Culture Magazine Thursday  19/05/2011 G Issue 342
فضاءات
الخميس 16 ,جمادى الثانية 1432   العدد  342
 
الوادي الظليل
د. غازي قهوجي
-

عندما نقرأ عن «أمكنة» عربية قديمة، سَبَقَ وأن لعِبَتْ دوراً حاسماً ومفصلياً في تكوين ذاكرتنا الثقافية، تجتاحنا رغبة دفينة متوارثة لزيارتها ومعاينتها والتأمل بتفاصيلها، إن لم نقل تتعاظم لدينا اللهفة والحماسة لمحاورتها واستحضار ناسها، واستدراجها إلى البَوْح بعد مرور قرون عدة من الغياب المزمن للمحاورين.

يقال ويتردّد بأن الشعور «بالحنين» هو -في بعض تجلّيات معانيه- يميل نحو «الأمكنة» ويختصّ بها. وأن الإحساس «بالشَوْق» هو- فقط- نحو «الإنسان».

من هذا المنطلق، ذهبت مغتبطاً بصحبة الصديق الكاتب عبدالله محمد الناصر، وبدعوة كريمة من الهيئة العامة للسياحة والآثار إلى «وادي حنيفة»، وإلى العديد من الأماكن المميّزة بفرادتها والثرية بمخزونها التاريخي.

دخلنا «الوادي» وكان قد سبقني إليها «الشوق» وعَصَفَ بي «الحنين». فمنذ اللحظة الأولى، ومنذ الخطوة الأولى تيقَّنْتُ بأنني على ثرى أرض استثنائية، وفي حضرة «مناخ» ضجَّ -وما يزال- بالتاريخ، وشعرتُ بأعلى درجات الانتماء ودفء القربى والألفة والوداد. وكان صديقي الأستاذ عبدالله، من أبناء هذه «الأمكنة» ووليدها، إذ من رحيق عَبَقها نَبَتَ عشقه لها وكَبُرَ هواه، لتتَّسع آماله وأمانيه في استنطاقها وإزالة الغبار عن تاريخها الثقافي وخصوصاً الشعر، واستعادة دفقه الإبداعي كموروث لا يقارن ولا يجارى، من شأنه أن يعيد بعض الثقة الى مسارنا الثقافي، ويشكّل جواباً قاطعاً على العديد من التساؤلات المعاصرة، والحيرة المزمنة والثقافة الملتبسة.

ولقد شرح لي صديقي وأفاض مضيئاً على مفاصل وعلى تفاصيل بأسلوب المختزل العارف، والقاطف لمفاتيح الأحداث والوقائع مع خواتيمها، فاستذكر العديد من الشعراء الذين جذبهم «الوادي»، وبه مرّوا، أو استقرّوا، وفيه انتظروا و باحوا وأبدعوا وناجوا وهاموا..

ومن خلال السرد وذكر بعض الأبيات، غَمَرتْني نشوة عارمة أدخلتني في حلم يقظة طويل، لتصبح «الأماكن» أمام ناظري «مأهولة» بالناس، ومملوءة بالحركة والحياة، فبدأت أسمع صهيلاً ورغاء وثغاء متقطعاً يخالطها جميعاً رنين أجراس صغيرة متفرقة، وأصوات باعة تنطلق من هنا ومن هناك وسط دخان بعض المواقد والمجامر، حيث رحتُ أتنسَّم رائحة «البن» المغلي تعطّر كل المكان. وَوَصل إلى سمعي صوت على مقام الحجاز يصدح به شجناً «حادي» ركب قافلة هَمَّتْ بالسفر لتنضمّ إلى القافلة الكبرى في رحلة «الصيف» المتَّجهة إلى بلاد الشام. وتراءى لي أنه عند كل ربوة وعند كل منحنى خَطَرَ ويخطر شاعر.

وعبر مسرى «الوادي» الطويل المزنَّر بنخيل باسق لم يعرف الانحناء، لمحتُ تهاويل «وشم» خطوات بعض القدامى محفورة في التراب الذي تماسك وتحجَّر بمرور الزمن. كانت خطى لروّاد دَجَّنوا «الأمكنة» وتصالحوا مع الأرض فحضنتهم وألَِفَتْهم وألفوها، فأعطتهم غزيراً من عطايا نخلها وثمار وأفياء شجرها.

وكدتُ أسمع هسيس أنفاسهم كلما داعب نسيم الصبا النجدي سعف النخل، وكلما غطَّت عصافير الواحات على أغصان شجر «الأثل».

وحين سجى الليل انداح مديداً صوت «عبدالله» مردّداً بعض أبيات من شعر «الصمّة القشيري»، والذي قد يكون قارَبَ بها «المكان» وكاد أن يختزله، موجزاً «الشوق» وذائباً في «الحنين»:

بروحي تلك الأرض ما أطيب الربى

وما أحسَنَ المصطاف والمتربَّعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدَّعا

وليست عشيـَّات الحمى برواجعٍ

إليكَ ولكن خلِّ عينيكَ تدمعا

كأنَّا خُلِقْنَا للنوى وكأنّما

حرامٌ على الأيام أن نتجمَّعا

وعلى كتفي «الوادي»، الذي عاش حياة حضرية موغلة في القدم، قَطَنَتْ حضارات عدّة «كَطَسَم وجديس»، وشكَّل بما امتلكه من مزايا طبيعية موطناً ومركز استقطاب لبعض فحول الشعر والمبدعين والمنجزين ومن أصحاب «الأيام» كزهير بن أبي سلمى والأعشى وذي الرمَّة وجرير وعباس بن الأحنف ويحيى الحنفي والزبرقان والحطيئة.

هذا الوادي «الاستثناء» الذي حادَتْ عنه -لمنعته- هُوجُ خماسين الرياح، فخَرَج عن السائد والمألوف في زمنه، ولم يألف «البكاء على الأطلال»، فقد كان «دمع» من أقام فيه أو عَبَرهُ عذباً ومالحاً في آنٍ معاً!.

وعند مغادرتنا المكان باتجاه «الدرعيّة» وآثارها، تبيّن لي بأننا على قاب قوسين أو أدنى من «ملتقى الدمعين», حيث كان منسوب (العذوبة) فيهما أعلى وأصفى و أغزر.

Kahwaji-ghazi@hotmail.com

يتبع جزء ثانٍ بعنوان «الدرعيّة قمر الوادي الجميل»

-

+ - بيروت

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة