Culture Magazine Thursday  20/01/2011 G Issue 330
قراءات
الخميس 16 ,صفر 1432   العدد  330
 
دراسات في مطلع الأدب الكويتي الحديث: مذكرات خرافة
«خرافة» شخصية تجاوزية تبتكر لنفسها واقعاً وهمياً يقوم على الإسقاط والمفارقة
د. علاء الدين رمضان*

كان لا بد للفن القصصي الوليد الذي يخطو في مدارجه الأولى في المجتمع الكويتي أن يخوض كل التجارب وأن يرضي كل الأذواق، وأن يقيم وشائج القربى بين المطروح والمختزن، بأن يبحث في التراث عن تيمات يمكن الاستعانة بها في العصر الحديث، وأن يقترب من الناس الذين يحملون سمات مرحلتهم من قصور في النضج والنهضة وتقصير في طلبهما والعمل على الأخذ بأسبابهما، فهم خاضعون تماماً لتلك الحقبة التي هي أقرب إلى القصور منها إلى اكتمال الوعي، فمن سمات تلك الحقبة العربية بعامة غلبة الأمية وتفشي الأيديولوجيات والمذاهب التي قد تختلف مع تراثنا وعقيدتنا كما تختلف مع حاضرنا وحضارتنا الوليدة المرجوة؛ فعمل هؤلاء الرواد في دولة الكويت على خلق تيارات جاذبة تحفز الناس للتقرب من الأدباء وتيسر عليهم التلقي وتدس لهم الفائدة في السمر والقيمة في التسلية؛ ومن أنصار هذا الاتجاه الرائد الأستاذ أحمد مشاري العدواني الذي تعاون عام 1948 مع زميله عبدالعزيز حسين في تأليف متوالية قصصية بعنوان «أبو شلاخ» بدأها في مجلة «البعثة» عبد العزيز حسين ثم أتمها أحمد مشاري العدواني وهي عبارة عن أربع قصص قصيرة، بدأت من العدد الثالث وحتى العدد السادس في السنة الثانية من مجلة « البعثة»، الإصدارات من مارس وحتى يولية على التوالي للعام 1948 مع الأخذ في الحسبان عدم صدور عدد إبريل من المجلة إذ تأخر إلى مايو، وقد نشرت القصص في أربع حلقات متوالية، وقد حققت قصص أبو شلاخ معادلة اجتذاب القراء وحثهم على الانتباه إلى الفن القصصي وتلقيه، ومن ثم انطلاقهم إلى عالم رحب هو إلى المعرفة العميقة أقرب منه إلى التسلية، فإذا ما طالعنا القصة الكويتية الأولى («منيرة»؛ نوفمبر1929) ولمسنا ما فيها من جهد لتغيير الوجه الاجتماعي المتردي للمرأة في الكويت، فَطِنَّا إلى أن مجموعة «أبو شلاخ» القصصية لم تكن لمجرد التسلية؛ وأن توافر عقليتين رائدتين على كتابتها كان من ورائه قيمة جليلة ومغزى كبير يدفعنا للتأكيد على أن لأبي شلاخ دوراً مهما فيما وراء قشرة التسلية الظاهرة، وبالقياس على أبي شلاخ يمكننا أن نصدر الحكم نفسه على قصص (مذكرات خرافة) التي نشرها في نهاية العام نفسه أحمد العدواني، وكأنها امتداد ذهني للموضوع والأسلوب والقالب نفسه الذي شارك به عبدالعزيز حسين في نتاجه في منتصف العام 1948، والفارق هنا أن العقلية التي أكملت ثلاثة أرباع متوالية أبي شلاخ لن يعوزها ابتكار شخصية أعمق وأحد وأدق وأشمل من أبي شلاخ تلك الشخصية التي تعلو فيها جوانب المحلية الحديثة على خلاف (مذكرات خرافة) التي تستمد جذرها من تاريخ ضارب في القدم راسخاً قوياً ووارفاً سخياً.

فنشر أحمد مشاري العدواني في مجلة «البعثة»، متواليته القصصية (مذكرات خرافة)، في أربع حلقات متواليات بدءاً من العدد الثامن من السنة الثانية بتاريخ سبتمبر 1948، وحتى العدد الحادي عشر بتاريخ ديسمبر 1948، وأوعز إلى القراء أن تلك المذكرات حقيقة واقعة كتبها (خرافة) هذا ونقلها العدواني عن النسخة المخطوطة في مكتبة «هيان بن بيان»، وهو اسم فَكِهٌ مُلَفَّقٌ، لنخلص في النهاية إلى أن خرافة ومذكراته طرف للعبرة أكثر منها للمرح للتبكيت قبل التنكيت، أجاد العدواني وأفاض في نسج خيوطها وتسجيل أفكارها.

لكننا في البد نتساءل: ومن خرافة هذا ؟ هل هو من نسج وهم وقريحة أحمد العدواني ؟.

ونجيب على هذا بأن أبا شلاخ كان من إبداع الذهنية الخليجية في مرحلة خاصة وهو بديل إبداعي يُنسب إلى شعوب تلك المنطقة لشخصية الفلاج والمدعي، أما خرافة فليس كذلك على الإطلاق، وإن حمل تلك الملامح ذاتها في اليوم القريب والماضي الغابر البعيد، وشاكل ما شاع عنه تاريخ وشخصية أبي شلاخ المستحدثة؛ وصار حديث خرافة مثلاً تضربه العرب كما ضربوا الأمثال بغيره وقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد بعضاً من أمثالهم التى استمدت عن أناس من العرب، ومن ذلك: قَوْس حاجِب، وقرْط مارِيَة، وحَجَّام سَابَاط، وشَقَائِق النعمان، وندَامة الكسَعِيِّ، وحَدِيث خرافة، وكَنْزُ النّطِف، وخُفَّا حُنَيْن، وعِطْر مَنْشِم. وقال الزمخشري في المستقصي في أمثال العرب: «حديث خرافة» يضرب فيما لا أصل له. فكانت العرب إذا سمعت حديثاً لا أصل له قالوا: حديث خرافة؛ حتى قيل للأباطيل والترهات: الخرافات؛ إلا أن خرافة نفسه كان غير ذلك، وقد نصفه كثيرون من الناس وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن دريد في الاشتقاق: الخُرافة: ما أخذتَه من الرُّطَب. وخُرافةُ: اسمٌ على مثل أسامة؛ وذكر الميداني في مجمع الأمثال وأبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال أن بعضهم زعم أن خرافة اسم مشتق من اختراف السمر أي استظرافه؛ ويقال فيه خُرَّافة بتشديد الراء، قال الزمخشري في ربيع الأبرار: سمعت العرب يشددون الراء، ويسمون الأباطيل الخراريف؛ لكن صلاح الدين الصفدي في تصحيح التصحيف وتحرير التحريف خطَّأ من قالها فالصواب خُرَافة، بالتخفيف؛ فقد جاء في الصحاح أن الراء في خرافة خفيفة ولا يدخله الألف واللام لأنه معرفة علم؛ إلاّ أن تريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل والسمر.

و»خرافة» كما قال أبو منصور الثعالبي في «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب»: رجل من بني عذرة، استهوته الجن مدة ثم لما خلت عنه رجع إلى قومه، واخبرهم بما رأى وعاينَ، وجعل يحدثهم بالعجب من أعاجيب الجن فكذبوه، حتى قالوا لما لا يمكن: حديث خرافة.

وروى الثعالبي أيضاً: أن رجلاً تحدث بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثٍ، فقالت امرأة من نسائه: هذا حديث خرافة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، وخرافة حق»؛ وقد ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار، واليافعي في مرآة الجنان وعبرة اليقظان.

وقد أورد ابن عبد ربه في العقد الفريد أن أنس بن مالك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: إن من أصدق الأحاديث حديث خُرافة. وكان رجلاً من بني عُذْرة سَبتَهْ الجِنّ، وكان معهم، فإذا استرقوا السمعَ أخبروه، فيخبِرُ به أهلَ الأرض، فَيَجدُونه كما قال.

وقد ذكره المعافى بن زكريا في المجلس الثامن من مجالس كتابه «الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الوافي» وقال في التعليق عليه: قال القاضي؛ عوام الناس يرون أن قول القائل: هذه خرافة، إنما معناه أنها حديث لا حقيقة له، وأنه مما يجري في السمر للتأنس به، وينتظم من الأعاجيب وطرف الأخبار ما يرتاح إليه ويتمتع أهل الأندية بالإضافة فيه، ويقطعون أوقات ندامهم بتداوله، وأنه أو معظمه لا أصل له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق في كل ما يخبر عنه وأعلم بحقيقة الأمر فيه، وأولى من رجع إلى قوله وأخذ به، وألغي ما خالفه، فأما ما وصفنا من مذهب العامة فيه، فإن الحديث مضاف إلى الجنس الذي هو جزء منه، وبعض من جملته ومميز له من كل حديث ليس بحديث خرافة، كقولهم هذا ثوب خز وخاتم فضة وباب حديد، واشتقاقه على هذا القول من قولهم: اخترف فلان من بستانه هذه الثمرة، وقولهم: هذه خرفة فلان، يشار به إلى شيء من الفاكهة، ومنه سمي الربيع الأول من السنة خريفاً لأن جل الفواكه تخترف فيه، وجاء في الخبر: أن عائد المريض في مخرفة الجنة إشارة إلى ما يرجى له من النعيم وثواب الملك الكريم. فقال أصحاب هذا المذهب: إن المجتمعين على هذه الأحاديث المعجبة الملذة المطرفة بمنزلة المجتمعين على ما يخترف من الفاكهة التي ينالون من قبلها المتعة السارة لهم الفائضة عليهم، ويتوهم هؤلاء أن مختلف الباطل ومفتعل الكذب بمنزلة من أتى شيئاً أو اخترفه في أنه قد ظفر بما يلهيه ويمتعه، وإن كان على ما وصفا في أصله، ويقولون لما لا يحققون صحته من الأخبار: هذه خرافة، وهذا حديث خرافة.

أما اليوسي فذكر في زهر الأكم في الأمثال والحكم أن أحاديث خرافة هي الأداديث المعجبة مطلقاً فلم يشترط فيها صدقاً ولا كذباً؛ فالكذب لم يأت من ناحية خرافة بل ممن تلقوا أحاديثه إذ كان يخبرهم بأمور غريبة فكذبوه، ثم ضربوا به المثل وجعلوه لكل حديث مستملح أو لكل حديث لا حقيقة له. وهو مثل سائر قديما وحديثا. يقول اليوسي: «وقيل إنَّ خرافة كان له تابع من الجن فكان يخبره بأشياء عجيبة فيتحدث بها فتكون كما ذكر فنسبوه إليه الأحاديث الصادقة المعجبة الصادقة».

أما شخصية خرافة عند العدواني شخصية حكَّاءة راوية ليست هي شخصية خرافة المستمدة من التراث بل هي العدواني نفسه يرتدي تلك العباءة ليكشف لنا عن أمور يجدر الانتباه إليها وأخذها في الحسبان، وكما أسلفت هو يضع المرحلة نصب عينيه ويطمح إلى إحداث أثر حضاري في مجتمعه حتى وإن كان ذلك البناء يمر من طريق الهدم، فهو لن يهدم صرحاً بل سيهدم زائلاً ليعلي باقياً.

لقد دفع العدواني عن نفسه نسبة رواية الأحداث والحكايات بإسنادها إلى خرافة وهو الأسلوب نفسه الذي بنى به حكايات أبي شلاخ؛ فالأجزاء الأربعة من مذكرات خرافة تبدأ جميعها بقوله: «قال خرافة:....»، ثم ينطلق في استكمال ما بدأه منذ الجزء الأول في هذا البناء القصصي الجميل في تلك المتوالية من القصص المتصلة المنفصلة، ولعلها تمثل أولى لبنات المتواليات القصصية في الثقافة العربية بعامة والأدب الكويتي بخاصة.

أما البعد المكاني في تلك المذكرات، فيظهر أهميتها ويفك قسماً من رمزها، ويشير صراحاً إلى البنية الإشارية للقصص، إذ تبدأ المذكرات بحكاية غريبة عن فتاة بارعة الجمال محتجزة في بيت رجن كهل وصفه خرافة بأوصاف تجعل منه شخصاً مثيراً للفضول وكأنه منجماً للخفايا والأسرار، فهو «رجل هرم يحطم السنين، كان غريب الأطوار غامض الأسرار، يأتي إلى داره من حيث لا نعلم ويفارقها إلى حيث لا نعلم، وكان قلما يتكلم، وإذا فعل فقلما يزيد عن السلام والتحية، وربما استعاض بهز رأسه أو رفع يده، عن حركة لسانه. والناس يحتالون عليه ويأتمرون به لربما جلا عن نفسه وأبان عن حقيقته، فلا يظفرون بطائل، وليس لهم إلا الظنون، يجترونها ويكررونها»؛ أما خرافة فلا تميل نفسه للظن فعزم على استجلاء الأمر وإن ركب له الخطر؛ ليكشف عن سر الرجل الدفين وعن الفتاة المحتجزة عنده، تلك المستباة من بلاد (واق الواق)، تزوجها بحار فاستلبت من ليلتها شبابه، فعهد إلى ذلك الرجل الغريب بشأن تعذيبها حتى يعجل بهرمها فيعود إليه شبابه كما قال له العراف؛ فلما أنقذها خرافة وزعق بها إلى السلطان أعادها السلطان إلى بلدها (واق الواق)؛ وأجزل لخرافة العطاء؛ فلما تسلم جائزة السلطان، شدد الرحال إلى بلاد (جهلموت)، وهي بلد يصفها العدواني على لسان خرافة بأنها «ينطلق منها الإنسان من قيوده الأدبية دون أن يخشى لومة لائم، لأن أهلها كلهم على هذا المنوال!»؛ وهنا يضع لنا العدواني عن طريق خرافة المقابل المكاني كما وضع لنا من قبل المقابل السلوكي في المقارنة بين البحار وأعوانه والشعب والسلطان في بلده التي تحمي الذمار وتؤمن الإنسان؛ ويتضح لنا جلال بلدته وشيوعها في كل قطر عربي يحمل تلك الأسس العادلة في الحكم، ومن ذكر اسم البلد التي سافر إليها خرافة (جهلموت)، فنلاحظ أن اسمها يتركب من شقين هما (جهل)، و(موت)، ولهذا دلالته التي تخطئها فطنة ولا تعدو عنها أعين بصيرة أو تتخطاها روية متعقلة. وجهل موت هي كل دولة ظنت أنها خير أمة فركنت إلى الجهل وقعدت عن العمل واستبدت بهم الغرائز فخفوا إلى مرضاتها والعمل على إزكاء أوارها وإشباع رغباتها ففشا فيهم الباطل وعظم فيهم الجهل واستأسدت ذئابهم وتخلفت طلائعهم، وحادت عن الفطرة طبائعهم؛ فسادهم جاهلهم بالطعام والبطنة لا بالعلم والفطنة.

وفي جهل موت نفر (خرافة) من الالتحام بشعبها وانعزل عنهم، لما فيها من مقلوب الأوضاع، ومنكور الطباع، وفي الخان التقى شاباً كريم المحيا تلوح عليه أمارات القلق والاهتمام العميق، فهش له وسأل عنه فعلم أنه غريب عن (جهلموت)، فحبب إليه ذلك الاتصال به، والاستئناس به؛ واستحكمت بينهما أواصر المودة بعد أيام قلائل، فباح له الرجل بخبره فإذا هو من جزر (واق الواق)، وقد أحب فتاة من قومه وأحبته، فسباها قراصنة البحر، وحين علم باختطافها هام على وجهه يبحث عنها في البلاد التي تحوم حولها الشبهات ومن بينها جهلموت لأنها بلد تتاجر بالرقيق.

وإذا كان العدواني في الجزء الأول من مذكرات خرافة قد فاز بخرافة من خرافات بلاد (واق الواق) سجلها على لسان الفتاة المخطوفة فقد حكى له صاحبه أيضاً من خرافاتهم، ثم واجها ما هو أشد وقعاً من خرافة البلاد بأن واجها معاً خرافة العباد في سلوكيات (جهلموت)، فإذا كانت خرافات واق الواق تسلي فإن خرافات (جهلموت)، تبدأ بالجهل وتنتهي إلى العدم؛ فعالم جهل موت قد جمع الناس إليه من كل حدب وصوب من كل أنحاء جهلموت بما يقدمه إليهم من طعام وقد خرج (خرافة) وصاحبه من مجلس هذا العالم الذي يطرح نظريات تفوق الخرافة تخريفاً حول تكون الأجرام السماوية والمد والجزر، رأيا (خرافة) وصاحبه أن هذه الناس في جهلموت «يفكرون ببطونهم»؛ وإلا لما اجتمع إلى هذا الرجل الخرف أحد.

إن مذكرات خرافة إصبع تشير في جلاء إلى الفارق بين الجهل والمعرفة حتى وإن كانت خارجة عن نطاق المعقول، والفرق بين السماحة والاستهانة.

كلية العلوم والدراسات الإنسانية بالسُلَيِّل alauddineg@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة