Culture Magazine Thursday  21/04/2011 G Issue 338
فضاءات
الخميس 17 ,جمادى الاولى 1432   العدد  338
 
حداثة سلفية أم فرية علوشية؟
أ.د. خالد بن محمد الجديع

«ألا تصل خير من أن تصل متأخرًا»، هذه الحكمة التي قد تصدم القارئ من خلال تحوير يصل إلى مستوى العكس تمامًا للصياغة الشهيرة: «أن تصل متأخرًا خير من ألا تصل» تنطبق على كتاب: (نقد ثقافي أم حداثة سلفية؟) الذي أنجزه سعيد علوش.

لقد وصل هذا الناقد إلى حلبة الصراع حول النقد الثقافي وانيا، وهو في حالة غضب عارمة، وفقدان للتوازن، ربما بسبب تأخره الذي أراد أن يجعله ميزة لا عيبًا، وربما نتيجة لبعض ما قرأ حول النقد الثقافي عند بعض النقاد العرب - كما يزعم.

أدرك تمامًا دلالة كلمة (كما يزعم) التي أطلقتُها على ناقد كبير بحجم سعيد علوش، لا تزيده الألقاب منزلة فوق منزلته، ولذلك تكفي كتابة اسمه مجردًا لتسحب إلى عالمها الحصافة النقدية والوعي المعرفي والإتقان والتريث والرصانة والعمق وما شئت من عبارات التمجيد والثناء والرفعة.

أقول ذلك لأن القارئ العربي يدين له بالفضل في كثير من المعالجات النقدية الجادة التي قدَّمها ابتداء بكتابه: (معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة) الصادر عام 1985م عن دار الكتاب ببيروت، ومرورًا بكتابيه الشهيرين: (مكونات الأدب المقارن في العالم العربي) الصادر عن الدار نفسها عام 1987م، و(مدارس الأدب المقارن) الذي نشره عام 1988م عن المركز الثقافي العربي، وانتهاءً بسلسلة من المؤلفات الحيوية المواكبة التي على رأسها: (النقد الموضوعاتي) و(إشكاليات التيارات الأدبية) و (خطاب الترجمة الأدبية) و(اشتغالات الحداد الأدبي).

هذه القامة العلمية الكبيرة التي فرضت سطوتها النقدية من خلال هذه الأرتال الحديدية من الدراسات ربما خانها الطرف الطموح فاعتمدت على مجدها السالف وعلى ثقة القارئ العربي بها وركنت إلى الدعة المعرفية جانحة نحو الضجيج اللغوي ومتكئة على ترسانة مصطلحية ذات طابع زخرفي بعيد عما عهد عن علوش من دقة وتأنٍ وفحص.

إن أدنى وعي نقدي يمكِّن قارئ كتابه: (نقد ثقافي أم حداثة سلفية) من مشاهدة الثغرات المعرفية الواسعة التي يحفل بها، فمع كامل الاحترام والتقدير لهذا العملاق السربوني الممنهج لكن الباحث عن نقد ثقافي في هذا الكتاب سيعود بالخيبة؛ لأنه لن يقرأ فيه - مع بالغ الأسف - سوى شتيمة.

لقد بنى علوش كتابه على السخرية من الغذامي ونفخ صفحاته - التي وصلت إلى حد الانفجار - بتعييره وبالتهكم من عباراته وكلمه، لا أعلم إن كان هناك أمر شخصي بين الرجلين، لكن الذي أعلمه جيدًا أن المعرفة لا يمكن أن تسلك هذا الطريق الموحش الذي لا يزيد كاتب سطوره إلا بعدًا عن القارئ المتزن ولا يكرس إلا ثقافة الإقصاء والتصفية الجسدية قبل الفكرية.

عبارات بربرية لا يروقها لحظة التشفي استعمال كاتم الصوت عند إطلاق الرصاص، ولكنها إمعانًا في العنف تؤثر استخدام القنابل المدوية التي ترعب القارئ وتصيبه من خلال شظاياها المتطايرة في مقاتل قبل أن تصل إلى الشخصية المنقودة.

إن هذا التجبر النقدي الذي مارسه علوش عِوَض أن يستعيد القيم الثقافية التي امتصها النص - على حد تعبير ستيفن غرينبلات - قد أسهم في تعزيز تفحُّل شخصيته النقدية بشكل لا يقل عن تفحيل الغذامي للشخصيات التي تحدث عنها والتي لم ترق الأحكام المطلقة عليها لعلوش.

وحتى لا أوغل في الوصف بعيدًا عن النصوص فإني أدع القارئ مع بعض عبارات هذا الكتاب:

يقول ساخرًا من بعض الرؤى التي قدمها الغذامي في كتابه: «ومن ثم كان طرحنا للحداثة السلفية إمعانًا في إدانة نقد ثقافي عربي ركب موجة تنظير مفتعل، يبتغي التوثيق والانتقاء والافتراء، في محاولة تأصيل شجرة أنساب نقد ثقافي أريد له عمر بن عبدالعزيز رائدًا».

ويبالغ في رصف عباراته التهكمية قائلاً: «المهذبون في الجامعات الحولاء، عل ذلك يمكن أصحابه من ولوج جنة الألفية الثالثة بنفس مطمئنة لا تستطيع إخفاء وعي شقي لنفس أمارة بالسوء الانتقائي خارج فضاءاتها الأكاديمية».

ولا يتوانى عن اللمز ناسبًا الغذامي إلى ثقافة التصحر المعرفي المتعلقة بالتصحر الجغرافي يقول: «يتوخى استراتيجية مضادة توجد لها مكانًا لمستضعفي تاريخها، حتى لو كانت قوة التعدد والاختلاف تكمن في مجرد سيرورة استهلاك منتج نقد ثقافي مستنبت في صحراء ربع خال».

ويصرح بالاسم في مزيد من التهكم قائلاً: «وها هي الجزيرة العربية - ويا للمصادفة السعيدة - تتبنى في السعودية بقايا النقد الثقافي مع غذامي يدعو لهذا التوجه كدين جديد يحله محل النقد الأدبي الذي أعلى من سدة حداثيين متعجرفين تمركزوا في المدن الماكرة، ساخرين من هوامش السلفيين وشغبهم».

ولا يترك الجسد بل يحاول التلاعب به في أسلوب منفِّر رابطًا بين رؤية الغذامي والأدب الإسلامي، يقول: «ليظهر حماس فائق بالمخلوق الطريف، الذي برز منقذًا من ضلال تيه الحداثة العربية، ليجد رعاية خاصة - قريبًا من الحرمين - على غرار رابطة الأدب الإسلامي التي جعلت من نظرية الأدب الإسلامية رأس حربتها لركوب الدعوة غير النظرية وغير الأدبية والإسلامية فقط».

إن الغذامي من وجهة نظر علوش لا يعدو أن يكون ملحقًا ثقافيًا في مؤسسة الأدب الإسلامي، وهو مجرد خدعة سلفية منخرطة حتى النخاع ضمن (مطاوعة) العقائد، يظهر ذلك جليًا في قوله: «لذلك يجعلنا منبهرين بخلاصاته التي لا تتطلب كل مجهوداته التحليلية الكبيرة، مما يجعلنا نشكك في مشروعية مشروعه، ونخشى أن يكون مجرد خدعة سلفية لاسترضاء مطاوعة المركزية العقائدية، كملحق ثقافي بنظرية الأدب الإسلامي.. يتم ذلك كله في مختبر ناقد ثقافي لا يتورع عن توظيف حداثة سلفية توهم بتحرير النقد الأدبي من ربقة هيمنة المؤسسة والأكاديمية لإدخاله بيت طاعة نقد ثقافي على المقاس السلفي».

ويجر ابن باز - بوصفه رمزًا للسلفية - إلى عالمه فيقول ساخرًا بأسلوب لا يخلو من تفكك وركاكة لغوية: «قد يلتجئ الغرب لاقتباس علم العلل في نقد الخطاب الثقافي على غرار الغذامي وهو يستعين فقط بعلم اصطلاح الحديث لا بفقهه ابن الباز، لأنه يعرف ضمنيًا أنه يؤدي وظيفة ثقافية، ليس بطاقات جهات الإفتاء الدلو فيها بدلوها فقيض لها من يتكلم بالوكالة ومن موقع حداثة سلفية.. لقد بذل الغذامي مجهودًا كبيرًا لتحصيل نتائج سلفية هزيلة».

أحسب أن القارئ يدعوني للتوقف عن الاستمرار في إيراد مثل هذه العبارات التي يغص بها كتاب وصلت صفحاته إلى (269) صفحة لا تشم فيها رائحة العلمية وإنما تطفح بالسباب والشتائم بشكل مقزز ولا تتورع عن الولوغ في الأعراض عن طريق محاكمة النيات وتخوين المقاصد.

لا أعرف كيف يرضى سعيد علوش وهو الناقد الذي تربى في مخابر البحث ومحاضن المعالجات النقدية الجادة أن يتفوه بكلام عويلي، يمكن لصغار طلابه الذين يسعى إلى تأطيرهم أن يكتشفوا أنه جعجعة بلا طِحْن، هل يرضى أن يكتب أحد تلامذته الذين يشرف على أطاريحهم مثل هذا الكلام الذي كان فيه خارج التاريخ وخارج العلمية وخارج الذوق؟!

هذه المقالة ليست دفاعًا عن الغذامي، ولكنها زفرة ألم على واقعنا النقدي الذي كثيرًا ما يغرق في الجوانب الشخصية، ثم لا يستطيع التخلص منها على الرغم من حرصه على لبس أقنعة العلمية التي تتساقط تباعًا لينكشف هذا الوجه القبيح.

إن ريادة الغذامي للنقد الثقافي في العالم العربي قد قررها كل من كتب بعده عن هذا الموضوع، فهذا عبدالقادر الرباعي صاحب كتاب: (تحولات النقد الثقافي) يصرّح بأن أول سماع له عن هذا المنهج كان عن طريق الغذامي، وهذا اعتراف لأهل الفضل بفضلهم على الرغم من كون الرباعي يخالف الغذامي في كثير مما ذهب إليه.

هذا بالإضافة إلى أن كتب الغذامي ودراساته بوجه عام تحيل على مستوى ليس بالقليل من القلق البحثي ومن الجلد المعرفي، ومن الصرامة العلمية، إنه لم يتوقف عن التفكير بصوت عال حتى بعد بلوغه أعلى درجة علمية، يغرد أحيانًا مع السرب وطورًا وحده، لا يهمه ما يقال عنه بقدر ما تهمه قناعته بما يكتب.

كنت أنتظر من سعيد علوش وقد جاء في ساقة مسيرة النقد الثقافي - حيث صدر كتابه بعد سبع سنوات من ظهور كتاب الغذامي - أن يصحح ما رآه خطلاً في معالجة الغذامي عن طريق تقديم المفاهيم الفعلية لهذا النوع من النقد مع رصد لطرق تشكلاته وتأمل لنجاعته في تحليل الأنساق، لكنه لم يفعل، ويقيني أن الإضافة العلمية تكون بمثل هذا الصنيع.

إنه طريق طويل لم يرد علوش أن يسلكه لأنه سيؤخر إصدار كتابه الذي جاء في أصله متأخرًا فآثر السبيل السهل القائم على هدم منجز الرائد الأول للنقد الثقافي في العالم العربي، وأقول الرائد لأن الغذامي قدَّم لكتابه بمهاد غير مسبوق عالج فيه الجهاز المصطلحي للمنهج وتوقف للحديث عن أبرز أعلامه مع عرض مفصل للخلفيات والآليات.

أقرر هذه الحقيقة مع أني غير غافل عن المآزق الكبرى التي وقع فيها الغذامي عند معالجته للنقد الثقافي، فما أسفر عنه الكتاب - من وجهة نظر الغذامي - من موت النقد الأدبي ومن تهشيم للهامات الأدبية العملاقة، ومن استبعاد للجمالي عند المعالجة الثقافية لا يوافقه عليه كل من قارب هذا المنهج من النقاد.

على أن بعض تلك المآزق لا يمكن فصلها عن ذات الغذامي، فهي جزء من شخصية الرجل، ينضاف إليها في كثير من الأحيان الانحياز لموضوعه، وتعظيم النفس، والمبالغة، وربما إقصاء المخالف.

أتراني بدأت بالمدح ثم انتهيت بالقدح؟ ربما! ولكن القارئ المنصف هو الذي ينحي عيني الرضا والسخط ليبصر الميز والنقائص على حد سواء. ما أجمل أن تكون لا صديقًا ولا عدوًا فتكتب بعيدًا عن سطوة الهوى، وغير خاضع لضغوط التلقي، آمل أن أكون قد حققت ذلك في هذه المقالة.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة