Culture Magazine Thursday  29/04/2010 G Issue 308
فضاءات
الخميس 15 ,جمادى الاولى 1431   العدد  308
 
العقل المعرفي ما بين البازعي والصفراني -2-
سهام القحطاني

عندما نقرأ كتاب «نحو مجتمع المعرفة» للدكتور محمد الصفراني ستلاحظ أنه يتجاوز الإشكالية التنظيرية لماهية المفهوم أو بصورة أقرب لطريقة الكتاب يتجاوز مراحل التدرّج في إنتاج تعريف المعرفة عكس طريقة الدكتور البازعي في «قلق المعرفة»، كما أن الصفراني يبحث في العقل المعرفي من خلال تفكيك مفهوم المعرفة؛ أي الانتقال من الكل إلى الجزء، أو ما يسمى بالجدل الهابط، وهذا التقسيم يحمل داخله نظام توزيع العلاقة بين أطراف ووظائف التمثيل اللغوي ومركزها الأساسي «المفهوم».

فالمفهوم يرتبط بعدة علاقات تبدأ بالشيء الظاهر العيني أو المعقول، ثم علاقته بخصائص الظاهر والمعقول، علاقته بمدى التطابق بين الحاصل وماهيته، وتلك العلاقات الثلاث تقوم على الإدراك والإحساس والأثر.

في حين أن البازعي يبحث في العقل المعرفي من خلال «تكوين» مفهوم المعرفة؛ أي الانتقال من الجزء إلى الكل أو ما يسمى بالجدل الصاعد. الذي يبدأ بكل جزء لا يمكن أن يُشتق منه ويتدرج وفق الجدل الصاعد للوصول إلى الماهية التي تُنتج كل صورة.

وهذا الاختلاف بينهما أحسبه مقبولا وفق هدف كل منهما، فالبازعي يبحث في إشكالية الانبنائية وعلاقاتها. والصفراني يبحث إشكالية الإجرائية وعلاقاتها، والانبناء دلالة كمية في حين أن الإجرائية دلالة كيفية، أو كما يصفهما «كانط» الأولى تسعى «لبناء المفاهيم» والثانية تسعى «للتفحص في المفاهيم»، كما أن كلتيهما تعتمد على محاكمة العقل النسقي.

يبدأ الصفراني بتعريف المعرفة الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا بأنها «معلومات تستخدم من أجل اتخاذ قرارات أفضل تنتهي إلى اتخاذ إجراءات عقلانية» -نحو مجتمع المعرفة،15-، والتعريف الصادر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2003 بأن المعرفة تتكون من»البيانات والمعلومات والإرشادات والأفكار أو مجمل البنى الرمزية التي يحملها الإنسان أو يمتلكها المجتمع في سياق دلالي وتاريخي محدد وتوجه السلوك البشري فرديا ومؤسسيا في مجالات النشاط الإنساني كافة» -السابق ص16-.

والتعريفان السابقان لا يحققان وضوح المفهوم التنظيري وتعقيده لأنهما مفهومان وظيفيان وليسا بمفهومين ميتافيزيقيين.

ونستطيع من خلال المفهومين اللذين وردا في كتاب الصفراني أن نؤلف مفهوما وظيفيا للمعرفة يتكون من شقين؛ الشق الأول نوعي؛ نوع المادة اللحميّة للمعرفة؛ أي مجموعة «المعلومات والبيانات والإرشادات والأفكار» التي تؤسس السجل المعرفي للفرد.

والشق الثاني كيفي، فالعقل المعرفي للفرد وللمجتمع لا يتكون على أساس أنه مجموعة من المعلومات والبيانات والإرشادات والأفكار بل يتكون وفق صفاته الاعتبارية القائمة على تحويل السجل المعرفي للمجتمع إلى موروث ونظام ودستور.

أو كما يعبر عنهما الصفراني ووفق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2003م، «الثروة المعرفية ورأس المال المعرفي، فالثروة المعرفية أو السجل المعرفي هي «مجمل الأصول المعرفية أو جماع المعارف أو البنى الرمزية في المجتمع» -السابق،16-، ورأس المال المعرفي أو العقل المعرفي هو»ذلك القسم من الثروة المعرفية الذي يستخدم في إنتاج معارف جديدة ويؤدي نتيجة لذلك إلى نمو الثروة المعرفية» -السابق،16-

وبذلك فوظيفة المعرفة هي تأسيس السجل المعرفي للفرد وللمجتمع وإنتاج العقل المعرفي للفرد والمجتمع.

والمسلّمة السابقة ليست خلاصة للأزمة وخلاص لها بل هي بدايتها ومسببتها.

ما أقصده أن كلاً من البازعي في كتابه «قلق المعرفة» والصفراني في كتابه «نحو مجتمع المعرفة» يتحدثان عن إمكانات تحول العقل المعرفي التقليدي إلى عقل معرفي مدني وتنمويّ وعولميّ يؤسس لمجتمع المعرفة والإشكاليات التي تعوق تحقق تلك الإمكانات، وتحول العقل المعرفي التقليدي إلى عقل معرفي مدني.

وبذلك سنلاحظ أن الكتابين يناقشان قضيتين، أولهما أزمة العقل المعرفي التقليدي، وثانيهما إشكاليات تحول العقل المعرفي التقليدي إلى عقل معرفي مدني يؤسس لمجتمع المعرفة.

ولا شك أن تحويل العقل المعرفي التقليدي إلى عقل معرفي مدني وتنموي يحتاج منا إلى تفكيك المنظومة النسقية للعقل المعرفي التقليدي وتجديد السجل المعرفي للفرد والمجتمع عبر عمليتين؛ عملية «المحو» لمجموع المعلومات والإرشادات والبيانات والأفكار القديمة، وعملية «إحلال» لمجموعة جديدة من المعلومات والبيانات والإرشادات والأفكار وبذلك يتم تجديد السجل المعرفي ووفق ذلك التجديد يتكون العقل المعرفي المدني والتنموي.

ولكن تنفيذ تلك الحلقة الإجرائية من التفكيك والتجديد والمحو والإحلال وإعادة تكوين العقل المعرفي وفق معايير مجتمع المعرفة أمر غير يسير بل يعتبر في الدول العربية بما فيهم السعودية أمرا في غاية الصعوبة؛ لأسباب عدة يناقشها كل من البازعي والصفراني وسأستعين بكتاب الدكتور إبراهيم التركي «دور العولمة في التحول التربوي» إذ إن الكتاب يشترك مع كتابي البازعي والصفراني في التركيز على إشكاليات عدم تنفيذ الحلقة الإجرائية لتحويل العقل المعرفي التقليدي إلى عقل معرفي مدني يؤسس لمجتمع المعرفة أو كما ورد في كتاب التركي «مجتمع المعلوماتية».

والمقصود بمجتمع المعرفة كما أورده الصفراني في كتابه وفق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي «ذلك المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد والمجتمع المدني والسياسة والحياة الخاصة وصولا لترقية الحالة الإنسانية باطراد» -نحو مجتمع المعرفة،18-

وبذلك فإن للعقل المعرفي التنموي والمدني ثلاث وظائف هي نشر المعرفة من خلال تشجيع «الحوار والإبداع والتعليم الذاتي وثقافة السؤال» -دور العولمة، إبراهيم التركي،56-.

وإنتاج المعرفة يحتاج إلى «وجود ثقافة معرفية متميزة في المجتمع تساندها وتشجعها وتحترم قدرات التفكير والإبداع والسؤال والتأمل والبحث» -السابق،56- وتوظيف المعرفة من خلال استثمار «البنية الأساسية» للعقل المعرفي، وهي وظائف تسعى إلى تشجيع نمو مجتمع المعرفة، في حين أن العقل المعرفي التقليدي يقوم بوظيفة المحافظة على الموروث المعرفي للمجتمع وتدعيم أنواع المعارف المماثلة للسجل المعرفي للمجتمع وإعاقة أي تجربة معرفية لا تتفق مع معايير السجل المعرفي لموروث المجتمع أو ما تسمى بإشكالية «التعقيد» والذي يصبح معها الاحتفاظ بحد معقول من ضرورة حضور العقل المعرفي التوافقي أو توافقية الوكالة العقلانية أمرا غير يسير في ذاته، لأن الجواب الدلالي يتشكل من خلال السلوك الإنساني الذي يُعبر بدوره عن الموقف الخاص لإيجاد توازن بين الفاعل الأدائي ومحتويات العالم المحيط بالفاعل «الموضوعات»، وهذا النزوع الذي يسهم في تحقيق التوازن بين الفاعل والموضوع يؤدي بدوره إلى تحقيق الموازنة من خلال استقرار مؤقت لحدود التأثير لعناصر التغير وحاصله.

وبذلك فكل توازن بهذا المقدار الوظيفي يحمل الكفاية اللازمة لبناء المفاهيم الذهنية للفاعل التي اكتسب مقدماتها من خلال علاقته بالعالم المحيط به.

وهكذا سنجد أنفسنا أمام مأزقين رئيسيين؛ مأزق ثقافي ومأزق تنموي، المأزق الأول يدفعنا للبحث في جدلية «الأنساق».

منذ البدء ارتبطت المعرفة بمفهوم الوجود وقيمته لا على مستوى الفقه السنني المجرد فقط بل وعلى مستوى العلاقات الإنسانية باطرادات تطور الفقه السننيّ، وبذلك أصبحت هناك موازيات بين قوانين الفقه السنني وقوانين الفقه النسقي وهي موازيات كانت تسهم في إنتاج وسائل تكيّف الإنسان مع محيطه أو إنتاج وسائل تُعين الإنسان على تطوير حياته، لكن عمليات الإنتاج المستمرة التي تعتمد على المحو الإحلال لم يكن تنفيذها سهلا في كل مكان وزمان فغالبا ما كانت تتعرض للرفض والمقاومة إما بدافع الدين وإما بدافع الأخلاق وإما بدافع العرف الاجتماعي وإما بدافع الخوف من التجديد أو المحافظة على «هوية» التجربة المعرفية للمجتمع.

وكل تلك الدوافع هي من إنتاج الحلقة النسقية للتجربة المعرفية التقليدية، لكن ما هدف الحلقة النسقية من إنتاج تلك الدوافع؟ تحقيق الشرطية الانتقائية لدائرة التأثر والتأثير بين العقول المعرفية المختلفة كما يذهب البازعي في قلق المعرفة» وهي شرطية تتطلبها طبيعة كل تجربة معرفية»وتكوينها وظروفها البيئية وعمقها التاريخي بموروثاته وطموحاته» -قلق المعرفة،166- وبذلك تصبح تلك الشرطية الانتقائية ليست مواجهة مضادة للانفتاح الحضاري بل هي كما يعتقد البازعي منفذة لمهام وظيفة النسق كونه «مرشدا ومنظما له سعيا للاستقلالية وحفاظا على التنوع والاختلاف» -السابق،166- فوظيفة النسق يعتمد عليها التحليل في تفكيك عناصر البنية النسقية واستنتاج خصائصها وتنظير قوانينها التي تتحكم في إلزامها بخصائص خاصة تُشكل فيما بعد نظام تلك العناصر ومستوى انتظامها وطريقة تركيبها ضمن النسق العام سواء على مستوى المرتبة أو مستوى الدرجة.

أما كيف تتكون الانتقائية كمؤسس للسجل المعرفي للمجتمع؟ فالأمر يعتمد أولا على خصائص البنية النسقية.

فالبنية النسقية هي مجموعة من العناصر المحددة والمؤَسسة وفق معايير دينية أو تاريخية أو أسطورية، وتلك البنية هي التي تنتج الأنظمة النسقية وبذلك فالبنية هي نظام نسقي يترابط الكل من خلالها، وهو ترابط يحولها إلى تبنيين أو مجموعة من الأنظمة والعلاقات التي ينبني على أساسها الموضوع.

والنظام النسقي عبارة عن مجموعة من العلاقات المتشابكة، وهذه العلاقات تقوم على نظام متناسق بين العناصر وعلاقاتها في المحيط الجزئي من ناحية وعلاقاتها ككل من خلال التحولات الخاصة.

فالبنية النسقية وفق ذلك هي نظام يتألف من مجموعة من العلاقات يرزمّها ثلاث خصائص هي «الكلية والتحولات والتنظيم الذاتي».

والبنية النسقية لا يمكن تطبيقها إلا إذا توفر لها شرطان:

الشرط الأول وجود علاقة بين العناصر التي نريد أن نشكل منها بنية أو نريد أن نحللها كبنية.

والشرط الثاني ضبط خصائص العلاقات التي نشكل من خلالها البنية أو نريد تحليل بنيتها؛ وهو ما يعني أن البنية لا تتعامل مع كل خصائص العلاقات بل مع مجموعة من خصائص توفر قيمة الكمية، لأن ضبط خصائص العلاقات من خلال العناصر يحافظ على جوهر البنية رغم ما يطرأ عليها من تعديل.

ويمكن استنباط خصائص البنية من خلال تصورين:

الأول التصور الوظيفي «جوهري واقعي» وهو علاقة البنية بالسياق؛ النظام والعلاقة.

والثاني التصور الفرضي الاستنباطي «عقلي» ويعتمد هذا التصور على طرح فرضية مستمدة من نظرية معينة لإقامة نظام من خلال تشكيل مجموعات وعلاقات.

وهذان التصوران يمثلان اتجاهي البنية النسقية؛ الاتجاه الأول هو النموذج العقلي وهو يتعلق بالمجموعات المكونة للعناصر الذهنية التي يتشكل من خلالها النظام العلائقي المُجسد لتصورات الواقع.

والاتجاه الثاني هو نموذج جوهري واقعي وهو يتعلق بالبنية النسقية كوسيط بين مجموعة العلاقات القائمة والأشياء كممثلات للواقع.

وهما اتجاهان بمثابة الهيّكلة الأولية سواء لتصميم أفق التصور الثقافي للمفهوم أو لتفكيكه وإعادة إنتاجه.

جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة