Culture Magazine Thursday  15/12/2011 G Issue 356
فضاءات
الخميس 20 ,محرم 1433   العدد  356
 
رؤية
بين مبدأ «التدجين» والتمرد البنّاء
فالح العجمي

لا يتوقف دعاة التفكير الإبداعي عن الخوض في التسويق لحسنات الخروج عن المألوف في طرق التفكير، ومعالجة الأمور بطرق متغيرة باستمرار؛ بحثاً عن الوصول إلى بدائل إيجابية من خلال تلك المحاولات من جهة، والحصول على منافع نفسية للممارس تعود عليه من جراء الرضا الوظيفي وتحقيق الذات من جهة أخرى.

فما الوسائل الموصلة إلى مفترق الطرق الذي يبيح النظر إلى المسالك المتعددة برؤية بانورامية واسعة؟

أحد عوامل تحقق تلك الرؤية يتمثل في القبول بالتخلي عن العادات المترسخة نتيجة إجراءات التدجين المؤدية إلى زوال دينامية خلايا الدماغ، وإلى تكلس أجهزته الفاعلة تبعاً لذلك. وفي الحقيقة أن التمسك بتلك العادات يؤدي إلى تمثل القواعد بانتظام، وهو الداء المبدد لكل قدرة إبداعية؛ فما لم ينفتح التفكير على المبادرات المتنوعة، فلن يكون هناك تجدد في التفكير، ولا اهتمام بمدى نجاعة الحلول أو الاقتراحات المقدمة بوصفها مداخل للتحليل أو مخارج للمشكلات.

تذكرت عبارات قاتلة في دلالاتها أو في تأويلها، وأنا في خضم البحث عن الوسائل الموصلة إلى مفترق الطرق. من أمثلتها في الثقافة العربية – على سبيل الذكر لا الحصر – العبارات التي يتداولها الخطاب الديني الجامد، أو الشعبي المستكين للأوضاع الراهنة، من مثل: «كل بدعة ضلالة»؛ «الله لا يغيّر علينا!». فهل يمثّل الأمر الجديد خطراً يجدر التحذير منه؟ وهل وصل الأمر بدعاة التدجين إلى رفض تطور الواقع الاجتماعي أو المعيشي بأي حال؟

سأذكر مثالاً من أمثلة كثيرة عايشتها، كما مرت بكثير منكم بكل تأكيد: كنت قد توليت الإشراف الكامل على دعوة أحد العلماء الأعلام من جامعة مرموقة بوصفه أستاذاً زائراً، وعانيت من كثرة المراجعات الشخصية لإتمام الأمر لدى الإدارات المعنية. كل ذلك يهون عند التعامل مع الأمور المالية المتعلقة بصرف مكافأة ذلك الأستاذ الزائر؛ فقد أبلغنا أحدهم بأن يترك رقم حسابه في بلده، ليحوّل إليه المبلغ بعد انتهاء فترة الزيارة. وبعد أن غادر إلى بلده، بنوك الداخل. ما العمل إذن؟ اقترحوا عدة حلول متباينة، وكأن الأمر يحدث لأول مرة. وعندما اخترنا الأنسب منها – وهو أن يُطلب صرفها إليّ، وأنا أرسلها إلى حسابه مشفوعاً ذلك الطلب بخطاب رسمي من عميد الكلية – سارت المعاملة بشكل طبيعي؛ وعندما وصلت إلى المراقب المالي، قال: تعرف بأن هذا أمر غير نظامي؟ ولكننا سنتجاوز! قلت له: يا أخي، قل لي: ما هو النظامي؛ فأنتم لا تصرفون له وهو بينكم لمدة شهر كامل، إلا بعد أن ينتهي ويغادر، ولا تحوّلون إلى حسابه هناك، ولا تريدون أن تصرفوا لشخص سيقوم بهذا الجهد بنفسه. هل يوجد عندك حل واحد نظامي؟ لم ينبس ببنت شفة، لكني متأكد أن هذا الإجراء سيبقى – طالما غابت الرؤية الشاملة التي تركز على الجوهر، وتترك الرتوش!

عاجز هو من يريد ترك الأمور «على طمام المرحوم»، وفاشل هو من يظن أن التغيير وإعادة النظر في الهياكل أمر مريب، ولا يجدر أن تتبعه المؤسسات الراغبة في الاستقرار والحفاظ على التقاليد المتبعة والنظم المطبقة – دون مراجعة. وأعجز من ذلك من يتوخى ثبات الأمور طمعاً منه في بقاء المصالح ومراكز القوى، وأكثر فشلاً من يسوّغ له تفكيره اقتران صد التغيير بعدم حصول التغيير؛ فالأنظمة الاجتماعية بكل أشكالها ودرجاتها، بل والسنن الكونية عرضة للتغير مع دوران تروس الزمن، حتى وإن أعرض عنها من يظن أنه قادر على إيقاف تلك التروس. عدا عن مسلّمة مفادها أن ما يصلح في زمن قد يكون كارثة في غيره!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة