Culture Magazine Thursday  03/03/2011 G Issue 333
فضاءات
الخميس 28 ,ربيع الاول 1432   العدد  333
 
تعليق أخلاقي
طارق السياط

يبدو أنه ليس التاريخ وحده من يدوّنه المنتصرون، وإنما الواقع أيضا، والحقيقة، والصلاح. وتأتمر هذه المعالم أجمعين بأمر المنتصر، بينما سرعان ما يجري تجريد المهزوم منها، كأن لم تكن له من قبل، وزجّه في الحضيض، أيا كانت منزلته في السابق. وحيث إننا نعيش في زمن بالفعل تقنيّ، فقد حيكت معايير أيضاً تقنيّة للرشد والضلال، لا تنال حظاً مجزياً من التمحيص. فالتقنية حقل الممكن - كما سلف -؛ وبالتالي تكفي القدرة على الفعل مبرراً أخلاقياً لممارسته - بمعنى أن كل من استطاع أمراً فله أن يفعله، بغض الطرف عن لياقة هذا الأمر -. ولكن حين تكون المقدرة وحدها شرطاً للفعل؛ وبالتالي للبتّ في نزاهته؛ فستتبلور الحياة جحيماً لا يُطاق، ومصيراً مفتوحاً على الاحتمالات كافة؛ حيث لا يمكن التنبؤ بالعواقب.

ما ملامح الفضيلة؟ هل السن اليافع معيار كافٍ ووجيه لذلك؟ إذ حسبُ المرء المبادر أن يكون شاباً لاحتفاء الناس بفعلته، كائنة ما كانت. أم هو النسب التقني؟ فكل ما تمخض من رحم التقنية فهو حق وموضع إعجاب. أم أنها الكثرة المرئية؟ فسدّ الآفاق والميادين هو مؤشر الصواب. أم علوّ الضجيج؟ أم ماذا؟ هل كل من سعى لأمر فإن من حقه إحرازه، حتى لو تمادى؟ أي تكفي الإرادة مبرراً لإضفاء لباس الخير على الأمر المبتغى. أم يكون السبق وحده كافياً لذلك؟ فالأول هو الأولى. أم هو الواقع المفروض؟ بكلمات أخرى: طالما فعلتَ فأنت على صواب والحق وأنا إلى جانبك.

ثم ما الفاصل الملموس بين سمو القصد ودناءة الشخصي؟ وكيف لنا أن نمايز بينهما؟ هل كل الغايات العليا مبعثها نقي السرائر؟ أتكفي الأهداف البراقة وحدها برهاناً لنبل المقاصد؟ ومن بين الجموع ما عدد الذين يتسامون فوق الشخصنة، ويكرّسون نواياهم حقاً للصالح العام؟ ما الفارق بين السعي لإحراز الغايات النظيفة التي لخير الجميع، ونية التغلب فقط، والعمل على إذلال الخصوم؟

إن تجيير نجاح الآخرين لصالح الذات هو اختلاس وضيع، وإن الذي يهبط إلى ميدان الصراع في اللحظات الأكثر ملاءمة له فقط لجني الثمار، دون أن يكون له نصيب من الكد، لا يستحق الاحترام. ويوم أن تتشدق طائفة من الملأ بالزهد في المنصب، في الوقت الذي يتزاحمون عليه في مناكبهم وسط (الميادين) فذلك الأمر أيضاً لا يستحق الاحترام. ولا أسوأ من هذا إلا حين يفسر أحد هؤلاء رغباته الدفينة بأنها جاءت فقط تحت وطأة الجماهير الراغبة، ليس إلا. وفي مشهد كهذا نُمعن النظر يمنة ويسرة؛ علَّنا نعثر على رمز واحد يرغمنا على احترامه حين يُظهِر الإقدام والصدق، عبر القول صراحة «أجل أريدها». لكن نتائج البحث دوماً ما تكون مخيبة للآمال.

تُرى من دلّ الساسة والمعارضين بأنهم في خضم شغلهم السياسي بمقدورهم فعل ما يحلو لهم، بلا معايير؟ إن المصالح وحدها لا تبرر المواقف كما يُشاع - أو هذا ما ينبغي -، بل للقيم حضورها المفترض كذلك، في شؤون كهذه. إنّ أشدّ الأعداء المحاربين لهم حقوقهم المتعارف عليها أيضاً. وحتى الحروب لها قوانينها وأخلاقها المرعية على مر العصور. وحين يكون مصير الأمم والشعوب مادة للتندر، وفرصة لا بأس بها للفتك برتابة ليالي السمر المملة، فذلك هو الانحطاط المبين؛ إذ ترجو زمرة من الناس أن تتفاقم الأحداث، وينفجر العالم، لا لموقف مبدئي، بقدر ما هو التوق للإثارة فحسب، والهيام في أمر جديد يبدد السأم. فهل وراء ذلك من الأنانية حبة خردل؟

إن للعظماء طقوسهم في النصر تماماً كما في الهزيمة. ولم يُعهَد التلويح والرقص والهتاف ديدناً للمنتصرين المتواضعين والمنصفين طيلة الأزمان، ولاسيما وقت التباس الأمور واختلاط الملامح. وقد أسفرت المجريات عن فائزين لا يقلون سوءاً عن خصومهم المهزومين الذين يكيلون لهم السباب. وتبيّن تباعاً أن الرهان على الرموز المتنطعة لا يمنح الحشود المتطلعة أعظم من خيبة الأمل.

إن الجماهير التي بالأحذية وبذيء القول تشيّع رموزها التاريخية التي عاصرتها ردحاً من الزمن، وأبلت معها - أياً كان -، هي جماهير في أمسّ الحاجة إلى أن تتوقف مع نفسها لبعض الوقت، وتتدبّر أمر أفكارها ومواقفها وسجاياها. ويوم ينقلب المحارب المدجج من جبهة نحو الجبهة الأخرى، في سويعات طفيفة، ويستبدل الابتسامة بالتقطيب، فقط لتبدل معطيات الأرض، فلا ريب أن ثمة خطأ في الصورة.

وفي سياق متصل، فإن الذين يرحبون بالإطاحة بزملاء المسيرة، ورفقاء الماضي العتيد، فإن أدنى ما يمكن نعتهم به أنهم بلا أخلاق. ومراراً وتكراراً برهنت الوقائع، على صعيد الدول والأفراد، أن السياسة والأخلاق قلما يتعانقان. ولكن وقت أن يقع ذلك العناق فالمشهد إذ ذاك في أبهى صوره. ومن جانب ثانٍ، فإن الذين ينافحون عن (الأصدقاء) في أوقات الشدة، ولآخر رمق، بالأخص وأصدقاؤهم هؤلاء في غاية الهشاشة، فأولئك هم النبلاء، وتلكم هي الشهامة.

في أيام الثورات العصيبة، ومواسم الأزمات الحالكة، يتهاوى جمع غفير في قاع الرذيلة، أشد من المراد والمتوقع. وفي الوقت ذاته يعرج للسماء آخرون بمواقفهم حتى يبلغوا عنانها، وينحتون أسماءهم في سجلات الخالدين الناصعة. إن المرؤوس حين يأبى أن ينال من رئيسه المتداعي، ويعرض عن المغريات كافة، ويجابه سائر الضغوط، لا لشيء سوى لدواعي الوفاء، فسيرفع له التاريخ القبعة، ويقف له احتراماً أبد الآبدين.

بالفعل، لقد كانت حفلة أخلاقية لا مثيل لها، أكثر من أي شيء آخر. والآن ها قد انتهى كل شيء. أجل. لكن المتبقي الوحيد، الآن وإلى أبد الدهر، هو المواقف.

ts1428@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة