Culture Magazine Thursday  10/03/2011 G Issue 334
فضاءات
الخميس 5 ,ربيع الآخر 1432   العدد  334
 
ما بين التخلُّف والاحتراق..!!
فيصل أكرم

ظننتُ أنني أوشكتُ على إحراق نفسي إعلامياً بعد ظهوري تلفزيونياً ثلاث مرات في شهر واحد للحديث عن ديواني الشعريّ الأخير، فبعد مقابلة على شاشة فضائية لبنانية، ومقابلتين على شاشة سعودية.. وأنا الذي اعتدتُ ألاّ أظهر (تلفزيونياً أو إذاعياً) إلا حينما أحدثُ عملاً يستحق الظهور - ولمرة واحدة فقط - كإصدار (كتاب جديد)؛ أقول: ظننتُ أنني أحرقتُ أو أكاد إحراق نفسي بهذا الظهور التلفزيوني المتتالي..

غير أنني اكتشفتُ أخيراً، وبعد متابعة قصيرة ومكثفة للحضور (الثقافيّ) على شاشات القنوات (الفضائية) أنني في حكم المتخلِّف جداً عن المشهد الإعلاميّ الراهن!

اكتشفتُ أننا الآن في زمن لم يعد يشبه ذلك الزمن الذي نشأتُ فيه، ودرّبتُ خطواتي وهذّبتُ أدواتي جيداً للسير فيه.. إذْ كان مكان الأديب والشاعر في الصفحات (الثقافية) للصحف، أو المجلات المتخصصة في الثقافة والأدب، أو الكتب.. أما شاشات (التلفزيون) فكانت لنشرات الأخبار وبرامج الأسرة والأطفال والمسلسلات و.. كرة القدم!

كان ظهور الشاعر والأديب والكاتب الصحافي على شاشة التلفزيون يعني حدثاً غير عاديّ يتطلب التنويه عنه والإخبار به ومن ثم قراءته وتحليله وغربلة كل ما جاء فيه وإعادة صياغته عبر أعمدة الصحف وكأنه مؤتمر إعلاميّ لذلك الأديب أو الشاعر!

اكتشفتُ الآن، بعد قليل من الانتباه، أن الزمن قد خطا بنا خطوات واسعة وشاسعة حتى بات ظهور (وجه) الكاتب على شاشات القنوات الفضائية هو الشيء المعتاد، أما ظهور شيء من (كتاباته) في صحيفة أو مجلة أو كتاب فهو الاستثناء!

حتى الأحداث السياسية التي تعج وتضج بها القنوات التلفزيونية فجلُّ ما يطرح فيها من الآراء ما هو إلا تحليلات مرتجلة ومرتبكة وغير مرتبة لأناس هم في الأساس (كتّاب) في الصحافة السياسية، غير أن القارئ المتابع لهم لا يستطيع أن يحدد وجهة نظر (أو انتماء) كلّ منهم بالقدر الذي يستطيع فيه التحديد والتأكد حين يراهم متقابلين في لقاء (تلفزيونيّ)، وإن ارتفعت الأصوات وتداخلت وعمّت الفوضى كلّ مساحات الرؤية والاستماع!

أمّا عن الأدباء والشعراء، فالشيء نفسه مع الفوارق.. وكمثال ذاتيّ بسيط، سأذكر أن رسالة واحدة وصلتني من متابع واحد جعلتني أفهم أنّ العصر تغيّر بكل ما تعنيه كلمة (التغيُّر) من معنى، فقد أصبح القارئُ متطلِّباً جداً ويضع شروطاً على كل كاتب يتابعه ويظلّ ينتظر منه تحقيق تلك الشروط كاملة، ومن أهمها: أن يراه وهو يتحدث!

لماذا يريدُ القارئ أن يرى الأديب أو المبدع وهو يتحدث عن أدبه أو إبداعه؟!

ذلك ما كنتُ أجهله، وقد فهمته وتفهّمته الآن - بتلك الرسالة التي وصلتني - وأستطيع أن ألخّص ما توصلتُ إليه بكلمة واحدة هي: (الصدق).

ربما لأن القارئ العربيّ قد مرّ بتجارب كثيرة ومريرة مع الشعراء والأدباء الذين كانوا يمثلون المشهد الثقافيّ من خلال (الكتابة) وحدها، وكان لا يستطيع استقراء ملامح الصدق أو الكذب في كتاباتهم كما يستطيع الآن من خلال (المشاهدة) لقسمات وجوههم وحركات أياديهم ونبرات أصواتهم، فتلك إشارات لا تخدع من يملك القدرة على تحليلها، وأظنّ أن القارئ في عصر الفضائيات الراهن قد امتلك هذه القدرة - أو الموهبة - بعد أن مرَّ بكثير من الصدمات؛ حتى شَعَرَ أنّ الشِعرَ منفلتٌ فوقَ ما يتخطى كلّ أوديةٍ، بينما الشعراء لا يزالون في سُباتٍ ببطن واد..!

إذاً هو القارئ الآن، كما قال قائلٌ: (يقرأ الوجوه ويتفرّج على الكلمات)!

فذلك حقٌّ بسيطٌ من حقوق قارئ اليوم، طالما أنّ الوسائل مشرعة ومشروعة لاستبيان حقيقة انتساب النصّ لصاحبه من حيث التشابه والتساوي والانسجام في الهيئة والتكوين والأساس، ليطمئنّ إلى شراكةٍ عادلة بينه كمتلقٍّ وبين الكاتب المنتج للأدب.. فما دام القارئ لا يقرأ إلاّ ما يشبهه، فكيف بالكاتب أن يكتب ما لا يشبهه؟!

وهذا أنا الآن، كعادتي في الوصول متأخراً، قد وصلتُ إلى قناعةٍ بأننا الآن في زمن (الاحتراق) من أجل الوصول بالكتابة الحقيقية إلى قارئها الحقيقيّ، ولا سبيل إلى النجاة من ذلك الاحتراق في هذا الزمن إلاّ بالركون والسكون المطمئن إلى (التخلُّف) الذي كان في وقتٍ مضى هو قمّة السموِّ وقاعدة الاعتزاز..

إذاً هي الصفقة الوحيدة المتاحة لنا الآن: فلتحترق الصورُ كلُّها، حتى لا يتخلَّف شيءٌ من كلمات.!

(هذه الصدمات):

لماذا تنظرُ، هذي المرّةَ، في المرآة..؟

لا شيء عليكَ سوى ثوبٍ،

ينشقُّ الآن بلا صوبٍ،

يمتدُّ طريقاً للعرباتْ..

لماذا تؤثرُ هذي الرقصةَ في الوقفات..؟

ستقولُ: تعبتُ من الإجهاز على تعبي

وتقولُ: تعبتُ من الصدماتْ..

فمثلكَ كادَ يكون لمثلي،

مثلكَ، أصلاً، كانَ لمثلي

لولا الوقتُ القاصرُ فينا حيث ندور

ولولا أنّ الريحَ تثورُ، وتقتلُ في فمنا الأصواتْ.

لماذا أنظرُ، هذي المرةَ، في المرآةْ..؟

سأراكَ هناك..

وأنتَ ستُصدمُ حين تراني أُصدم فيكَ،

وأهربُ منكَ لكي آتيكَ،

كأنَّ قتالاً يُحسمُ حينَ تفرِّطُ عينٌ في النظراتْ..

وكأنَّ مثالاً يُهدمُ حين تفرِّطُ لغةٌ في الكلماتْ!!

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة