Culture Magazine Thursday  12/05/2011 G Issue 341
الملف
الخميس 9 ,جمادى الثانية 1432   العدد  341
 
كاسرة النسق
عبدالله محمد الغذامي
-

ثلاثة أسماء رسمت خارطة الثقافة في بلادنا في جانبها المؤنث، وكن على التوالي الألف بائي ثريا قابل وخيرية السقاف وفوزية أبو خالد، ظهرن مبكراً وحققن الفتح الرمزي الأولي في تاريخ ذاكرتنا، ولكل واحدة منهن حكاية، ومن حكاياتهن رسمن أسماء النساء وحفرن للاسم المؤنث موقعاً رمزياً في مفكرتنا الثقافية وفي مدونة المجاز عندنا بصيغته الانفتاحية والتأسيسية.

وحديثنا اليوم عن فوزية أبو خالد، وهي التي ظلت على مدى أربعة عقود تقدم المعنى الثقافي ببعده الرمزي وببعده التفاعلي، ولم تبدأ كشاعرة تكتب النص الشعري فحسب، وإنما -أيضاً- ابتدأت كاتبة تحمل الإشكال الثقافي بأسئلته المتحدية، ولعل عنوان أول ديوان لها: إلى متى يختطفونك ليلة العرس، كان حاملا لجملة نعرفها الآن - حسب النقد الثقافي- بالجملة الثقافية، وهي الجملة التي ترادف الجملة النحوية من جهة والجملة البلاغية من جهة ثانية، حيث تأتي الجملة النحوية لتكون جملة دالة على المعنى المفيد، وهذا هو قيدها الاصطلاحي، وتأتي الجملة البلاغية لتكون الجملة ذات البعد الأدبي والشعري، بينما تكون الجملة الثقافية نوعا ثالثاً في الترادفات اللغوية وتحمل شحنة كاشفة على مستوى النسق الثقافي.

ولعلنا قد أخطأنا كلنا حينما أخذنا فوزية أبو خالد حسب شروط المصطلح النقدي (الأدبي والجمالي تحديداً)، وقسرنا رؤيتنا لمنتوجها الأول على شرطية النظرة الخاصة بحقوق ودلالات الجملة البلاغية، حيث يكون الإيقاع والتحويل الدلالي هما المتحكم بمداخل النظرة القرائية والنقدية، ومن هنا صار العرف بتصنيف منتوج فوزية أبو خالد بوصفها قصائد نثرية، ونسبناها إلى قصيدة النثر وخضعنا تبعاً لذلك إلى معطيات هذه الرؤية وما يستتبعها من مقولات الكثافة اللغوية ومزية الغموض ومقولة الموسيقى الداخلية والجملة التحويلية. وهذه هي آليات النقد الأدبي الجمالي المعني بذلك النوع من الجمل اللغوية التي قلنا عنها إنها الجملة البلاغية أو الجملة الأدبية (والشاعرية) ولا بأس في ذلك لمن اقتصر همّه على شرط النقد الأدبي ومقتضياته.

ولكن البأس يأتي حينما نطمح إلى سبر القيم الرمزية لمفاهيمية النص المؤنث في مقابل النص الفحولي، وكذلك في مسعانا المعرفي لقراءة الظاهرة الثقافية بوصفها حاملة للمتغيرات النوعية وبوصفها قيمة نسقية من جهة أو قيمة كاسرة للنسق من جهة أخرى.

وهنا -فقط- سندرك ما يمكن أن تتكشف عنه حركة الجملة الثقافية، وما يمكن أن تحدثه من تحول ذهني ومن تغير نسقي.

سنجد أن اختيار فوزية أبو خالد لقصيدة النثر كان بمثابة الحيلة الثقافية الماكرة للالتفاف على قلعة الفحولة والسعي لإحداث فتحة لهز سلطان هذه القلعة، وفوزية هي رائدة قصيدة النثر في ثقافتنا، ولقد فعلت ذلك في زمن كانت بناتنا لما يزلن في مراحل الدراسة الابتدائية ولم يصبحن قارئات بعد (في حينها) ولم يتأهلن بعد لطرح أسئلة الثقافة من حيث إن المرأة وجود وليست مجرد صفة، وأن التأنيث قيمة معرفية وضمائرية، وليس منقصة أو سالباً فحولياً وناقضاً ثقافياً حسب الضاغط العرفي المترسخ.

من هنا نفهم كيف أن اسم فوزية أبو خالد ظل اسماً ذا قيمة تحفيزية في خطابنا الثقافي على مدى عقود، وظلَّ الكلام عن هذا الاسم يملأ الصفحات مثلما يعمر الأفواه والأذهان. وكنت ترى ذلك على ألسنة الجميع من الحداثيين ومن الأكاديميين معاً، وكذلك من النقاد ومن المبدعين على درجات متناغمة، وذلك لأن تجربتها تتحدى ما تعارفوا عليه وظلوا يطلبونه في النص الأدبي وما يقوم عليه الأدب من أعراف تعاقبت عليها كتب النقد الأدبي منذ زمن ابن قتيبة وقبله فحوليات الأصمعي وعنصريات المعري وخليفته العقاد.

هي صاحبة خطاب إبداعي وثقافي يشاغب المدونة الشعرية وما لها من عقلية ثقافية صنعت قلعتها المحصنة على مدى قرون وعقول وفحول، ثم تأتي فتاة غضة تطرح سؤالها على الخاطفين وجبابرة السفينة، ومن تلك اللحظة وفوزية تخط خطها بإصرار ومثابرة مذهلة، وتوظف قلمها شعرياً ومقالاتياً، وبحثياً (إبداعاً حراً بإزاء منتوج أكاديمي ثري وعميق) مثلما تؤسس وجودها المحفور في عيوننا وفي عقولنا، وتبرز باستمرار بما أنها نموذج ثقافي يترسمه ويتوسمه ويتطبع به كل من مر اسمها عليه مكتوباً أو مسموعاً أو مادة في محاضرة - كما جرى لي في تجربتي مع طلابي في الجامعة في كل مرة أطرح عليهم نصاً من نصوص فوزية أبو خالد للقراءة والتحليل، ومن ثم التشريح الثقافي، حيث يجد الطلاب بغيتهم في نماذج لها قدرة على العطاء والتدفق التحليلي حسب متطلبات كشف الأنساق والتعرف على صيغ التعبير في مخاتلة النسق ومواجهته ومشاغبة تاريخه حتى ليكشف ذلك الأغطية والحجب التي تعودنا على وضعها على عيوننا وسلمنا بها واستسلمنا لها، ثم تأتي شاعرة مبدعة لتعيننا على التعرف على أوهامنا وعلى كشف الحجب الثقافية والنسقية التي خيمت علينا منذ زمن خيمة النابغة إلى خيمة القذافي.

هذا درس واحد من دروس كثر قدمتها فوزية أبو خالد لنا ولثقافتنا.

-


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة