Culture Magazine Thursday  28/01/2010 G Issue 296
فضاءات
الخميس 13 ,صفر 1431   العدد  296
 
معجم موازين اللغة
نَقْدُ الاتِّجاهِ التجديديِّ في هذا العَصْر
صالح اللحيدان

اللغة كما العلم كلاهما - وأيم الحق - يحتاج إلى النقد، وما لم يكن ذلك فإنه أمر مزر في كليهما معاً. ولعل ما نراه اليوم من تردٍّ في بحث اللغة ودراسة النحو وطرحهما طرحاً صحيحاً إنما نجم ذلك - ولا أعدو الحق - عن أن الذين يكتبون عنهما في ناحية أو في نواح يكتبون على حالة عجلة دون تصور تام ومحيط لما بين أيديهم مما يجب الكتابة عنه، ناهيك عن قصور بيِّن في التناول. ولعلك حين تُبيّن هذا وتشخّص الداء وتُبيّن العوار لعلك تُستعدى، وهذا الاستعداء بحد ذاته أمر جبار في حماية هدم اللغة، ولعل من يستعديك يجرُّ معه آخر وثانياً لقدحك.

لكن.. اليوم.. تبادر إلى ذهني حقيقة لا أدري.. لعلها بسبب سطوها وتمكنها وعمومية انتشارها، لعلها سبب ثان وثالث في تقهقر اللغة والنحو تقهقراً لا جرم هو مع الأيام يجعلها من التراث الذي قد كان. إنَّ هذه الحقيقة سبب عال لموجة رداءة لغة قومي في أحاديثهم، أخبارهم، كتاباتهم، تحقيقاتهم، تخريجاتهم، وتنظيرهم...إلخ.

إنَّ هذه الحقيقة ماثلة أمامي كأبان وأجأ وسلمى طيء وسروات الحجاز، لكن لضعف الآلة وفقدان الموهبة (استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير)، وهذا ما جرَّ بعض الكتبة إلى الطرح الإنشائي والخطاب المباشر بدعوى التجديد أو بدعوى التحديث ومستجدات المفردات، وهذا أحسبه مرضاً لا يدركه صاحبه، بل لعله يحقد على مَنْ يوضح له خطأ مساره واعوجاج مسلكه وضعف أخذه وضآلة طرحه وقلة تناوله.

إنَّ أمراً واحداً يُعبِّر عن هذه الحقيقة، أجزم الجزم كله - لا بعضه - بأنه سوف يتضح منه أمر مذهل لدى العقلاء والمنصفين في الأخذ كما هم منصفون في: العطاء.. والبذل.

لقد جرت العادة في الفطر والعقول السليمة أن إدراك الحقائق على ما هي عليه، دون تعصب أو تخوف أو تردد أو ضعف ثقة، فرق بين العرض.. والمرض. وما أصاب العلم، واللغة، والنحو، وقُلْ التحقيق، والتنظير، والطرح السياسي، إنما هو عرض وليس مرضاً. وأغلب الظن أن روح العجلة والتعصب للرأي وحب الوصول إلى النتيجة مباشرة وإقحام النفس فيما ليس من شأن الكاتب مثلاً.. هذا كله هو العرض، ومن طبيعة العرض بإذن الله تعالى أن يدوم كسوسة النخلة ودودة الثمار الفتاكة؛ فأنت لا تدري حتى تسقط النخلة وتعطب الثمار كلها. إنَّ العرض خطر، حتى أنه ليجر الكاتب والباحث والمحقق إلى تصديق النفس أنهم مع الحق.

ومن صفات العرض أنه يعمي صاحبه السائر في سلبيه عن المرض، وهذا مثله مثل أورام السرطان التي قد يمر بها عشرون عاماً ثم تبين أنها مرض خطير، مثله مثل النفاق تماماً.

إنَّ المرض الحاصل هو: (غياب النقد الموهوب)، وكل ما نقرأ ونطالع ونتابع في الملاحق والمجلات المحكمة والدوريات عن (النقد) إنما ذلك: دراسات للأعمال الأدبية والثقافية واللغوية والنحوية والبحوث العلمية، وليس من النقد في شيء.

جرِّب مرة واحدة فقط أن تقرأ بتأمل جاد مركّز مع حضور وعي مستقل وتجرد ونباهة جادة.. جرب فقط أن تقرأ لهذا السيل الجارف من النقد، وسوف تجد أنك أمام عرض فقط، ودراسة فقط، وانتصار للنفس فقط.. ولو أعدت القراءة بمنأى عن العجلة حتى لما تكتب أنت، وبُبعد عن حب الذات وفرض الرأي، لوجدتك تنعى النقد وتبكي عليه.

إذاً الحال أننا نفتقد النقد ونسبح الآن في أعمال ليست من النقد في شيء، ولم يزل هناك من يجر نفسه جراً ويدفعها دفعاً ويسير بها سرا حتى لعله يزعم التجديد في أطروحات لو بعث لها سيبويه أو الكسائي أو المبرد، ولو بعث لها البخاري أو مسلم أو حماد بن زيد أو يزيد بن هارون، ولو بعث لها الكرماني أو ابن فرحون أو الذهبي، لو بُعثوا لمثل ذلك لقضوا دهراً ينظرونها ويحققونها. لعل تلك الأطروحة أو الأطروحات، التي يكتبها (اليوم) صاحبها، يكتبها وهو جالس يتناول إفطار الصباح أو شاي المغرب.

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة