Culture Magazine Thursday  29/04/2010 G Issue 308
فضاءات
الخميس 15 ,جمادى الاولى 1431   العدد  308
 
حِينَ يُجَاوِزُ النَصُّ.. (أُفُقَ الانتِظَار) (2-2)
عمر بن عبدالعزيز المحمود

كشفتُ فيما سبق عن الاهتمام الكبير الذي يلقاه (القارئ) لدى مناهج ما بعد الحداثة، وأوضحتُ كيف أنَّ هذا الاهتمام أدى إلى نشوء بعض (المصطلحات) التي تصور حجم الأثر الذي يُحدثه (القارئ) أثناء (العملية الإبداعية) و(الممارسة النقدية)، ومن تلك المصطلحات (أُفُقُ الانتظار) أو (أُفُقُ التوقُّع) Horizon of expectation الذي بينتُ حينها أهم دلالاته وأبرز مقاصده لدى أصحاب تلك المناهج.

إنَّ المستويات (الثقافية) و(المعرفية) و(الجمالية/التذوقية) التي يكون عليها (المتلقون) أثناء (استجابتهم) (للعمل الأدبي) تكون مُختلفةً مُتباينة، وهذا أمر طبعي، فكُلُّ (قارئ) يكتسب في هذه الحياة ثقافةً تَختلف عن الآخر، ويشترك مَجموعةٌ من (المتلقين) في (عقيدة معينة) ويَختلف آخرون عنهم، ويتوافق غيرهم في (جنسٍ مُخصَّص) بينما يَجتمع آخرون في جنسٍ آخر، وحين يُقبلُ هؤلاء (المتلقون) على اختلاف (مستوياتهم) وتباين (اتجاهاتهم) على (قراءة) (نص) وشروع في (تلقيه) و(استقباله) فإن الأمر البدهي الذي يُمكن أن نتصوره هنا هو أن هذه (المستويات) و(الاتجاهات) سيكون لها الأثر الأكبر في تَحديد طبيعة (استجابة) كل (قارئ) (للنص) الذي أمامه، وسيكون لها (الكلمة الفصل) في نوعية (الحكم) الذي يُنتظر صدوره عن هؤلاء (المتلقين) المختلفين.

إنَّ (المتلقي/القارئ) حين يبدأ في (الممارسة النقدية) (لعمل إبداعي) ما فإنه يتوقَّع منه أن يستجيب (لأفق انتظاره)، ويتناغم مع (الثقافة المعرفية) و(الخبرة الجمالية) التي اكتسبها فيما سبق، وتُشكِّل له في الوقت نفسه تصوُّرَهُ (للظاهرة الأدبية)، ولذلك يؤكد (هانز جورج جادامر) Hans-Georg Gadamar في كثير من مواضع دراسته المطولة (الحقيقة والمنهج) Truth and Method على أهمية (الأفق) في تَحديد (استقبال) (القارئ) (للنص) أو حدوث المعنى، بل إنه يتجاوز ذلك إلى القول بأنَّ معنى (النص) يُحدِّده (الأفق) بصورةٍ مُسبقة.

وليس بغريبٍ على أصحاب هذه المناهج التأكيد على هذه (الرؤية) إذا ما عرفنا أنهم ينطلقون من (فكرة) تُقرِّر أنَّ المهم هو ليس ما يقوله (النص)، ولا من قاله، ولا (مضامينه) و(معانيه) التي تبقى نسبية، بل ما يتركه العمل من (آثارٍ شعوريةٍ) و(وقعٍ فنِّيٍّ وجماليٍّ) في النفوس، والبحث عن (أسرار خلود) أعمال مبدعين كبار وأسباب (ديمومتها) وحيثيات روعتها و(عبقريتها الفنية)، ولذلك تُحاول هذه المناهج في ضوء ما سبق أن تُعيد قراءة (الموروث الأدبي والإبداعي) من خلال التركيز على (ردود القُرَّاء) و(تأويلاتهم للنصوص)، وانفعالاتهم وكيفية تعاملهم معها أثناء (التقبُّل)، و(طبيعة التأثير) التي تتركها نفسياً وجَمالياً لدى القُرَّاء عبر اختلاف (السياقات) التاريخية والاجتماعية.

ولذلك فقد كان ل(أفق الانتظار) عند أصحاب هذه المناهج الأثر الأكبر على (الأحكام النقدية) التي تُقوِّم (الأعمال الأدبية) وتَحكم على (مستوياتها الفنية)، وذلك يتبين بشكلٍ جلي حين نعرف (موقف) هذا (الأفق) من (النص الإبداعي) و(طبيعة) هذا (التوقع) من (الخطاب الأدبي)، فعندما يستجيب (أفق انتظار القارئ) ل(أفق النص) ويتفق معه، وكان (النصُّ) يُبادِلُهُ هذا الشعور ويُراعيه هو الآخر فإنَّ هذا يعني أنَّ هناك (ائتلافاً) و(تأثراً) سيحصل بينهما، وبالتالي سيكون هناك (تواصلٌ) و(مُشاركةٌ) و(تفاعلٌ) بين الطرفين: (النص) و(القارئ)، بيد أنَّ هذا لا يعني بطبيعة الحال أنَّ (النصَّ) ذو طبيعة فنية عالية، بل على العكس من ذلك، فقد يكون (النصُّ) دون (المستوى الفني) المأمول، وهذا (التفاعل) الذي حصل إنما كان بسبب (استجابة) (النص) ل(أفق توقع القارئ) وتوافقه مع (أفق انتظاره)، ولا علاقة لذلك بالمستوى الجمالي الذي يتمتع به (النص).

أما (النصُّ) الذي يَمتلك المقومات (الفنية) العالية والقيمة (الجمالية) المرتفعة فإنه لا يُهِمُّ أن يكون متوافقاً مع (أفق القارئ) أو مُختلفاً معه ومتصادماً مع طبيعة استجابته، فهذا النوع من (النصوص) هو وحده القادر على أن يؤثر على (القارئ)، وينفذ في نفسه ويقلب لديه الموازين، خصوصاً حين يكون (أُفُقُ) ذلك النص مُختلفاً عن (أفق انتظار) القارئ ومُخيِّباً ل(أُفُقِ توقعه)، و(النص) الذي استطاع أن يفعل ذلك على الرغم من هذا الاختلاف هو بلا شك (نصٌّ) استثنائي و(خطاب) متميز على المستويات كافة. وبناءً على ما سبق فإن (العمل الأدبي) قد يراعي (أفق انتظار القارئ) عندما يستجيب لمعاييره (الفنية) و(الجمالية) و(الأجناسية) عبر عمليات (المشابهة النصية) و(المعرفة الخلفية) و(قواعد الأجناس) و(الأنواع الأدبية) التي يعرفها في (نظرية الأدب)، ولكن قد يَخيبُ توقُّعُهُ ويُفاجأ إذا واجه (نصاً) حداثياً جديداً لم ينسجم مع القواعد التي يتسلَّح بِها في (مقاربة) (النص الأدبي)، فعندما يقوم (القارئ) بِ(مُمارسة القراءة) للنصوص المعتادة المكررة فإنها بلا شك ستراعي (أفق انتظاره) لأنه تعوَّد على (قراءتها) من خلال (معايير) و(آليات تَجنيسية) و(تَحليلية) معروفة، بيد أنه إذا قام بهذه الممارسة (لنصوصٍ) مُتميزة ومُختلفة عن (أُفُقِ تَوقُّعِهِ)، فإنها بطبيعة الحال ستصدمه بطرائق (فنية) جديدة (تنزاح) عَمَّا ألفه من مفاهيم (القراءة التقليدية) بسبب (الانزياح الفني) بين الطرائق الموجودة في (النصوص التقليدية) و(النصوص الحديثة)، وهذا يعني أنَّ هناك (مَسافةً جَماليَّة) -كما يُسمِّيها (هانز روبرت ياوس) Jauss Robert Hans- تُربِكُ القارئ وتَجعل (توقعه الانتظاري) خائبا بفعل هذا (الخرق الفني والجمالي) الذي يسمو بالأعمال الأدبية ويجعلها خالدة.

ويقصد (ياوس) ب(المسافة الجمالية): ذلك (البعد القائم) بين ظهور (الأثر الأدبي) نفسه وبين (أفق انتظاره)، وأنه لا يُمكن الحصول على هذه (المسافة) من (استقراء) ردود أفعال القُرَّاء على (الأثر)، أي من تلك (الأحكام النقدية) التي يطلقونها عليه، وهو يؤكد هنا على أنَّ (الآثار الأدبية) الجيدة هي تلك التي تُنمِّي (انتظار الجمهور) بالخيبة، إذ إنَّ الآثار الأخرى التي تُرضي (آفاق انتظارها) وتُلبِّي رَغَبَات قُرَّائها المعاصرين هي آثارٌ عادية جداً تكتفي عَادةً باستعمال (النماذج الحاصلة) في البناء والتعبير، وهي نَماذج تَعوَّد عليها القُرَّاء، فإنَّ آثاراً من هذا النوع هي آثارٌ (للاستهلاك السريع) سُرعان ما يأتي عليها البلى، أما الآثار التي تُخيِّبُ (آفاق انتظارها) وتُغيظُ جُمهورها المعاصر لها، فإنها آثارٌ تُطوِّر (الجمهور) وتُطوِّر (وسائل التقويم) والحاجة من الفن، أو هي آثارٌ ترفض إلى حينٍ حتى تَخلق (جُمهورها) خلقا، وهناك (نصوص) تُغيِّرُ (أُفُقَ انتظار القارئ) الذي يَجمع بين (الذكاء) و(الفطنة) حيث يتعلَّم بِسرعةٍ كُلَّ ما هو جديد، ويتكيَّفُ مع كلِّ نصٍّ (طليعي) أو (حداثي)؛ حيث يُغيِّر هذا (القارئ) من (آليات قراءته) و(أدواته) حتى ينسجم مع (معطيات النصوص المفتوحة).

بقي أن أقول إنَّ نشوء (أُفُقَ الانتظار) لدى هذه المناهج هو نتيجة طبعية للاهتمام الكبير الذي يلقاه (القارئ) في ظلها، والأثر المهم الذي تُعوِّل عليه فيه حين يُمارس (قراءة النص)، ويعيد (إنتاجه) و(كتابته)، ويكفي أن نعرف لتصوُّر ذلك أنهم يعتمدون في الحكم على (جودة النص) من عدمه على طبيعة استجابة (أفق القارئ) (لأفق النص)، (فالخطاب) المتميز هو ذلك القادر على أن يَخترق (بأفقه الخاص) (أفق القارئ)، ويستطيع أن يقلب موازينه إلى الدرجة التي ربما يدعوه فيها إلى إعادة النظر في (أفق انتظاره)، وما سوى ذلك فهو (نصٌّ) عاديٌّ (مألوفٌ مُكرَّر).

إلا أنني أشير هنا إلى أنَّ هذا (الأفق) يتصادم مع الأساس الرئيس لمناهج (النقد الحداثي) بشكل عام التي كانت تعتمد اعتماداً كبيراً على (اللغة) و(الأسلوب) رافعةً شعار (سلطة النص)؛ ذلك أنها لا ترضى بأن يتحكَّم في (مستوى النص) أيُّ شيءٍ من (خارجه)، بل لا بد أن يكون (نسيج النص) و(بنيته اللغوية) و(أسلوبه) و(أجزاؤه الداخلية) هي (المعيار) التي يُحتكم إليه في تحديد (المستوى الفني) (للخطاب)، ولا شكَّ أن (أفق الانتظار) من (المؤثرات الخارجية) المهمة التي جعلها (نُقَّاد ما بعد الحداثة) حَكَمَاً رئيساً في تَحديد (قيمة النص)، ومعياراً أساساً في الحكم على (مستواه الفني).

Omar1401@gmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة