بدك» وغيرها.

ولسوف نرى أيضاً في تجاربه القليلة لكتابة قصيدة النثر محاولات لافتة لإبداع نصه الخاص الذي عبرت عنه بعض نصوصها مثل « لولاك»، بعيداً عن محمولات تراث روادها أو رموزها المعاصرة!

غير أننا سنرى ما هو أبعد من كل ذلك في قصائد هذه المرحلة، حين نتأمل تحرر تجربته الشعرية من أي أثر «لأنموذج « الرؤية والموقف الذي عنيت به كتاباته ودراساته خلال نفس المرحلة، حيث أصبحت الذات الشاعرة هنا، حرة طليقة من كل قيد، فباحت بصبواتها، و»ولدنتها»، وبحزنها وهزائمها أيضاً!

لكل ذلك سنقف أمام تجربة «العلي» الضخمة، والحافلة بتفردها... وبما نالته من إعجاب المتابعين لها، من النقاد والشعراء والقراء، لنتساءل: لماذا يغيب تأثيرها المباشر «كأنموذج» عن ساحتنا الشعرية؟

والإجابة على ذلك - عندي - لن تتوقف عند عزوفه عن نشر مجموعاته الشعرية وعدم وصولها إلى القارئ وحسب، ولكنها ستذهب إلى ما هو أعمق من ذلك، حيث أرى أن غنى تلك التجربة وفرادتها، معرفياً وجمالياً وممارسة حياتية، ستبدو دائماً، عصية على التمثل أو الاقتداء أو محاولات الاستنساخ من أي شاعر آخر!

لا ماء في الماء

شعر: محمد العلي

ما الذي سوف يبقى

إذا رحت أنزع عنك الأساطير

أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل؟

ماذا سأصنع بالأرق العذب

بالجارحات الأنيقات

أما لقيتك دون الضباب الجميل؟!

كما أنت، كن لي كما أنت

معتكراً غارقاً في السفوح البعيدة

مختلطاً بالثمار

ومكتئباً كالعيون الوحيدة

بيني وبينك هذا الضباب الذي يمنح الحلم أشواقه

يمنح الوهم أجنحة الماء

ها أنت فيه غويٌّ كنافورة من نخيل.

يقولون: كنت هنا منذ أول فجر

و آباؤنا بذروا فيك أحلامهم

بذرونا - ولمّا نزل في الأماني – على الموج

و كنا حقول الهوى فوق زرقتك البكر

كنا الزغاريد تشعلها الفاطمات إذا ما أطلوا مع السحب:

(دانة ..دانة..لا دانة ..)

ها نحن جئنا

و لسنا نريد اللآلئ

لسنا نريد الذي لم يزل نازحاً في امتدادك

إنا نريد الوجوه التي كان آباؤنا يبذرون على الموجِ..

أسماءنا

أن نسير على الأرض دون انحناء

و ها أنت كالحزن تنداح

تنداح دون انتهاء ..

وبيني وبينك هذا الضباب الجميل .

: ترمّدت الشهب الحلميّة

يلبس عري الصخور هو الآن

لا ماء في الماء

أوقفني مرة ً نورس ٌ كان في البعد،

أسمع من ريشه المتقاطر لحناً

و أخيلةً .. تغسل الموت من كل أوهامنا المشرئبة بالخوف

لكنه ذاب في الملح

أعدو قروناً على السِّيف

أسأل كل الشموس التي اختبأت فيه

كل الحرارات

كل الرياح .. المرايا .. المراكب..

سرتِ الى أين

يا زرقةً علمتنا الأناشيد؟!

كان الأصيل شهياً

كفهدين ما التفتا بعد

خامرني غزلٌ مثقلٌ بالعصافير

لكنها لم تجيء

زرقةٌ علمتنا الأناشيد

أطفأتُ قلبي ..

: جميلٌ سهاد المحبين

حين يكون الظلام خليجاً

و تأوي إلى الأرض أنهارها

ثم ينأى الخليج الذي يحمل القلب

ينأى إلى حيث يبقى الضباب: الحداء الدليل..

هنالك أقتل هذا الكمين المخاتل

أو ما يسمون: شعراً

و أرقص .. أرقص .. والكأس،

و الذكرياتِ الحييّات

عن أمس، أو عن غدٍ سوف يأتي

و بيني وبينك هذا الضباب الجميل.

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة