Culture Magazine Thursday  16/06/2011 G Issue 346
فضاءات
الخميس 14 ,رجب 1432   العدد  346
 
رؤية
من أنا ومن أنتم (1-2)
أ.د. فالح العجمي
-

لم يقصد بهذا السؤال الفلسفي الاتكاء على أفكار الوجوديين في تقصي جوانب قضية السؤال؛ بل يكفينا الانطلاق من مقولة أن العالم هو ما أتصوره. فهو - في المحصلة - عمل إبداعي تنتجه قدرات التصور الذهني لدى الإنسان، إلى الدرجة التي يزعم بعض المفكرين في وصفها، بأن الإنسان فنان يبذل جهده متأنقاً في صناعة عالمه الخاص، ليكون ذلك العالم مملكته المحفوفة بالطمأنينة. وبذلك تتولد لدى جاره القريب تصورات ذهنية أخرى؛ مما يعني أنها لدى كل فرد نتيجة فهم العالم، ونابعة من إنتاج الخيال، بوصفها مكونات الوعي الذاتي، لكن وعيي في النهاية هو أنا.

هكذا - ربما - يمكننا فهم عبارة سارتر الشهيرة: L›homme se fait (الإنسان يصنع نفسه بنفسه). وهذه الفكرة المحددة لعلاقات الصور الذهنية بالواقع ولّدت مفاهيم أخرى؛ بعضها يتداوله الناس بوصفه حكمة يتعاملون بها مع تحيزات الآخرين، واحتكارهم الحقيقة، من مثل قول أدونيس: أنت لا تكرهني! أنت تكره الصورة التي كونتها عني، وهذه الصورة ليست أنا؛ إنها أنت!

راودتني هذه الأفكار وأنا أستمع إلى بعض ممثلي الأنظمة العربية المتهالكة، وهم يتحدثون على شاشات القنوات الفضائية الإخبارية؛ حيث تصدم العاقل مواقفهم ورؤاهم التي يدافعون من خلالها عن مظاهر سلوك ممجوجة لأجهزة السلطة الأمنية والسياسية، بل جنائية ومجنونة وغير ذات هدف. يتأمل المرء أولئك الحمقى؛ أصحيح هم مؤمنون بما يقولون؟ وهل يتصورون الواقع بالطريقة التي يصفونه بها؟ أم إنهم قد شكلوا الواقع في أذهانهم كما أرادوه، أو كما أراده لهم أصحاب القرار وأولياء النعمة؟

تلتفت إلى ممثل حكومي لسوريا، أو محلل سياسي مقيم هناك، فتجد العبث والاستخفاف بعقول الناس؛ يرددون كلاماً لا يمكن أن يقبله عاقل لديه إحساس إنساني في أقصى بقاع الأرض، فكيف بمن يُقتل إخوانه وأبناء وطنه بدم بارد؟ يعيدون كلاماً خرافياً عن أناس مسلحين يستدعون إدخال الدبابات وآليات الجيش إلى الشوارع، ويبررون قبل الجيش لبعض أفراده المنشقين والرافضين لقتل مواطنيهم، بأن تلك الجماعات الإرهابية هي من يقتلهم.

وتنظر إلى ممثل للحزب الحاكم في اليمن يتحدث عن رئيسه الذي يقتل شعبه، فكأنه يتحدث عن ملاك طاهر لا يقبل أن تمس بلاده بسوء، ويحرص على صيانة مؤسساته ودستوره. فتجده يوزع التهم بالعمالة والخيانة لكل مناوئ للحزب الحاكم وزعامته، وكأنه ضمنياً يجعل البلاد تتماهى مع الأشخاص.

وتوجه النظر نحو ليبيا، فتلمس إصراراً غريباً عند عناصر ما يسمى كتائب القذافي على التمسك بنظام تتساقط جذوره، وليست أوراقه فحسب. ألا يعلم أو يتصور أولئك المحيطون به من الساسة، أو المنتمين إلى كتائبه من العناصر العسكرية، ولو من باب النظرة البراجماتية الصرفة، أنه ليس من مصلحة أحد على الإطلاق، في الظروف الأخيرة على أقل تقدير، البقاء في معسكر القذافي، مع التضحية بالآخرين وبأنفسهم. بل حتى وإن لم يموتوا، فليست في مصلحتهم القريبة أو البعيدة البقاء مع رهان خاسر.

ربما يقودنا هذا الأمر إلى الإقرار، بأن عقوداً من الظلم والقهر قد ولّدت عقولاً جمعية لم يعد بإمكانها سوى أن تصنع مرجعيات للقيم تختلف عن المرجعيات العالمية المشتركة بين كثير من أمم الأرض. فكيف تختلف تلك المرجعيات، وتتعدد أشكالها من ثقافة إلى أخرى، أو من تجارب ذاتية إلى غيرها؟

كانت تحيرني كثيراً حالات الازدواج بين الواقع العربي (أو الشرقي عموماً) وبين أزمة العقل إلى أن توصلت إلى ما أظنه حلاً لتلك الحيرة، وهو ما تسمح به مساحة رؤية القادمة إن سمحت رغباتكم في معرفته.

-

+ الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة