Culture Magazine Thursday  03/03/2011 G Issue 333
أوراق
الخميس 28 ,ربيع الاول 1432   العدد  333
 
افتراض واقعي
عصر المشاركة والشفافية
تركي محمد التركي

ثقافتك اليوم ليس ما تختزنه من معلومات فمهما كان حجم هذا الخزين فتأكد أنك لن تنافس هذه الأيام «فلاش ميموري» صغير سعة «جيجا»، لأن هذه الميزة التجميعية البحتة انتهت أهميتها بنهاية زمن ندرة المعلومات واحتكارها، نعم كان هناك علماء وفقهاء عبارة عن مكتبات متنقلة ولديهم قدرة معجزة على الحفظ والتلاوة، ولكنها فترة وانقضت، قد نبني على ما تركته لنا ولكن لا يجب أن ندعو لعودتها بدعوة أولادنا لأن يكونوا «حفظة بررة»، يكفي أن يكونوا بررة فقط؛ فثقافتنا اليوم هي آلية تعاطينا مع زمن وفرة المعلومات ترتيباً وتحليلاً, إضافة لقدرتنا على استدعاء المعلومة المطلوبة في الوقت المناسب وعرضها في الموقف الملائم لصنع معرفة جديدة أوعلى أقل تقدير صياغة معرفة جيدة ومعقولة.

هذه لمحة بسيطة لفهم ما يجب أن تكون عليه ثقافة هذا الجيل جيل «عصر المعلومات» الذي يأتي بعد العصر الصناعي ليؤسس لمجتمعات مفتوحة واعتمادية في تبادلها على بعضها البعض، عصر يتميز بقضيتين مهمتين ساهمتا في تكوينه واستمراره، هما «المشاركة والشفافية» لذلك فلا غرابة أن يأتي اليوم الذي يُطالب فيه شباب هذا العصر بتطبيقهما على أرض الواقع، شفافية في عرض المعلومات وتوفيرها ومشاركة في اتخاذ القرارات وتفعيلها.

هذه المطالب التي كان هؤلاء الشباب هم نواتها التي انعكست على الشارع العربي مظاهرات واعتصامات وتحركات شعبية اعتقد البعض ممن استيقظ مؤخراً من المثقفين وبحنين بالغ أنها تكرار لما حدث وشهدوه في ستينيات القرن المنصرم من ثورات طلابية ضد كل ما هو صناعي رأسمالي واحتكاري في ذلك العصر وفقاً لاقتصاديات ذلك العصر وطبيعتها، دون وعي كافٍ بحيثيات وتراكمات هذا العصر المعلوماتي واقتصادياته المختلفة تماماً، هذا الوعي الناقص والمتوقف عند شعارات عصره، تفاعلَ وتداخل بكل تأكيد مع المطالب الحديثة القادمة من شباب أرض الافتراض ليتم حقنها جماهيرياً ببعض الشعارات والمسميات الثورية القديمة.

بكل تأكيد الحكم سابق لأوانه لمعرفة الصبغة الأخيرة التي ستظهر بها هذه المطالب التي وإن جمعتها مع ما سبق شعارات إنسانية عامة كالعدالة والمساواة والحرية، التي توحي لسامعها لأول وهلة بأنها هي ذاتها في أي عصر وبأي مفهوم إلا أن الممارسة التاريخية أثبتت هي أيضاً مراراً وتكراراً أن الشعارات شيء ومفهومها وواقعها شيء آخر تماماً، تم الاختلاف بل التناحر حوله كثيراً، سواء كان ذلك لدواعي عقائدية فكرية أودينية أوقومية أو حتى لدواعي سياسية واقتصادية محركة لهذه العقائد ومتحركة بها.

لذلك فقضية وعي العصور ومجايليها والفروق بينها هي قضية مفصلية ومهمة جداً بعد انقضاء فترة الشعارات القصيرة التي ترافق كل انتفاضة أو دعوة للتغيير يكون الإجماع الجماهيري فيها على اختلاف التوجهات والمشارب بسبب الاتفاق على قضية «ما لا نريد» التي يختلط فيها العاطفي بالعقلاني لتذهب وتنقضي هذه القضية وتأتي بعدها فترة أصعب وأخطر وأطول هي فترة «ما نريد» المستقبلية والعقلانية تماماً، فترة تشكيل المفاهيم والاتفاق حولها، ثم فكرة التطبيق على أرض الواقع ومتابعة هذا التطبيق باستمرار وبوعي كافي ومتطور يُجاري تطور هذه الأزمنة الثورية يومياً في تطورها العلمي والتقني.

ما زالت خسائر هذه الأحداث إنسانياً ومادياً مروعة ولا يجب أن تأخذ أحداً الحماسة والعاطفة بسبب نتائج لحظية وراهنة باتجاه خطابات تُبررها وتُمجدها فقط بدافع من احتقان تاريخي أو من أجل حشد الحشود دون وجهة واضحة، إن لم يكن ذلك بسبب من موت ودمار نشهده اليوم وسيؤثر نفسياً وفكرياً، حاضراً ومستقبلاً؛ فليكن بسبب آلية تفكير وثقافة نأمل في أن تُقدِم لها وتُعبرعنها هذه الخطابات منذ الآن، بل وتُطورها مستقبلاً حتى تجاري هذه العصور وآلياتها وأنظمتها الحديثة «التي نريد»، والتي تستشعر قيمة الفرد الواحد وتوازن بين متطلباته ومتطلبات الجماعة مهما تأزم الوضع العام، قد يقول قائل إن هذه الخطابات العقلانية لا وقت لها الآن في ظل هذه الأوضاع المتردية ولكننا نذكره بأن هذا هو أيضاً ما قاله الكثير في ثوراتهم التي يثور عليها الشباب اليوم لذلك نحن نخشى فقط أن يعيد التاريخ نفسه، والتاريخ كما يقال لا يعيد نفسه إلا على شكل مهزلة.

شباب هذا العصرالمعلوماتي بمفاهيمه المختلفة عن السلطة والمشاركة والشفافية لا يريد بكل تأكيد سلسلة من الثورات المتتالية بمعنى ثورة تثور فقط على ثورة مع بقاء المجتمعات مغلقة على قومياتها وطوائفها وأصولياتها، فهو القادم من فضاءات مفتوحة على ذاتها وهُوياتها قبل أن تكون مفتوحة على ذوات وهُويات الآخرين، شباب بدأ يدرك تماماً، بل ويمارس معنى الحوار والمشاركة والتفاوض المفتوح والنسبي مع جميع الأطراف المحلية قبل الخارجية مع أخذه في الاعتبار كل الاحتمالات، وبالتالي هو لا ينغلق كسابقيه من أصحاب الثورات العقائدية باتجاه ترتيبات تكتيكية طويلة الأمد مع اعتقادهم وإضمارهم مسبقاً بتعذر الوصول لتسويات نهائية بسبب من ثوابتهم وحقائقهم اليقينية المطلقة، حيث إن هذه اليقينيات هي ذاتها التي ستصبغ هؤلاء السابقين الأولين بصبغتها المغرورة والعنيدة التي تجلت مؤخراً حدّ إراقة الدماء في تصرف نُخب سياسية كانت في يوم من الأيام قيادات شبابية ثورية يُكن لها المجتمع كل التقدير والاحترام كفاعلين اجتماعيين وكأبطال ثوريين لا يخشون في الثورة لومة لائم.

شباب هذا العصر أحلامه واقعية بواقعية هذا الزمن المُعولم ثقافياً واقتصادياً، تقنياً وبيئياً، شباب صار يعلم وعن تجربة ضرورة الشفافية الحكومية ولكنه في ذات الوقت يعي محدودية أدوار الحكومات قياساً بضرورة تكامله مع مؤسسات المجتمع المدني الفاعل الأهم والأقوى محلياً وعالمياً، شباب يعرف من أين تؤكل المعلومة حين يتعامل مع إعلامه الفردي الجديد وبالتالي يعرف كيف يتعامل مع غزارة معلومات وصور هذا العصر الإخبارية نقداً وتدقيقاً وتمحيصاً، دون الحاجة لرفع شعارات أو لافتات بأسماء قنوات إعلامية تقليدية شهيرة ليُعبرعن امتنانه كما يضطر لفعل ذلك بعض البسطاء الموجهين جماهيرياً، كما أنه أصبح يعلم أيضاً بأن الحلول غير ممكنة في هذا العصر وفقاً لأصوليات عرقية أو دينية أو فكرية ظهرت وما زالت تظهركردة فعل نفسية بدعوى الحفاظ على هُويات منغلقة ومُتوهَمة نتيجة للإرباك الوجودي الذي أثارته ثقافة هذا العصر.

وهنا يجب أن لا ننسى في غمرة المهللين والمحتفين كم حُورب هؤلاء الشباب ومن نفس الطبقة المُمجدة له حالياً بدعوى طيشه وسعيه لإضاعة الوقت والهُويات واللغات فيما هو منغمس في هموم وطنه ومواطنيه وفي تشكيل هُوية جديدة تليق به وبمواطنيه، دون أن يرفض طبيعة هذه الأدوات المساعدة أو مصدرها فاستطاع بتجاهله لخوف الخائفين وبإحسانه الظن بهذه الأدوات وبمن قدمها عالمياً أن يقدم لمجتمعاته الكثير, وما زال بوسعه أن يقدم الكثير متى ما أحسن مجتمعه الظن به، ومتى ما تم تمكينه كما يجب, هذا الشباب استطاع ذلك فقط لأنه عاش عصره ولغة عصره بثقة وببساطة، ويبقى السؤال هل سيُحاكي القادم من أيامنا هذا العصر وهذه اللغة فكراً مستقبلياً يتجاوز أخطاء الماضي واجترارته؟ أم سيعيد عصوراً خلت مع فارق وحيد يميز كل عصورنا وهو تكريم ذكرى أيام مجيدة وإقامة نصب لشهداء جدد مع استمرار تفنن كل طرف في إقصاء الأحياء وإخفاء الأصوات؟!

Alturki.tt@gmail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة