Culture Magazine Thursday  12/05/2011 G Issue 341
أوراق
الخميس 9 ,جمادى الثانية 1432   العدد  341
 
(الإبرة والقميص)
من تَجليَّات (الكوميديا) الساخرة في الشعر العربي (5)
عمر بن عبد العزيز المحمود
-

لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ

إِبَـرَاً يَضِيـقُ بِهَا فِنَاءُ المنـزِلِ

وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَـعِيرُكَ إِبْـرَةً

لِيَخِيطَ قُـدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!

سادساً: (لم تَفْعَلِ): وهنا تتجلى الإجابة، وتتكشف النتيجة، ويبرز الرد، ويظهر الموقف، موقف هذا البخيل الشحيح ابن يوسف من طلب هذا المسكين الفقير يوسف، في هاتين الكلمتين يختصر الشاعر ردَّة فعل المهجو على سؤال والده أو النبي الكريم.

وقبل أن تتأمل في الإجابة وتعرف ما هي، لا بد أن أُذكِّركَ بالأمور التالية بإيجاز؛ كي تستطيع أن تتعرف على فداحة هذا الرد، ومدى شناعة هذا الموقف، بحيث تستشعر تماماً ما يريد كاتب النص أن يوصله إليك:

أ- غناه الفاحش وثراؤه البالغ، فقد أوضحنا أنه قد بلغ القمة في الاكتفاء من جميع النواحي.

ب- امتلاء قصره الواسع والفسيح بالإبر الصغيرة التي لا يأخذ النزر الكثير منها مساحة تُذكر.

ج- ليس هذا فقط، فقد بلغت هذه الإبر من الكثرة والوفرة أن ضاق بها فناء المنزل الذي يُعدُّ أوسع مناطق القصر، فما بالك بغيره؟.

د- هوية الشخص الذي أتى إليه ووقف أمام قصره، فهو والده أو يوسف ، وكلا الشخصيتين لها خصوصية بالغة في هذا الموقف.

هـ- قمة الحاجة التي وصلت إليها هذه الشخصية، وقد كشفنا عن كثير من الأمور التي تتآزر في تصوير معاناتها وشدة فقرها.

و- أياً كان الذي يريده ذلك الفقير المسكين وبغض النظر عن قيمته فهو يريد استعارته فقط، بحيث سيُعيده فور الانتهاء منه.

ز- أنه كان يريد استعارة إبرة واحدة فقط لا أكثر، وهي متوفرة بشكل كبير جدا عند هذا الغني.

ح- أن طبيعة هذه الإبرة تمنع من أن تتحول أو تتغير عن حالتها الأصلية حتى لو استعملت عدة مرات.

ط- الحاجة التي يود أن يستعير هذه الإبرة من أجلها، وهي حاجة ضرورية وليست أقل من ذلك، فخياطة قد القميص أمر في غاية الضرورة لا يحتمل التأخير ولا التأجيل.

وهناك كثير من الدلالات التي كنت قد أوضحتها حين تحدثت بالتفصيل عن كل أمر من هذه الأمور، يجب على القارئ أن يلاحظها كذلك، وقد ركزت هنا فقط على الأمور المهمة وبإيجاز كي لا أقع في التكرار والإطالة.

حين تعرف كل ذلك وتستشعره بكل أحاسيسك -وأنت تتهيأ لمعرفة الإجابة وتتحرَّق شوقاً لمعرفة الموقف- فاعلم إذن أنه على الرغم من كل ذلك فإنَّ هذا البخيل/ابن يوسف رفض هذا الطلب، وردَّ هذا السائل، وأبى أن يجيب طلبه، أجل.. أبى رغم كل ما عرفته من ملابسات هذا المشهد.

لقد كان ردَّاً مفاجئاً للقارئ الكريم، خصوصاً وقد عاش أحداث هذا الموقف بكل تفاصيله، وعرف خلاله قمة الاكتفاء التي يتمتع بها ابن يوسف في المشهد الأول، كما عرف قمة الحاجة التي يعاني منها يوسف في المشهد الثاني، وهو ردٌّ لا أظنه يحتاج إلى تعليق، وموقفٌ لا أخال القارئ المتأمل يجهل الدلالات التي يفصح عنها، وهي دلالات لا يمكن أن تتكشف دون أن يكون القارئ الحاذق قد عاش ملابسات المشهد كاملاً ووعى تفاصيله لحظةً بلحظة.

إذن هذه هي القصة الكاملة، وهذا هو الذي يريد الشاعر أن يوصله إلينا، وهذا هو الوصف الذي يود المبدع أن يسقطه على الموصوف، وهذا هو المدى الذي بلغه ابن يوسف في البخل والشح والتقتير، وهذا البخل -وهي الصفة الرئيسة التي تُميِّز ابن يوسف - ليس بخلاً عادياً، وبالتالي فلا يمكن أن يأتي الأسلوب والتصوير بشكل عادي مباشر، وعلى هذا فلا غرو أن يعمد الشاعر إلى حشد كل هذه المبالغات الهائلة والدلالات الكثيرة للكشف عن هذه الصفة القبيحة التي توشَّح بها ابن يوسف، لأنَّ الشاعر يعلم علم اليقين أنه ليس بإزاء أي بخل، بل هو أمام تقتير وشح منقطعا النظير، لذا لا بد أن يكون العرض موازياً للدلالة المراد إقرارها وإيضاحها.

-

Omar1401@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة