Culture Magazine Thursday  15/12/2011 G Issue 356
فضاءات
الخميس 20 ,محرم 1433   العدد  356
 
أطلال ناجي.. والوداع
فيصل علي أكرم

يا فؤادي: رَحِمَ اللهُ الهوى

كان صرحاً من خيالٍ فَهَوى

كنا نسمعها صغاراً بصوت أم كلثوم (لا تسل أين الهوى) وكان من يردد (رحم الله الهوى) نحسبه مخطئاً!؛ وكانت الأغنية تعرف بالمقطع الأشهر فيها:

هل رأى الحبُّ سكارى مثلنا؟

كم بنينا من خيالٍ حولنا!

ومشينا في طريقٍ مقمرٍ..

تثبُ الفرحةُ فيه قبلنا!

وضحكنا ضحكَ طفلينِ معاً

وعدوْنا، فسبقنا ظلنا..!

والغريب أن هذا المقطع بكامله ليس من قصيدة (الأطلال) إنما هو مأخوذ من قصيدة أخرى للشاعر نفسه (إبراهيم ناجي 1898 – 1953) عنوانها (الوداع) اختارت أم كلثوم أبياتاً منها - بمساعدة الشاعر أحمد رامي- كما اختارت أبياتاً من (الأطلال) ودمجت المقاطع بترتيب مُحدث ولحّنها رياض السنباطي فظهرت أغنية (الأطلال) بصوت كوكب الشرق عام 1966 أي بعد وفاة شاعرها بثلاثة عشر عاماً. تغلغلت هذه الملحمة الشعرية الساحرة في وجدان أجيال متعددة، بخاصة من قرأ النصّ كاملاً ولم يكتف بالمختارات المغناة.. على أن الأغنية (الأطلال) كانت هي السبب الحقيقيّ لانتشار اسم إبراهيم ناجي شاعراً عربياً أطرب بشعره الناس حتى الثمالة!، وأذكر حين كنتُ في المرحلة المتوسطة، أنني قرأتُ حواراً مع الوزير والأديب الأشهر في ذلك الوقت الدكتور الشاعر غازي القصيبي (ولم أكن قد قرأتُ له سوى قصائد قليلة، وطبعاً لم يكن يعرفني آنذاك – رحمة الله عليه) سُئل فيه: ما القصيدة التي تتمنى لو كنتَ أنتَ قائلها؟ فأجاب: (الأطلال، لإبراهيم ناجي) فشعرتُ حينها بشيء مشترك يضاف إلى إعجابي بشخصية القصيبي، وقد اتضحت الأشياء المشتركة بعد عمر من ذلك العمر، على رغم أنّ تجربتي الشعرية تبتعد عن (الرومانسية) التي تتسم بها شعرية إبراهيم ناجي، وكذلك شعرية غازي القصيبي الذي ألّف كتاباً عنوانه (مع ناجي ومعها)؛ إلاّ أن الشعور المشترك هو الشعر الحقيقيّ نفسه في أيّ اتجاه كان.. قصيدة (الأطلال) ذات النفس والتقطيع الملحميّ نشرها إبراهيم ناجي في ديوانه الثاني (ليالي القاهرة) الصادر عام 1950، أمّا قصيدة (الوداع) فهي ضمن ديوانه الأول (وراء الغمام) الصادر عام 1934م. ولا أظنّ مقطعاً يهزّني في الأطلال المغناة (أو المغنّى بعضها) كما يفعل هذا المقطع:

وانتبهنا بعد ما زال الرحيقْ

وأفقنا.. ليتَ أنّا لا نفيقْ

فإذا النورُ نذيرٌ طالعٌ

وإذا الفجرُ مُطِلٌّ كالحريقْ

وإذا الدنيا كما نعرفُها

وإذا الأحبابُ كلٌّ في طريقْ

والأغرب أن هذا المقطع أيضاً مأخوذ من قصيدة (الوداع) وليس (الأطلال)!

وفي المقابل لا أظنّ مقطعاً استوقفني في الأطلال القصيدة (النصّ الكامل) كما فعل هذا المقطع:

يا مغنّي الخُلد، ضيَّعتَ العُمُرْ

في أناشيدٍ تُغنّى للبَشَرْ

ليسَ في الأحياءِ من يسمَعُنا

ما لنا لسنا نغنّي للحَجَرْ؟

للجماداتِ التي ليستْ تعي

والرميماتِ البوالي في الحُفَرْ

غَنِّها، سوفَ تراها انتفَضَتْ

ترحم الشادي وتبكي للوَتَرْ!

وهذا المعنى الشعريّ بامتياز، يذكّرني بالآية الكريمة 21 من سورة الحشر، إذ يقول الله عزّ وجلّ (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) – مع اختلاف المعنى والتصوير واللفظ والمثال طبعاً! – وقد تفكّر ناجي فأبدع أطلالاً شعرية خالدة في الذاكرة.. إلاّ أنّ أحداً من عمالقة الثقافة المعاصرين لإبراهيم ناجي لم يمتدح شعره بما يستحق من مديح وإعجاب، بل كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يسخر من ناجي وشعره ويصفه بأنه (طبيب الأدباء وأديب الأطباء!) ذلك لأن ناجي بحكم مهنته كطبيب كان قد فتح عيادته للأدباء والفنانين بدون مقابل. أمّا الرأي الأشد قسوة فكان في قول طه حسين يصف شعر إبراهيم ناجي بأنه (شعر مناسبات وصالونات ولا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البردُ من جوانبه)! كانت آراء طه حسين قاسية جداً على الشاعر وسببت له إحباطاً عظيماً، كذلك تمنّع أم كلثوم عن غناء شيء من شعره زاد من إحباطه وشعوره باللا جدوى، ناهيك عن إصابته بمرض السكّر مما سبب له تشتتاً فكرياً لا يصاب به إلا العباقرة، فدهسته سيارة وهو يمشي على قدميه في شوارع باريس وتسببت له في إصابات بالغة عاش متألماً بها حتى وفاته يرحمه الله، وقد كتب عن تلك الحادثة قصيدة جاء في مطلعها:

(خرجتُ من الديار أجرُّ همّي

وعدتُ إلي الديار أجرُّ ساقي)!

ودائماً ما تأتي مثل هذه التساؤلات بعد عقود من المرحلة: ماذا لو غنّت أم كلثوم (الأطلال) في حياة الشاعر، فسعد بتحقق أمنيته ونجاح قصيدته؟

ماذا لو كانت اهتمامات النقاد ودراساتهم كُتبتْ عن الشاعر في حياته فقرأها واستأنس بها؟

هل كثيرٌ على الشاعر المبدع أن يرى اعتراف الناس بإبداعه وهو حيّ؟!

كلما سمعتُ أغنية (الأطلال) بصوت أم كلثوم أو غيرها من المطربات والمطربين تذكّرتُ إبراهيم ناجي في قصيدة (الوداع):

حانَ حرماني فدعني يا حبيبي

هذه الجنة ليستْ من نصيبي

فترحمتُ عليه، وعلى الهوى، وازددتُ غيظاً من تباطؤ أم كلثوم وتأخير اعتنائها بشعر ناجي وغنائها له، كما ازددتُ عتباً على طه حسين واستنكاراً لآرائه الظالمة المجحفة بحق شاعرٍ معذَّبٍ عَذْبٍ عظيم..

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة