Culture Magazine Thursday  12/05/2011 G Issue 341
ترجمات
الخميس 9 ,جمادى الثانية 1432   العدد  341
 
رعب السطر الأول
حمد العيسى
-

تقديم المترجم: فيما يلي ترجمة لنص روائي يعرف كشكل سردي بالميتافيكشنMetafiction وهو مصطلح يتكون من مقطعين. الأول: (Meta) أي «ما وراء»، والثاني: (Fiction) أي «قص تخييلي» أو سرد وهو الجنس الأدبي الذي يشمل القصص التي تكتب نثراً، وتصور مواقف وأحداثاً من صميم خيال مؤلفها، وإن كان من الممكن أن تشبه شبهاً يكاد يبلغ حد التطابق مواقف الحياة الواقعية وشخصياتها. وهكذا يصبح معنى مصطلح «ميتا فيكشن» Metafiction: «ما وراء التخييل» أو «ما وراء القصة» (أي «ميتاقص») أو «ما وراء السرد» (أي «ميتا سرد») وهو ما نفضله. ويمكن تعريف «الميتا سرد» بأنه نوع من الأدب التخييلي ينتمي أساسا لتيار «ما بعد الحداثة» ويتناول بوعي ذاتي متعمد أدوات السرد ليكشف خدع النص الداخلية، كما يفسر النص التخييلي ويطرح أسئلة عن العلاقة بين التخييل والواقع مستخدما المفارقة الساخرة والتأمل الذاتي. ويمكن مقارنته بالفعل المسرحي الذي لا يجعل الجمهور ينسى أنه يشاهد مسرحية. وبالمثل، «الميتا سرد» لا يسمح للقارئ أن ينسى لوهلة أنه يقرأ عملا روائيا تخييليا.

وهذا النص بقلم الكاتب الفرنسي البروفيسور برنارد كيغيني المولود عام 1978 والذي يُدرس الفلسفة والقانون في مقاطعة برغنديا الفرنسية. ويتناول في هذا النص رعب وذعر مؤلف وهمي اسمه غولد من استبداد وإرهاب الجملة الافتتاحية الأولى لروايته (أي ما يسميه السطر الأول).

ونلفت النظر إلى أننا استخدمنا مصطلح «سطر» لترجمة كلمةLine واستعملنا أحيانا منعا للتكرار «عبارة» أو «جملة» لنفس المعنى وبالعكس. وكذلك استخدمنا مصطلح «كامل» لترجمة كلمة Perfect ولتعني «مثالي» و»خالي من العيوب» وبالعكس. ونشر هذا النص في صفحة السرد الخيالي Fiction في مجلة «الأدب العالمي اليوم» (World Literature Today) بتاريخ يوليو/أغسطس 2010، وهي مجلة أدبية تصدر كل شهرين عن جامعة أوكلاهوما الأمريكية منذ عام 1927. ونلفت النظر أن القارئ قد يواجه بعض الصعوبة مع هذا النص لكونه ترجم على مرحلتين: أولا من الفرنسية إلى الإنجليزية بواسطة إدوارد غوفان ثم إلى العربية بواسطتنا.

رعب السطر الأول

كما قال الفيلسوف والمنظر الأدبي الفرنسي جان فرنسوا ليوتارد في كتابه «الاختلافي: عبارات متنازعة»: «لتكون عبارة ما هي الأخيرة في النص، فإن هناك حاجة لعبارة أخرى قبلها لتعلن عنها، ومن ثم لا تصبح العبارة الأولى فعليا آخر عبارة».

همس غولد: أتى السطر الأول، وهنا يكمن العدو المرعب. أو كما ظن غولد في اليوم الذي قرر أن يكتب الكتاب الذي كان يفكر فيه منذ عدة سنوات. قضى ساعات أمام الصفحة الفارغة باحثا عن السطر الأول الكامل أي المثالي الخالي تماما من العيوب. مرة بعد أخرى وضع رأس قلمه على الورقة وحاول تحرير معصمه ليتحرك بطريقة دائرية لرسم الحرف الأول؛ ولكنه في كل مرة توقف مع يقين مرعب بأن هناك - بالتأكيد - طريقة أفضل لبداية روايته. أي شيء يكتبه سوف يتبع السطر الأول، وإذا كان ذلك السطر الأول رديئا فإنه سيلوث الكتاب بأكمله. يجب أن يكون السطر الأول صلبا مثل حجر زاوية من غرانيت صلد في زاوية مبنى ليكون البناء بأكمله في أمان تام، ويجب أن يصاغ ذلك السطر بعناية شديدة ليصل مرحلة الكمال المثالي التام والمطلق. معظم قراء كتابه في المستقبل سيبدأون به، وسيكون مثل اليد التي يمدها لمصافحة الناس عندما يجتمع بهم لأول مرة. إذا كانت أظافرك قذرة أو كنت قد سحقت أصابعهم عند مصافحتهم لتصبح مثل عصفور ميت، فليس هناك أي فرصة لترك انطباع جيد عنك لديهم. ونفس الفكرة تنطبق على السطر الأول لأي كتاب. لقد فكر فيه غولد طوال اليوم كما لو كان ذلك السطر مخلوقا ماكرا، مع إحساسه برعب مخيف بأنه وقع في أتون صراع لا يرحم لكتابة ذلك السطر.

لقد كان هذا الخوف من البداية - بدون شك - هو الذي أدى إلى اختراع كتابة «اقتباس» Epigraph يُصَدَّرْ بها كتاب لتوحي بفكرته العامة. ولذلك يعتبر «الاقتباس» طريقة مبتكرة للتحايل على رعب السطر الأول عن طريق اقتراض سطر من كاتب شهير. عارض غولد هذه الممارسة لأنه وجد فيها نوعا من الجبن. لقد بدا له أن أي شخص يمكنه أن يسرق جملة من نص رائع سابق، وهذه الجملة المقتبسة سوف تنعكس عبقريتها الفذة بلا مبرر منطقي على النص الذي سبقته. وهذا الأسلوب للفرار من المسؤولية عن طريق الاختباء وراء مؤلف عظيم أمر غير مقبول عنده. وهو أسلوب هابط ربما بالكاد أفضل من لطش شعار سيارة رولز رويس العريقة من فوق غطاء محركها الأصلي ووضعه على سيارة صينية -مثلا- رديئة. رفض غولد الباحث عن الكمال المثالي والذي لا يستسلم بسهولة فكرة «الاقتباس» وواصل العمل للبحث عن السطر الأول الكامل والمثالي والرائع. وتذكر غولدر الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير الذي قال إنه لم يستطع كتابة السطر الأول من كتابه «بوفار وبيكوشيه» Bouvard et Pecuchet إلا بعد محاولة استمرت طوال فترة ما بعد ظهيرة كاملة كانت حافلة بالعذاب وقيل أنه قرأ 1500 كتاب لكي يستعد لكتابة ذلك السطر المرعب. تساءل غولد: ترى كيف استطاع الكُتاب العظام تجاوز هذه المحنة العظمى؟ قرر غولد تأمل افتتاحيات بعض الروايات المفضلة لديه، على أمل استخلاص الدروس من الأساتذة العظماء ما قد يساعده على تجاوز محنة السطر الأول المرعبة.

فكر غولد متهكما: السطرين الافتتاحيين الأكثر شهرة في الأدب الوطني هما بدون شك: «أمي توفيت اليوم» و»لفترة طويلة، كنت أذهب إلى النوم مبكرا». قرأ غولد كل منهما عدة مرات بصوت عال. إنهما ليسا طويلين ولا معقدين، ولكن يجب على المرء أن يعترف أن بساطتهما تظهران عبقرية حقيقية!! وبمجرد إلقاء نظرة فاحصة عن قرب، يكتشف المرء أنه تم إبداعهما لتدشين التحف الروائية اللاتي تليهما!! بل يبدو كما لو أن اللغة الفرنسية قد تكونت لتسمح بمثل هذه المجموعة الكاملة والمذهلة من الكلمات أي تركيبات لغوية خلقت ليكتشفها أمثال بروست أو كامو. فكر غولد أنه ربما كان هناك بالفعل مجموعة من السطور الأولى الكاملة المثالية مبعثرة في الهواء من حوله والتي لا يراها ويلتقطها سوى الكتاب العظماء. وكما كتب كاتب عظيم ذات مرة: الكتب العظيمة تكون عظيمة لأنها تفتتح دائما بسطر أول كامل مثالي ورائع.

أخذ غولد الروايات المفضلة لديه من مكتبته وقرأ السطر الأول فقط لكل رواية. وليس بدون مفاجأة، لاحظ أن العديد من الروائيين العباقرة أنفسهم قد ابتكروا حيلا بارعة لتجنب محنة السطر الأول لبدايات كتبهم.

لجأ بعضهم لفكرة وضع اقتباس Epigraph التقليدية. ولكن غولد كما أسلفنا لم تعجبه هذه الممارسة، ولكنه - في نفس الوقت - شعر أن استخدامه بالطريقة التي لجأ إليها كبار الكتاب لا تستحق الشجب. الكويتب الصغير الذي يرفض مواجهة رعبه من السطر الأول ويلجأ للاقتباس والاستشهاد بعبارة من نص كلاسيكي لا يعتبر عبقريا مثل مبدع ذلك النص الكلاسيكي والذي - بالطبع - يرحب بنقل استشهاد من نصه. بالنسبة للمقتبس، فإن كتابة اقتباس ليس سوى حيلة لإعلان عضويته في مجتمع العقول العظيمة، وليس درعا لا يجرؤ بدونه على اقتحام أسوار كتابه الشخصي. وفي العموم وفوق مستوى معين من العبقرية، فإن الكتاب العظماء يصبحون واحدا ونفس الشخص أي أنهم أفراد مستخرجون من شكل معين يسمى الأدب. لقد رأى غولد عالم الكتاب العظماء كنوع من المائدة المستديرة حيث الكل واحد والواحد هو الكل. ومن هذا المنظور، ليس مهما إذا كان السطر الأول من كتاب الكاتب العظيم (س) كان بالفعل قد كتبه الكاتب العظيم (ص): فهما في كلا الحالتين أدب عظيم. ويبقى هناك احتمال مزعج بأن الكاتب العظيم (س) قد يستخدم استشهاد من الكاتب الرديء (ر) كـ «اقتباس» ليفتتح به كتابه، ولكن غولد وجد تلك الفكرة كريهة بل مثيرة للاشمئزاز لدرجة أنه رفض مواصلة التفكير فيها.

في رواية «لوليتا»، استخدم الروائي فلاديمير نابوكوف فكرة ذكية بوضع مقدمة تسبق الكتاب بأكمله بقلم طبيب خيالي (وهمي) اسمه جون راي. لقد كانت حركة تنم عن دهاء، لأن لا أحد سيفكر أن يطلب من وثيقة طبية أن تقدم أي سمة رائعة للأسلوب الروائي الذي يليها. لا أحد يختار طبيبا دجالا ليكون الريشة التي تكتب له. وبالتالي تخلص نابوكوف من رعب السطر الأول بإلقائه على جون راي، ومن ثم أصبح قادرا على تأليف الكتاب بقلب مرتاح وغير معذب. وبطريقة ما، كانت تلك الحيلة بمثابة اختراع اقتباسك الخاص عن طريق نسبه إلى شخصية وهمية لا يكون شاغلها الرئيس هو الأسلوب.

ومن ناحية أخرى اختار أوسكار وايلد طريقا صعبا. فقد بدأ بورتريه «دوريان غراي» بإعلان مزدهر بنية بذخ لا مثيل له صدم به القارئ: «الفنان هو مبدع الأشياء الجميلة» كما قال السطر الأول من المقدمة. غولد عرف أن تلك المقدمة هي جزء لا يتجزأ من النص، وأن الشجاع وايلد لم يتعثر في مواجهة العدو: لقد تفجر ذلك السطر مثل شمس ساطعة، وقد أعجبه المزيد من ذلك.

وبالمثل بدأ الروائي الألماني توماس مان روايته «الجبل السحري» بعبارة طويلة عن هدفه ما عزز استنتاج غولد بأن المقدمة هي بالفعل جزء لا يتجزأ من النص، وقد واجه توماس مان رعب الهجوم على السطر الأول بكل شجاعة قد يتوقعها المرء من هذا الرجل العظيم.

لقد كتب كل من موزيل، جويس، فوكنر، بوويز، لورانس، جورج أورويل، سيلين، دوبلاين، سطور أولى بكمال مثالي مدهش. وكلما تعمق في بحثه عن السطر الأول، تشكك غولد في طريقته هذه للعثور على سطر أول مثالي. فبدلا من بعثرة نفسه بهذه الطريقة، ألم يكن من الأصوب أن يستقر على أسلوب لأحد العباقرة ودراسته؟ ثم أليس هناك شيء ما مضحك بصورة طنانة في دراسة فقط أعظم العظماء؟ الأسطر الأولى من الروايات التجارية الرديئة وكذلك الكتب الشعبية في المطارات لربما علمته درسا أكثر واقعية لطرد ذلك الرعب الشرير للسطر الأول. وهل توقع في محاولته الأولى أن يصيغ عبارة افتتاحية مذهلة مثل تلك التي كتبها ستيرن أو والسر، وهو الذي حتى لم يؤلف كتابا لكونه لم يعرف كيف يكتب سطره الأول؟ وفكر في ذلك لبضع لحظات ورفض تلك الحجة. بالطبع، كان ينبغي أن يكون أكثر تواضعا لدراسة الأسطر الأولى لأعمال أقل عظمة من القمم الرائعة التي حاول تسلقها، ولكن تعمد اختيار أستاذ متواضع هو منهج غير مجد وغير مفيد. فالذي يريد تعلم الرسم سوف يكسب أكثر عندما يتأمل لوحات الرسام الفرنسي العظيم ماتيس أكثر من أي رسام متوسط القيمة. وبالمثل فإن نفس المنطق ينطبق على الأدب.

وعلى أية حال، فإن دراسة الأسطر الأولى من الكتب المفضلة لديه لم تساعد غولد بقدر ما كان يرغب. وتركت قراءاته انطباعا غامضا عنده. شعر في بعض الأحيان أنه مستعد للمعركة، قائلا لنفسه إن ذلك الرعب هو مجرد عائق نفسي فقط، وأن الكلمات الأولى ليست سوى جزءا من النص وأنها مسألة تتعلق بقوة الإرادة والحالة العقلية ولا علاقة لها مع أي مراوغة وجودية مزعومة للعبارة الأولى. ولكن في أوقات أخرى، قال لنفسه إنه لن ينجح، وأن السطر الأول هو بالفعل وحش مرعب ومفترس لا يقدر على مواجهته، وأن فقط الكتاب العظماء هم القادرين حقا على مواجهته. وفي مثل هذه الأوقات تغلب عليه اليأس ولجأ إلى التهكم ليلعب كرت السخرية الماكر (والذي كان سينتج عنه عبارات مثل: «أمي توفيت اليوم، ولم يمنعني ذلك من النوم مبكرا»). شعر بقلق، فقد كان لديه انطباع بأن السطر الأول الكامل الذي سعى للبحث عنه طويلا كان يسخر منه طوال الوقت مثل أوزة برية شريرة. إنه سام ومتوحش وجعله يشعر كم كان رديئا بحق، وكم كان لا يستحق المقارنة مع العظماء. ولأنه لم يعد يتحمل إمكانية كتابة افتتاحية يرثى لها، فقد بدت له مشكلة السطر الأول بدون حل.

ثم بزغت في عقله فكرة عظيمة. وذلك أن الرغبة في مواجهة تلك العقبة قد تكون عبر تجاوزها والمرور فوقها بدلا من اقتحامها والدخول فيها. ألم يفشل في العثور على سطر أول كامل؟ حسنا، فليكن ذلك كذلك إذن! سيبدأ بالسطر الثاني. يا لها من فكرة مثيرة!! ثم أمسك قلمه وبدأ السطر بقوسين يحتويان على ثلاث نقاط بمعنى أن هناك عبارة محذوفة حيث كتب: «(...) هذا هو السبب في أنني لم أتقدم أكثر». ثم شعر براحة هائلة. الصخرة التي كانت تقفل تدفق فكره طارت للتو في مهب السماء العالية. غولد بدأ كتابه، وهو الكتاب الذي يبدأ بالجملة الثانية. تأمل في الأمر وهو يشعر بارتياح عميق. ولكن مع ذلك، لاحظ بسرعة بروز مشكلة جديدة. لقد كانت بسيطة للغاية، لأنه في الواقع: القارئ الذي سيفتح كتابه سيبدأ مباشرة بالجملة الثانية، دون أن يدرك أنها ليست الجملة الأولى. إذا كان غولد قد نجح في كتابتها، فهذا لكونه يعرف أنها ليست العبارة الأولى ونتيجة لذلك لم يكن عليه السعي لتحقيق الكمال المثالي المطلق. لو كان أبدعها كسطر أول فمن المرجح أن يكون سعى لابتكار عبارة أكثر كمالا وأناقة من تلك العبارة، حتى لو تطلب ذلك أيام وأيام لمطاردة شكلها المثالي. «لامبالاة» القارئ المتوقعة دمرت فكرته المثيرة: فإذا كان القارئ سيعتبر الجملة الثانية بمثابة الجملة الأولى فإن غولد بالتالي لن يكون قادرا على كتابتها أيضا. وفكر في وضع ملاحظة تمهيدية في بداية الكتاب لتوضح أن الجملة الأولى هي الثانية، ولكن لسوء الحظ، فإن هذه الحركة حولت ونقلت المشكلة فقط ولم تحلها، وذلك لأن الملاحظة التمهيدية ستحتوي على السطر الأول الفعلي للكتاب وبالتالي لن يكون هو قادرا على كتابته.

وأصبح غولد مهتاجا وقلقا وبدأ جسمه يتنافض بأكمله وعندها خطرت له فكرة أكثر راديكالية. بما أن وضع السطر الأول بين قوسين، كذا (...)، جعله يبدو كأنه السطر الثاني، فسوف يضع السطر الثاني بالمثل بين قوسين أيضا. وهكذا يصبح السطر الثالث هو الأول وهلم جرا للسطر الرابع والخامس إلخ. وفي ذروة الإثارة مع الاهتياج المزعج، كتب غولد الفقرات الثلاث الأولى من كتابه دفعة واحدة هكذا: «(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...)(...) (...)(...)(...)(...)(...)(...)».

وفي النهاية لم يستغرق الأمر سوى 24 ساعة للانتهاء من الكتاب. شرب نخبا وهو يشعر بفخر ثم قرأه ما يزيد على مرتين قبل السقوط من الإرهاق. وهكذا أصبح غولد مؤلف للرواية التي من أجل صياغة سطر أول مثالي لها، لم تبدأ على الإطلاق.

وبعد سنوات عديدة، تغلب غولد على رعبه من السطر الأول وكتب بالفعل بعض الكتب. لقد أصبح مؤلفا محترما ومعروفا في جميع أنحاء أوروبا. وعندما شاخ وبدأ صيته يأفل، بدأ يكتب ذكرياته. ستكون كتابه الأخير، وسيكتبه بأسلوب شفاف وطبيعي. وفي ذلك الكتاب، سيتحدث بطرافة عن القلق السخيف في شبابه الذي وضع حدا مؤقتا لطموحاته الأدبية. الكلمات كانت تتدفق أمامه كالسحر. وبعد عدة أسابيع من النعمة الإبداعية، قرر إنهاء هذا الأمر. ثم سقط ضحية مفاجئة لقلق مفرط. تولدت لديه شكوك في قدراته جعلته يدور مرارا وتكرارا في دوائر، ويفقد ثقته الرائعة بنفسه. ولأنه صار يشعر بأنه تقدم في العمر لدرجة لا تجعله يأمل في تأليف كتاب آخر، فإنه يعلم أن الكلمات التي يوشك على كتابتها ستكون الأخيرة. السطر الأخير من كتابه سيكون آخر شيء يفعله في حياته أي عمله الأدبي النهائي، وسيكون نوع من الإرث التاريخي. إنه مدين لنفسه أن يفعل شيئا يخلده، وهذه الفكرة تسرق منه النوم. يخاف غولد أن يموت قبل العثور على السطر الأخير المثالي. إنه عذاب حقيقي بالنسبة له. ويشعر بسرعة أن آخر طاقة إبداعية لديه بدأت تتسرب وتهرب منه. وعندما بدأ يفقد الأمل، كتب مع غمغمة غاضبة: «(...)». وللحظة خاطفة نظر للصفحة الأخيرة من كتابه الأخير، وعرف أن إخفاء السطر الأخير لا يكفي، لأن السطر السابق للأخير يصبح هو بمثابة السطر الأخير. ولذلك، يجب أن يخبأ السطر قبل الأخير بوضع قوسين بينهما ثلاث نقاط وكذلك السطر السابق لما قبل الأخير وبالطبع السطر الذي قبل قبل الأخير. وشيئا فشيئا بدا كأنه يمسح صفحات الكتاب ويواصل وضع تلك الأقواس ليخفي سطور الكتاب هربا من رعب السطر الأخير ليبلغ حجم المسح 500 صفحة من كتاب ذكرياته خلال بضع ساعات فقط وذلك لأنه يرغب في إنهاء الكتاب بسطر أخير مثالي . وهكذا أصبح مؤلفا لكتاب ذكرياته الذي بسبب عدم انتهائه بسطر أخير مثالي ومستحيل، لا يبدأ بكتابته مطلقا. وهكذا أصبح السطر الأخير لأهم كتبه مماثلا للسطر الأخير للكتاب الذي قبله. شعر بقلق مرعب وأعاد قراءة الكتاب ثم قرر بشكل قاطع أنه لا يستطيع وداع الأدب بهذه الكلمات. ولذلك قرر حجب وإخفاء ذلك الكتاب وكذلك الذي سبقه. ثم قام أيضا بمسح كتابه السابق للأخير من النهاية إلى البداية بسبب رعب السطر الأخير. وفجأة يشعر غولد بهلع مرعب، وتناول كتبه السابقة وبدأ بمسحها بالعكس. وتوقف قلبه عن الخفقان بينما كان يمسح روايه الثانية. ويترك وراءه عملا لم يكتمل. ولكن ليس لأنه لم ينهه بالكامل ولكن لأنه لم يجد وقتا لمسحه وتدميره تماما. انتهى النص.

برنارد كيغيني - ديجون، فرنسا

-

- المغرب hamad.aleisa@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة