Culture Magazine Thursday  20/10/2011 G Issue 351
فضاءات
الخميس 22 ,ذو القعدة 1432   العدد  351
 
التداولية تغازل السرد
أ. د. خالد بن محمد الجديع

لا تزال المنجزات النقدية العربية المتوجهة إلى عالم السرد محصورة في اتجاهين:

1- اتجاه إنشائي (بويطيقي) يهتم بدراسة الخطاب وفق مفاهيم وآليات عَمِل على تعبيد طريقها تودوروف واستمر جيرارجيت في هذا المضمار يطور ويراجع ويصحح، وقد صوَّب رواد هذا الاتجاه ناظرهم باتجاه أساليب الخطاب المتمثلة في (السرد -الوصف- الحوار) والتبئير المتنوع بين (الصفري -الداخلي- الخارجي) والزمن الذي عالجوا فيه (المدة -الترتيب- التواتر).

2- اتجاه السيميائيات الحكائية الذي بدا ناجعا في دراسة الحكاية دون الخطاب، إذ فيه يتم الكشف عن نظام الأعمال والفواعل وتلمس البرنامج السردي الذي يسير عليه العمل، ولا شك أن الجهد الأكبر في هذا الاتجاه قام على أكتاف غريماس، فقد اندفع مربعه بقوة نحو الدراسات السردية العربية، مع تفعيل لخطاطة السيميائيين التي اختصرت وظائف بروب الإحدى والثلاثين وتمثلت في:

الإيعاز (التطويع)- الكفاءة (القدرة)- الإنجاز- التصديق (الجزاء).

ومع وضوح هذين الاتجاهين وتباين مساريهما فإن كثيرا من الدراسات العربية -ومنها مع بالغ الأسف ما أنجز على شكل أطروحات علمية- ظل يتخبط في التعامل مع هذه الآليات مقدِّما مقاربات هي أعلق بالرؤى المشوهة منها بالدرس العلمي الممنهج، على أني لا أرفض التركيب المنهجي الواعي سواء أكان ذلك بين الإنشائية والسيميائية أم غيرهما، لكني أدين الخلط الذي ينم عن عدم إدراك الجهاز المصطلحي لهذين المنهجين، وحجة أولئك المضطربين -وهي حيلة الضعيف- أنهم لا يريدون أن يقعوا أسرى لتلك المفاهيم، وأحسب أن كل ذي بصر يدرك تهافت ما يحتالون به؛ ذلك أن الذي لا يريد أن يقع أسيرا ينبغي أن يفهم أولا! ثم يبدي رؤيته ثانيا.

وإذا كان الجنس السردي قد قضى حينا من الدهر ينام بين أحضان هذين المنهجين، ويمنحهما فتنته وجمالياته، فإن منهجا آخر بدأ يتحرك باتجاه تلك السرود المتنوعة قديمها وحديثها محاولا لفت انتباهها إليه، وجذبها نحوه عن طريق استعراض جدواه في تحليلها ونجاعته في مقاربتها.

إنه المنهج التداولي الذي أثبت فاعليته في دراسة الخطب والمناظرات والرسائل، وتقدَّم عارضا رمحه نحو السرد؛ ليكشف عن شيء من قدراته ومفاتيحه الخِطابية، ويغامر بتقديم نقد مغاير لما ألفته الساحة النقدية العربية على مدى عقود.

عندما أقول يغامر فإني أقدِّر تماما المعنى الدلالي لهذه اللفظة، فالمغامرة تعني الجدة والسير في طريق غير مسلوك، وتعني أيضا -ولا بد أن يكون هذا في الحساب- مواجهة مفاجئات قد يكون بعضها سارا، وبعضها الآخر غير سار ولا يمكن التنبؤ به.

ويمكن أن نعد دراسة د. محمد نجيب العمامي التي عنوانها: (مقاربة النص السردي التخييلي من وجهة تداولية: المقامة البغدادية للهمذاني أنموذجا) أول مغامرة عربية -حسب اطلاعي- تستثمر آليات المنهج التداولي في معالجة النصوص السردية، وقد نشر هذا العمل سنة 2005م ضمن كتابه (بحوث في السرد العربي).

بدأ العمامي مقاربته بالوقوف عند عتبة العنوان في المقامة البغدادية ذاكرا أنها قد جاءت مركبا نعتيا طرفه الأول يحيل إلى جنس أدبي يخضع لقواعد وإكراهات بنائية مخصوصة من المفروض أنها جزء من موسوعة القارئ المتعاون، أما الطرف الثاني فيحيل إلى مكان يرجِّح القارئ اعتمادا على معرفته بمقامات الهمذاني أنه مكان الأحداث المروية.

بعدها يشرع في تدبر السند مشيرا إلى أن عبارة: حدثنا عيسى بن هشام «مجال تناص مع الحديث والخبر وترسم في الآن نفسه بعض حدود اختلافها مع هذين الجنسين من خلال إسناد الحديث إلى شخصية لا حياة لها خارج النص، ومن خلال اندراجها في خطاب التخييل».

وعندما ينتهي من معالجة الزاوية التي يتم فيها عقد تفاعلي بين الراوي الأولي والقارئ يدلف إلى تلمس الجوانب المسكوت عنها في المتن محاولا تنشيط التراكيب من خلال توليد الأسئلة وعرض السيناريوهات، ومع نمو الحكاية ينمو التحليل لدى العمامي، فيتأمل قصة عيسى بن هشام مع السوادي وفق لباس تحاك فيه خيوط الحكاية شيئا فشيئا، ويبدو فيه الخطاب متسقا متماسكا.

وبما أن من مقتضيات التواصل أن إنجاز أي عمل لغوي مرتهن باجتماع شروط نجاحه، فإن العمامي يبني على هذا المقتضى التداولي تأويلات مناسبة يستخلصها من النص، مؤكدا أن القارئ أيا كان مكانه وزمانه عنصر مهم من العناصر التكوينية للمقامة.

وعلى أن تحليل العمامي التداولي قد أثبت أهمية النظر إلى النص الأدبي بوصفه فعلا تواصليا، وبرهن على قيمة السياق في تأويل الكلام فإنه كشف لي في الوقت نفسه عن الحاجة في تحليل هذا النص بالذات إلى مزجه بالمنهج الإنشائي؛ لأن السياق لا يمكن أن ينفصل عن الخصائص البنائية للخطاب السردي.

تلك رؤية أولية تبدت لي من خلال قراءة هذه المغامرة الأولى، وفي ظني أن تزاوج المنهجين الإنشائي والتداولي، سيحقق فتحا أشبه بما حققه عبدالله صولة -رحمه الله- حينما لم يحط نفسه بسياج التداوليين وإنما أضاف إلى عالمهم خلفيته الأسلوبية أثناء معالجته الحجاج في القرآن الكريم، فاستطاع تشغيل مفاهيم البلاغة الحجاجية وأدواتها، وتوصل إلى نتيجة مفادها «أنه بالإمكان طمس الهوة الفاصلة فصلا صارما في البلاغة الغربية بين بلاغة الأسلوب من ناحية وبلاغة الحِجاج من ناحية أخرى».

وقد أعقب العمامي هذه المحاولة التداولية بدراسة نص سردي حديث من منظور حجاجي، ومن المقرر أن الحِجاج باب رئيس من أبواب التداولية، وعنوان هذه الدراسة (البعد الحِجاجي في أقصوصة القلعة لجمال الغيطاني).

تقاطرت المحاولات بعد ذلك بشكل بطيء وحذر فنشر محمد مشبال في موسوعة الحِجاج مقاربة لنص سردي قديم، وقدمت سامية الدريدي تحليلا لليلة من ليالي الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.

ولا أعرف -حسب علمي- أطروحة علمية غامرت بدراسة نصوص سردية من وجهة نظر تداولية، على الرغم من كون هذه المغامرة ستذلل الطرق أمام مفاهيم هذا المنهج، وتكسر الجمود الذي يلف كثيرا من المعالجات السردية، وتسهم في خلخلة المداخل النمطية التي يقارب السرد من خلالها.

من هنا تكتسب مغامرة الأستاذ عادل الغامدي -الذي كنت مشرفا على رسالته في مرحلة الماجستير- أهمية كبرى، حيث تقدم إلى قسم الأدب في كلية اللغة العربية بالرياض بمشروعه الذي يعده لنيل درجة الدكتوراه تحت عنوان: (الخطاب الحِجاجي في قصص الأمثال: مقاربة سردية تداولية).

وقد وافقت اللجنة المشكلة من قِبَل القسم على الموضوع، وبوصفي أحد أعضاء هذه اللجنة ومن منطلق حق تلامذتنا علينا فإني أدعو المجالس التالية في الكلية إلى مباركة هذا المشروع البكر، وإلى تذليل الصعوبات لتسجيله.

ومن حسن حظ الأستاذ عادل أن الدكتور محمد القاضي عضو في هذه اللجنة، وهو أجدر من يتولى الإشراف على هذا الموضوع، ذلك أنه قامة كبيرة في مجال الدرس السردي، وستسهم خلفيته النقدية المتجذرة في اختصار كثير من الطرق التجريبية التي سيسلكها الباحث.

إن المعالجة النقدية إذا توافر لها باحث دؤوب ومشرف متمكن أنتجت عملا يستحق الاحترام، ومن هنا فإني أتوقع مازجا الجد بالمزاح -على طريقة خطاطة السيميائيين- أن الصورة ستكون كالتالي:

عادل - أ. د.القاضي - الأطروحة

قيمة - قامة - قمَّة

مع أطيب الأمنيات، وخالص الدعوات.

* الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة