Culture Magazine Thursday  24/11/2011 G Issue 353
فضاءات
الخميس 28 ,ذو الحجة 1432   العدد  353
 
محاكمة كيسنجر
عبدالله العودة

يهودي نجا من محارق الغاز التي أقامها النظام النازي بألمانيا.. ودخل الولايات المتحدة الأمريكية وعمره خمسة عشر عاماً.. وحارب مع الجيش الأمريكي.. ثم لمّا عاد قرر الدراسة في جامعة هارفارد.. وتخرج منها وكان دون شك من أذكى من تخرج من العلوم السياسية بين أقرانه.. ذلك هو هنري كيسنجر.. الذي دعته منظمة محلية في أمريكا للقاء وحوار.

قبل عدة أيام.. كانت هناك دعوة لمقابلة وكلمة لكيسنجر نظمها المعهد الأمريكي لدراسات الشرق الأوسط في بيتسبرغ فقررت أن أشاهد عن قرب وأستمع لواحد من أهم من مر على السياسة الخارجية الأمريكية الذي كان وزيراً لخارجية أمريكا لولايتين متتاليتين.

قبل دخول قاعة اللقاء.. كانت هناك مظاهرة نظمها ناشطون للتنديد بكيسنجر وسياساته.. وتاريخه ومجازره.. ولافتات تطالب بمحاكمة كيسنجر كمجرم حرب.. ولن يكون غائباً عن البال أن «كريستوفر هيتشنز» قبل عدة سنوات فتح النار على كيسنجر عبر تأليفه كتاب «محاكمة كيسنجر» والذي كانت مادة لفيلم وثائقي عنه أيضاً أقرّ خلاله الكثير من القريبين من كيسنجر حينها والمؤرخين أنه بجدارة يستحق لقب «مجرم حرب» وأن سياسته الخارجية لا تختلف على الإطلاق عن أي مجرم حرب.. حيث حارب الديمقراطيات في دول أمريكا اللاتينية لأنها قد تدعم الشيوعيين –أشرس أعداء أمريكا وقتها- بل وجهز انقلاب ضد إدارة منتخبة وديمقراطية في تشيلي لأنها يسارية/ شيوعية.. وساعد على انقلاب مماثل في الأرجنتين بل ودبّر عملية اغتيال لرئيس الجيش الأرجنتيني لأنه كان يقف عائقاً كبيراً أمام الانقلاب على الديمقراطية الاشتراكية فيها، وشارك في التخطيط لإلقاء قنابل دمّرت مدن بأكملها في كمبوديا.. وشارك في مجازر جماعية في فيتنام.. والأغرب من هذا كله أنه نال جائزة نوبل للسلام بالشراكة مع مفاوض فيتنامي كان هو وكيسنجر رسولا البلدين للتجهيز لانسحاب سلمي لأمريكا من فيتنام.. والذي سبّب إحراجاً أكبر لكيسنجر حينما رفض المفاوض الفيتنامي أخذ الجائزة لأنه حسب كلام هذا المفاوض الفيتنامي آنذاك: السلام لم يحل بعد على فيتنام !

لأجل كل ما فعل كيسنجر.. لم يكن غريباً في تلك القاعة التي حضرنا فيها.. أن يقفز شابٌ وسط الحضور ويصرخ مقاطعاً كيسنجر «أنت لا تستحق أي صوت ولا مكان.. أنت مجرم حرب.. يجب أن تحاكم» وخرج من القاعة.. وسط معارضين وموافقين ومصفقين.

تحدث كيسنجر عن دور أمريكا ودورها المفترض في الربيع العربي.. وقال بأن أمريكا لديها القدرة على دعم كل ديمقراطيات العالم ولكن ليس لديها القدرة على صناعة ديمقراطيات في كل العالم.. ليشير إلى أن الدور المفترض لأمريكا ليس بأن تنشغل بصناعة الديمقراطيات.. ولكن أن تستغل الوضع لدعم التوجه الديمقراطي.. وفي الوقت نفسه.. يقول: «إني كبروفيسور في جامعة أريد أن أؤيد وأدعم كل توجه ديمقراطي وكل ثورة مدنية.. ولكني كسياسي أتحفظ على ثورات معينة لأنها لا تخدم مصالحي»!.. فهو يقول نظرياً ما كان يمارسه عملياً من خنق لثورات مدنية وديمقراطيات مختلفة في أمريكا اللاتينية وغيرها لأنها لا تخدم المصالح الأمريكية آنذاك يوم كان وزير خارجية أمريكا.. وكيسنجر نفسه الذي تحول ابتداءً من التعليم الجامعي للسياسة.. يعرف بأن بروفيسور الجامعة يقول رأياً قد يغيره لاحقاً ولا أحد يعاتبه بل قد يصفقون له لأنه اكتشف حقيقةً جديدة بينما يعرف أيضاً أن السياسي حينما يغير رأيه يكون عرضةً للمحاسبة والمحاكمة..

ومع هذا كله.. ومع أن فريق كيسنجر بل والرئيس نكسون الذي كان كيسنجر وزير الخارجية في وقته تمت محاسبتهم بشدة ومحاكمتهم.. فإن الوحيد الذي نجا منها كان «كيسنجر» حينما فلت من العقاب لأن الأدلة لم تكن كافية عليه.. فهو المجرم المحترف الذي لا يدع آثاراً له على الجريمة !

كيسنجر عليه أن لا يحدثنا عن السلام والعدالة والديمقراطية.. وأن لا يقدم لنا النصائح.. فهو آخر من ينبغي أن يتحدث عنها.. ولعل من أشهر ما يعرف الخليجي عن كيسنجر هي تلك القصة المعروفة.. حينما أوقف الملك فيصل تصدير النفط لأمريكا بعد حرب أوكتوبر التي دعمت أمريكا فيها إسرائيل ضد مصر وسوريا.. ونزل كيسنجر في مطار جدة وبعد أن قابل الملك فيصل ورآه متجهماً قال له مازحاً ليلطف الأجواء: «يا جلالة الملك إن طائرتي في المطار متوقفة لأن ليس لدينا وقود.. فهل تأمرون جلالتكم بتموينها؟» لم يبتسم الملك فيصل له.. بل رفع رأسه وقال بحزم: «وأنا رجل عجوز.. وأتمنى أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل موتي.. فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟».

aalodah@hotmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة