Culture Magazine Thursday  20/01/2011 G Issue 330
فضاءات
الخميس 16 ,صفر 1432   العدد  330
 
مساقات
الثبيتي ( ذالك الصوت الحداثي الأصيل
ا.د. عبدالله بن أحمد الفيفي

-1-

لعل من الملامح الفارقة الأوّليّة في النصّ الشعريّ الحديث في المملكة العربية السعودية، تلك المحاولات لدى بعض الشعراء لافتراع جزالة لغويّة حديثة؛ تحتفظ بنكهتها التراثية ضمن مغامراتها التجديديّة. بحيث تقوم المعادلة في تلك النصوص على الموازاة بين أنفاس الأصالة العربية -لغة وبياناً- وحداثة المفردة الشعرية، وانزياح التركيب. ومن أبرز شعراء الحداثة تميّزاً في هذا المضمار الشاعر محمّد الثبيتي. إذ يمكن أن توصف قصيدته بأنها ذات أسلوب حداثيّ أصيل، لا في مستوى التوظيف لقوالب مستلهمة من التراث فحسب، ولكن أيضاً في مفرداته الشعريّة، ونسيجه الأسلوبي العام. على أن المسألة في هذا ليست برهينة المحاولة التوفيقيّة وحدها، بل هي وليدة التأسيس الثقافيّ؛ فلقد مرّ الثبيتي بتجربة غنية العلاقة بالتراث، كما خاض تجربة نظميّة متألّقة متأنّقة، وذلك ما يتبدّى من قصيدته «صفحة من أوراق بدوي»، مثلاً، أو «مسافرة»- اللتين أدرجهما في مجموعته الثانية، «تهجيت حلماً تهجّيت وهماً»، (1983)، تحت عنوان: «بقايا أغنيات»؛ وكأنهما بقايا ذكريات من مراحله الأولى، أو من: «الزمن الوردي»، الذي حمل ديوانه الأول الإشارة إليه: «عاشقة الزمن الوردي»، (1982).

ومع تخطّي الثبيتي هذا الطور من رحلته الشعريّة فقد بقيت ذاكرته حاشدة بأصداء التراث، حسب نصوصه التي راود فيها التجاوز. وهو ما كان يُكسب لغته رهافة خاصة، ويُثري مفردته بالإيحاء التعبيريّ الغنيّ. وتلك ظاهرة بارزة في شعره، يوشك أن يتفرّد بها صوتُه بين مجايليه:

كان يثوي بقربي حزيناً

ويطوي على ألمٍ ساعده

قلتُ: من؟

قال حاتم طيٍّ

وأنت؟

فقلتُ: أنا معنُ بِنْ زائدةْ(1)

ففي هذا النصّ -على سبيل النموذج- تكتنز مفردتا «يثوي» و»يطوي»، بصورة بليغة الإيحاء عن الانكسار الذي جاء النصّ ليعبّر عنه. وهما يؤدّيان ذلك لوحدهما لا من خلال الدلالة المعجميّة فحسب، ولكن كذلك من خلال إيحاء بنائهما الصوتيّ والصرفيّ، وعلاقة المجانسة بينهما. ومن هنا، فإن هاتين المفردتين تؤدّيان تعبيريّتيهما من أربعة مستويات: مستوى الصوت، مستوى المبنى، مستوى المعنى، ثُمَّ مستوى العلاقة بينهما.

-2-

ويبلغ شغف الثبيتي بالمفردة اللغويّة ذروته الصوفيّة في مجموعته الأخيرة، «موقف الرمال»، (2002)، وقصيدته فيها «موقف الرمال موقف الجناس»(2):

قال:

أنت بعيدٌ كماء السماء

قلتُ:

إني قريبٌ كقطر النَّدَى

المَدَى والمدائنُ

قفرٌ وفقرُ

والجَنَى والجنائنُ

صبرٌ وصبرُ

وعروسُ السفائنِ

ليلٌ وبحرُ

ومدادُ الخزائنِ

شطرٌ وسطرُ

قالَ:

يا أيها النخلُ

يغتابكَ الشجرُ الهزيل

ويذمُّك الوتدُ الذليل

وتظلُّ تسمو في فضاء الله

ذا ثمرٍ خرافي

وذا صبرٍ جميل

قال:

يا أيها النخلُ

هل ترثي زمانك

أم مكانك

أم فؤاداً بعد ماء الرقيتين عصاكْ

حين استبدّ بك الهوى

فشققتَ بين القريتين عصاكْ

وكتبتَ نافرة الحروف ببطن مكةَ

والأهلّة حول وجهكَ مستهلّةْ

والقصائدُ في يديكَ مصائدُ

والليل بحرٌ للهواجس والنهارُ

قصيدةٌ لا تنتمي إلاّ لباريها

وباري الناي

يا طاعنًا في النأي

أسلمْ،

إذا عثرتْ خطاكْ

واسلمْ،

إذا عثرتْ عيونُ الكاتبين على خطاكْ

وما خطاكْ؟!

إني أحدّقُ في المدينة كي أراكَ

فلا أراكْ

إلاّ شميمًا من أراكْ

غير أن شغف الثبيتي بالمفردة ليس ذلك الشغف البديعيّ، المتلاعب بزخرف الألفاظ، وإنما هو أشبه بشغف صوفيّ؛ يَسْتَكْنِه من خلال التشاكل اللفظي تلك الشبكة من العلاقات (الفيزيقية - الميتافيزيقية) بين حركة المعنى والمبنى، ثم بين جملة المعاني والمباني في وحدة الوجود، ليستقرئ من خلال ذلك الدلالات المحايثة للظواهر، مؤتلفاتها ومختلفاتها. إنها محاولة استبطانيّة، تقوم على الحفر اللغويّ، الذي يذكّر -لغويًّا- بنظرية ابن جني(3) حول ما سمّاه ب»الاشتقاق الأكبر»، وصوفيًّا بمراودات عمر بن الفارض(4) العرفانية:

ليْ حَبِيْبٌ أراكَ فيهِ مُعَنًّى،

غُرَّ غَيْرِيْ، وفيهِ، مَعْنًى، أراكا

أمّا توظيف المفردات البيئيّة لدى الثبيتي، فتأتي في سياق ظاهرة عامة من محاولة الشاعر الحديث استرفاد لغةٍ جديدة مستمدّة من واقعه المعاش، بوجهه الشعبي. فشعر الثبيتي مليء ب»الدلال، الشاذلية، الهيل، الزعفران ...إلخ.» كما هو مليء بأشياء الحياة البيتيّة، والاجتماعية - محلّية أو غير محلّية: «أباريق، قهوة، شاي، تبغ، موائد، أروقة، مواقد، سرائر، لوحات، نوافذ.. إلخ.»

أو البيئة الطبيعيّة بعناصرها المختلفة، الصحراوية بصفة خاصّة. وإن بقيتْ بعض تلك المفردات معروضة عَرضًا، أو مسرو دة سردًا؛ كأنْ يقول: «لا نوافذ.. لا موقد.. لا سرير.. ولا لوحة في الجدار ولا مائدة». أي أن شيئية الشيء قد تظلّ في محلّها المألوف، دون أن يضفي عليها الشاعر من روحه ما يؤنسنها، أو يُجري معها تفاعلاً لغويًّا أو عاطفيًّا. ومن ثمّ فإنها حينئذ لا تتجاوز التسجيل الواقعيّ لمشهد حياتيّ نحو إقامة علاقات دلاليّة انزياحيّة، ينكسر فيها مألوفُ اللغة، ويستحيل الواقع الحسيّ إلى واقعٍ شعريّ.

- 3-

وتأخذ نصوص الثبيتي في توظيف المكان شعريًّا أُفقاً من التجريد، ومدًى من الفنّيّة، أوسع انفتاحاً من معظم مجايليه، وذلك صوب دلالات وجوديّة إنسانيّة، موغلة في انزياحها عن قرائن الهاجس الوطنيّ أو القوميّ المباشرة. يلحظ ذلك مثلاً في رمزية «القرية» و»المدينة»، في شعره، كما في قصيدة «الأوقات»(5)، حيث يرمزان هناك للصراع الناشب بين تطلّعات الحداثة ومعوقات الماضي والتقاليد؛ تلك المعوّقات التي رمز إليها ب»غناء النسر النابي»- وكأنه لُبَدٌ، أحد نسور لُقمان بن عاد، الذي طال عليه الأَبَد، حسب الأسطورة التراثية(6)- وقد «عاد يمصّ من ظمأ وَرِيْدَه»:

وأفقتُ من تَعَبِ القُرى..

فإذا المدينة شارعٌ قفرٌ..

ونافذةٌ تُطِلّ على السماء

وأفقتُ من سَغَبِ المدينة خائفًا..

فإذا الهوى حجرٌ على بابِ النساء

وأفقت من وطني..

فكانت حُمْرَةُ الأوقاتِ مسدلة

وكان الحزنُ متّسعًا لأنْ نبكي

فيغلبنا النشيد

وتسيل أغنيةٌ بشارعنا الجديد

وأفقتُ من زمني..فأيقظتُ الكَرَى..

وغسلتُ بالماء المهذّبِ مقلتيك..

فسال ماءُ السيف..

بين شفاهنا والقبلةِ الأولى

(...)

- ماذا قرأت اليوم ؟

- أغنية جديدة:

(ما بال هذا النَّسْر كم غَنَّى غناءً نابيًا حتى

ادْلَهَمَّ التِّيْهُ وانكشفتْ من البيداء سوأتها

فعاد يَمُصُّ من ظمأٍ وَرِيْدَه)

***

(1) قصيدة «تعارف»، ولعلها نُشرت لأوّل مرة يوم الأربعاء 12 رجب 1418هـ، (ملحق «الأربعاء» بجريدة «المدينة»، السعوديّة، ص 20).

(2) طبع الثبيتي مجموعته تلك (2002)، لكنها ظلّت محدودة التوزيع، أما قصيدته هذه فقد نُشرت يوم الأربعاء 5 ربيع الأول 1421هـ، (الصفحة الثقافية بجريدة «الجزيرة»، السعوديّة. وعلى شبكة «الإنترنت»: http://www.suhuf.net.sa-2000jaz-jun-7-cu3.htm).

(3) يُنظر: (1956)، الخصائص، تح. محمّد علي النجّار (القاهرة: دار الكتب المصريّة)، 1: 46- 47 .

(4) (1980)، ديوان ابن الفارض، تح. فوزي عطوي (بيروت: دار الصعب)، 166.

(5) موقع مجلة «نزوى» على «الإنترنت»، العدد الأول: http://www.nizwa.com-volume1-p93_95.html

(6) يُنظر مثلاً: ابن منظور، لسان العرب المحيط، (لبد).

(ورقة نقديّة بمناسبة تكريم الشاعر، (النادي الأدبي بالطائف)، الأربعاء 13 أكتوبر 2010م)

aalfaify@yahoo.com http://khayma.com/faify الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة