Culture Magazine Thursday  24/03/2011 G Issue 336
فضاءات
الخميس 19 ,ربيع الثاني 1432   العدد  336
 
ذكرياتي معهم
العلامة: حمد الجاسر
حمد الزيد

كلنا يعرفه ومعظمنا يحبه، خليط من المعارف وقاموس ودائرة معارف متنقل، أخلص للكتابة ثم خلص للبحث في التاريخ والجغرافيا والأنساب وكان ذا شخصية مستقلة معتزاً بها بجدارة واقتدار كما كان معتزاً برأيه وبوثوق حجته، ألف الكثير من الكتب والأسفار وجاس خلال الديار والأمصار!

هذا الرجل العلامة بحق ملأ اسمه منذ نصف قرن أرجاء البلاد السعودية وغيرها من البلدان العربية، أنشأ الصحافة والطباعة في المنطقة الوسطى من بلادنا، وكانت اليمامة في عهده ساحة نزال للأقلام الواعية والأفكار الحرة، ثم أنشأ في بيروت مجلة «العرب» المتخصصة في التاريخ واللغة والأدب وما زالت تصدر منذ ذلك الوقت، من الرياض بعد بيروت.

لست أمدحه أو أترجم له ولكنني أتحدث عنه على ضوء لقاءاتي معه وصداقتي له.. على الرغم من أنها لقاءات متقطعة وعلاقة أدبية يختلط فيها الإعجاب، فيردم فارق العلم والسن الكبيرين بيننا.

قابلته لأول مرة صيف عام 1969م في مكتبه في بناية اللعازارية المطلة على ساحة الشهداء (البرج) ببيروت فأحببته وأكبرت لطفه وتواضعه ومجاملته الصافية وقد كنت شاباً في الخامسة والعشرين أخطو خطواتي الأولى في كتابة الشعر والأدب وقد حرصت أن أقابل الرجل العملاق وأحقق رغبة شخصية لدي في رؤيته والتعرف عليه.

وقد دخلت عليه بلا موعد ذات صباح فترك عمله وخف لاستقبالي تاركاً ما بين يديه من أوراق كثيرة.

عندما قابلته كان قصيراً مربوع القامة مكتنزاً يخطو نحو الستين ولكنه كان حيوياً ومتحركاً وبشوشاً وفيه طاقة وحرارة وجاذبية وروح أبوية؟!

وكان يلبس بنطلوناً رمادياً وقميصاً أبيضاً، ودامت المقابلة حوالي نصف ساعة وحملني بهداياه من كتب طبعتها دار اليمامة التي يملكها وبآخر عدد من مجلته «العرب».

وبعد أن عدت للطائف صرت أراسله ولاسيما في الأعياد ويرد علي بخط يده الجميل في بطاقات التهنئة، ومرة أرسلت له عام 1385هـ-1966م قصيدة من الشعر الحر ذي التفعيلة لنشرها في مجلته الجادة الرصينة «العرب» وكنت لا أزال على مقاعد الدرس في كلية التربية بمكة المكرمة.. وظننت أنه لن ينشرها لسببين: أولاً لأنها من الشعر الحر وثانياً لأن مجلته ليست مجلة أدبية صرفة وإنما هي للبحوث والمقالات الجادة في التاريخ والجغرافيا، ولكنني فوجئت بالرجل ينشرها نشراً غير عادي؟! فيذكر اسمي أولاً مع الكتّاب الكبار في الغلاف الأمامي ويفرد لها ثلاث صفحات، بل ويقدم لها مقدمة رائعة ذكر فيها أن هذه القصيدة هزّته وأعجب بها كثيراً بالرغم من معارضته للشعر الحر.. وهو ينشرها لأنها بلغت فناً راقياً من التعبير والأداء؟!

وأكبرت الرجل مرة أخرى.. وفرحت كثيراً بنشر قصيدتي في مجلته العتيدة وظننت بأنني دخلت تاريخ الأدب من أوسع أبوابه؟!

وبعد ذلك قابلته في الطائف في التسعينات الهجرية وكانت صورته التي رأيتها في بيروت لم تتكرر من حيث المظهر، وعندما انصرفنا بعد العشاء في منزل أحد الأصدقاء، ركب إلى جواري بالسيارة وأخذنا ندور في بعض جهات مدينة الطائف.

بعد ذلك اللقاء.. التقيت به في الجزائر عام 1972م حين كنت منتدباً للتدريس هناك.. وكان لقاء صدفة فقد كنت أعمل في «البليدة» وهي تبعد عن العاصمة حوالي 50 كم إلى الجنوب.. وقد كنت مع أحد الأصدقاء في عطلة الأسبوع وإذا بنا نلتقي بالشيخ حمد في سيارة الملحق الثقافي في أحد أسواق الخضار، وسلمنا على بعض ولم أره بعدها لبضع سنين، فقد كنت أمرّ على مكتبه في بيروت أحياناً فلا أجده لأنه كان يسافر كثيراً للبحث عن المخطوطات في أرجاء العالم.

وعندما ذهبت إلى مصر لدراسة الماجستير في أعوام 91 و92 و1993م قصدته في شقته بعمارة البدراوي الواقعة على النيل قرب كوبري الجامعة مع الصديق الشاعر: سعد البواردي فوجدته قد كبر وبدأت قواه الجسمية تتداعى.. ولكنه ويا للعجب والفرح -معاً- يملك ذاكرة حاضرة ومعلومات غزيرة يستدعيها كلما شاء أن يتطرق إلى موضوع أو يجيب عن سؤال في التاريخ والجغرافيا أو اللغة والأدب، وكنا نقصده ليلة الجمعة، كما أن عادته القديمة واللطيفة في توديعنا عند المصعد لم تفارقه ويصرّ عليها بكل تواضع وأدب جم؟!

وكنت أركز أثناء الجلسة على جعله يسرد علينا بعض تجاربه وذكرياته الطويلة والطريفة ورأيه في بعض الشخصيات السياسية والأدبية المعاصرة فكان يتحدث معنا حديث الخاصة -أي ليس للنشر- مما يجعلني في هذا المقام أحترم رغبته وأمانة المجلس؟!

ومن الطريف أنه يعرف عمي عبدالرحمن رحمه الله صاحب كتاب «المنتخب في ذكر أنساب قبائل العرب» الذي طبع عدة مرات، وقد أثنى عليه وقال إنه لو لم يجمع هذا الكتاب في ذلك الزمن الذي جمعه فيه أي قبل ستين عاماً -لضاعت أنساب أسر كثيرة في نجد- وأشار إلى بني زيد بالذات في الوشم، وقد تعجب من قدرة عمي على جمع هذا الكتاب في ذلك الزمن الذي عمّ فيه الجهل والأمية ولكنه وبصراحة لم يصنفه من العلماء في مجاله وإنما من النقلة؟! وهذا الموقف يذكرني بموقفه من المرحوم محمد بن عبدالله بن بليهد صاحب كتاب «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار» ولعل الشيخ الجاسر وقد نقل عن الاثنين -وقد سبقاه- لا يريد أي مقارنة بينه وبين غيره من المعاصرين ليبقى متفرداً في فنه! وله بعض الحق وكل العذر، فالجاسر بلا شك أكثر علماً وجلداً وتفرغاً وإحاطة من سابقيه، بل إنه بزّ في مجاله أساتذة الجامعات والمتخصصين الذين تلقى بعضهم علومه في أوروبا أو أمريكا لأن الجاسر، أحاط بثقافة موسوعية عريضة قبل أن يتخرجوا من المدارس الابتدائية؟! كما أن موهبته وعبقريته وتفرغه للبحث والكتابة جعلته يشعر بالتفوق عليهم، ولذا كان معتداً برأيه وشخصيته متواضعاً في غير ضعة، وقد قيل: عدو المرء من يعمل عمله؟!

وكان مقاتلاً فكرياً عنيفاً أحياناً، مثل معركته، الصحفية مع الأستاذ: عبدالقدوس الأنصاري -يرحمه الله- حول جيم جدة.

والجاسر بلا شك آخر الموسوعيين فيما يختص بتاريخ وجغرافية وأنساب الجزيرة العربية وأهلها، وهو بحق وكما تطلق عليه الصحافة «علامة الجزيرة العربية» وهو كما نعرف علم بارز في مجاله وتمكن إلى جانب ذلك من اللغة العربية وتراثها وآدابها، كما أنه عضو عامل في العديد من مجامع اللغة العربية كمجمع الخالدين بالقاهرة منذ حوالي نصف قرن.

وعندما تجلس إليه تود لو أنه لا يتوقف عن الحديث ليس في علمه الذي يجيده وحسب وإنما في ذكرياته الشخصية، وانطباعاته، كما أنه يعطيك رأياً صائباً في تقييمه لمواقف بعض الشخصيات التاريخية التي استقرأها، وكما أسلفت فهو يتمتع بذاكرة قوية قلما تتوفر لمن يبلغ مثل ما بلغ من العمر وقد نيف على الثمانين.

بقي أن أقول إنه من مواليد قرية «البرود» بالسر في نجد عام 1327هـ وهي في منطقة صحراوية تسمى نفود السر، بين الوشم والقصيم بالمنطقة الوسطى.

وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى في عام (2002م) ودفن بالرياض وكان لي شرف الذهاب إلى بيته مع صديق لتقديم واجب العزاء لابنه (معن) فوجدت المكان غاصاً بالمعزين.

وقد قام نفر من أصدقائه من الأدباء والمثقفين بدعم أمير منطقة الرياض (سلمان بن عبدالعزيز) بتأسيس مؤسسة ثقافية خيرية باسمه وفتح بيته في ضحى كل خميس -كعادته- للقاءات أدبية ومحاضرات ثقافية، وظلت مجلة «العرب» تصدر حتى الآن بدعم الأصدقاء، وهذا لعمري قمة الوفاء.

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة