Culture Magazine Thursday  27/01/2011 G Issue 331
فضاءات
الخميس 22 ,صفر 1432   العدد  331
 
ذكرياتي.. معهم
الشيخ الأديب: علي الطنطاوي
د. حمد الزيد

سمعت لأول مرة باسم هذا الرجل الفذ عندما رأيت بعض كتبه: (قصص من الحياة) و(صيد الخاطر) لابن الجوزي وقد حققه مع أخيه ناجي وقرأت إحدى قصص الكتاب الأول وعنوانها: (بنات العرب في إسرائيل) فتأثرت بأسلوبه المقنع وذلك قبل معرفتي بالشيخ الأديب بعشر سنوات على الأقل، وقد رأيت تلك الكتب عند أحد الأصدقاء بالرياض.

ولما التحقت كطالب بقسم الاجتماع بكلية التربية بمكة المكرمة في العام الدراسي 1384هـ - 1964م فوجئت وفرحت بوجود الأستاذ الطنطاوي ضمن أساتذة الكلية، وفوجئت أكثر بشكل هندامه (الإفرنجي) ووجهه الوسيم الحليق المشرب بالحمرة وجسمه الرياضي المربوع، وخفة حركته وإشراقة روحه وجمعه بين معارف شتى وثقافة عريضة، وبين علوم الدين والدنيا مع صبغة أدبية تغلف كل ذلك بغلاف شفاف.

كان أول لقاء له بنا في الصف الدراسي إذ كان مبنى الكلية صغيراً وليس فيه قاعات للمحاضرات وكان يدرس لنا مادة (الثقافة الإسلامية) ويجتمع كل طلاب الأقسام في الكلية في هذه المادة، وكانت الكلية ناشئة وفي سنتها الثانية وليس فيها أقسام أو طلاب كثيرون فكان العدد مجتمعاً لا يصل إلى خمسين طالباً في قسم الاجتماع للدفعتين الأولى والثانية، وكنت من الدفعة الثانية.

دخل علينا الرجل الذي لا تستطيع تصنيفه بسهولة سواء من حيث المظهر أو المخبر، فشكله وهيئته ومنطقه يدل على أنه شخصية استثنائية، تختلط فيها كل العناصر الحديثة والتراثية في قالب عصري، ومنطق أدبي ناصع، وتمكن من اللغة العربية، وقوة في العقيدة السلفية، واعتداد بالنفس لا يصل لدرجة الغرور أو التباهي وتواضع في غير ضعة، بالإضافة إلى روح مرحة وبديهة حاضرة ونكتة جاهزة وخفة دم وروح مع قوة وجاذبية في الشخصية؟!

والسؤال الذي قد يتبادر للأذهان هو:

كيف جمع الطنطاوي كل هذه المزايا والصفات النادرة في شخصه؟

والجواب من الصعوبة والسهولة أيضاً بمكان، فالصفات الشخصية بعضها موروث وبعضها مكتسب، وقد جمع أستاذنا بين الصفات المكتسبة والموروثة ومنها الموهبة والألمعية والوسامة والجسامة وكان يلمح لنا أحياناً وعلى استحياء عن تكوينه الثقافي ويقول إن الموهبة بذرة من الله ولابد من سقيها من قبل الإنسان بالمعرفة والثقافة لكي تنمو وتترعرع وتؤتي أكلها.

وباختصار فإن الطنطاوي بدأ حياته كما قال لنا في محيط ثقافي وكان يذكر دائماً بالخير والإعجاب خاله الأستاذ: محب الدين الخطيب صاحب المكتبة والمطبعة السلفية بالقاهرة وأساتذة كبار تتلمذ على أيديهم في الشام والعراق أو زاملهم كعز الدين التنوخي ومحمد كرد علي وفارس الخوري وإبراهيم الراوي والألوسي وغيرهم، إلى جانب أنه أكمل دراسته الجامعية في الحقوق بالجامعة السورية بدمشق في الربع الأول من هذا القرن وكان يركز دائماً على التثقيف الذاتي وضرورة قراءة الكتب والاستزادة من المعرفة بالإطلاع على الأمهات والمصادر وكان يرشدنا إلى أسمائها ويحرضنا على مطالعتها.

ثم إن عمله في التدريس في مطلع حياته.. ووجوده في العراق وحيداً، أفاده - كما قال لنا - في عكوفه على كتب التراث ومعظمها في الدين والأدب، والثقافة العربية العامة، ثم إنه كتب وعمل في مجلة (الرسالة) التي كانت تصدر في مصر ولها صيت رائع ويرأس تحريرها المرحوم الأستاذ: أحمد حسن الزيات كما أن عمله في القضاء لعدة سنوات كان آخرها كرئيس لمحكمة النقض في دمشق جعله يثري الجانب الفقهي والقانوني في تكوينه العلمي كما يثري الجانب الثقافي والاجتماعي في شخصيته لما يمر عليه في المحكمة من قصص فيها العبر والطرافة.. وفيها كذلك الوجه الآخر - غير المضيء عادة - للمجتمع بعد أن شهد في التعليم الوجه المضيء والبريء للناس؟!

وهكذا فإن الشيخ الأستاذ: علي الطنطاوي كان ممن يطلق عليهم بالموسوعيين الذين استوعبوا معارفاً عديدة وثقافة واسعة وعايشوا عدة أجيال من أبناء أمتهم على مدى ستين عاماً من الدرس والتدريس والثقافة والتثقيف والقضاء والصحافة وتجارب الحياة، أما انتماؤه السياسي فيبدو أنه يميل لجماعة الإخوان المسلمين ويمجد دائماً الخلافة الإسلامية وينتقد حركة القومية العربية - من منطلق ديني - ولكنه غير متحزب أو متعصب.. كما لمست ولا يحبهما بدليل قوله لنا في الفصل أنه رفض عضوية المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة لأنها منظمة سياسية.

ويظهر أن الرجل وقد أبعد عن سوريا عندما تولى البعثيون الحكم فيها عام 1963م لا يريد أن يوجع رأسه بالانتماءات، وإنما كان في الواقع يوجع قلبه - كما لمسنا - فكان دائم الحنين إلى الشام وربوعها.. ودائم التغني في بردى وغوطة دمشق ولكنه كان متماسكاً وصلباً، كما كان سعيداً بوجوده في مكة قرب بيت الله الحرام الذي يعطيه التعويض النفسي لفراقه الأهل والوطن.

وكان أستاذنا الطنطاوي قد قدم للرياض عام 1383ه - 1963م قبل قدومه لمكة المكرمة ودرس في كلية الشريعة هناك ولم يلبث فيها سوى سحابة عام واحد ومنذ وصل إلى مكة قرر على ما يبدو استيطانها فلم يبرحها للآن، وكان يسكن في شقة في عمارة الكعكي بأجياد ويذهب ويعود من المسجد الحرام على قدميه فكان لا يستعمل السيارة وأظنه لم يملكها في حياته كما كان لا يزور ولا يزار.. ولم أدخل بيته إلا مرة واحدة بعد أن توثقت علاقتي به وكان هذا حدثاً استثنائياً لكلينا؟!

وعندما أعود بالذاكرة حوالي نصف قرن إلى الوراء أتذكر كم كان الشيخ الطنطاوي، محبوباً ومقدراً من الطلبة وغيرهم في مكة قبل أن يشتهر ببرنامجه التلفزيوني الأسبوعي (نور وهداية) وبرامجه الإذاعية التي كان يفتي فيها.

وأول نكتة سمعتها من الشيخ الظريف كانت في غرفة الدراسة وعلى البديهة، فقد كان أحد الزملاء من أحد أقسام الكلية يتعمد أن يتسوك في أثناء المحاضرة فأشار إليه الأستاذ أن يمتنع عن هذه العادة التي تستحب في أماكن العبادة فقط، فقال الطالب: ولكن يا شيخ أليس السواك سنة؟! وهنا رد عليه الشيخ الطنطاوي بعصبية ولكن بمودة بأن: حلق (....) أيضاً سنة فهل يحلقها في الفصل؟!

وبعدها لم يتجرأ الطالب المذكور على استعمال السواك في المحاضرة!!

ومرة سألته أن يثبت لنا - أثناء المحاضرة - بأن الجن موجودون وذلك بدليل عقلي إذ أنني أؤمن بوجودهم من الناحية الدينية ولكنني لم أرهم في حياتي فقال: بسيطة يا ابني.. هذا الفصل فيه موجات إذاعات من كل العالم.. فهل تستطيع سماعها الآن؟!

قلت: لا بالطبع.

قال: لماذا؟! وأجاب: لأنه لا يوجد معك جهاز اللاقط (المذياع)؟! كذلك الجن هم موجودون بيننا ولكن الله - رحمة بنا - لم يركب فينا الجهاز اللاقط لنراهم!؟

وكان هذا أعظم وأوضح جواب تلقيته على هذه المسألة!

وفي السنة الأولى كدت أحصل على درجة الرسوب في مادته والسبب أنني شطحت عن الموضوع وكتبت له فيضاً من الانشاء، وضمنت في الجواب آرائي الناصرية، وتحمسي للقومية العربية ونقدي اللاذع للخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، فكنت أتعمد مشاغبته سواء في داخل الفصل أو على صفحات الأجوبة مع حبي واحترامي له، كما كنا - أنا وجيلي - نركب في تلك المرحلة السفينة الثورية - القومية - الناصرية التي أغرقت الجميع فيما بعد؟!

كانت السنة الثانية 1385هـ - 1965م هي سنة توثيق العلاقة بين التلميذ وأستاذه وتحولها إلى علاقة حميمية، كان البادىء بها هو الأستاذ العظيم، فقد حدث وأن كلف الطلاب وأنا منهم بعمل بحث قصير عن أي موضوع يختارونه في مادة الثقافة الإسلامية، وقد اختار كل الطلاب مواضيع دينية للكتابة حولها إلا أنا فقد اخترت موضوعاً أدبياً ذا عنوان استفزازي وهو: غرام ولادة بنت المستكفي بالشاعر الأندلسي ابن زيدون.

وقد قصدت من وراء هذا الاختبار عدة أشياء وكان عنصر المفاجأة وارداً فقد أردت أن أداعب أحاسيس أستاذي الأدبية وأن أرضي نزعتي للأدب التي برزت قبل عدة سنوات بقرضي للشعر وثالثاً وأخيراً أن أكتب بحثاً متميزاً.. وهكذا كان؟!

وعندما قدمته للشيخ - الأستاذ في كراس أزرق - كما أذكر - كان في حوالي خمسين صفحة مكتوبة بخط اليد وبعد عدة أيام فوجئت بأن العاصفة التي تخيلت بأنها قد تهب على رأسي لإقدامي على كتابة هذا الموضوع الأدبي الجريء لأستاذ الثقافة الإسلامية إذا بها تتحول إلى عاصفة من الإعجاب والثناء والمديح، وإعلان ذلك على الطلاب والمدرسين وقوله لي في الفصل: أنك ستصبح في المستقبل كاتباً كبيراً؟! ولم أكن أعتقد إلا أنني سوف أصبح شاعراً مشهوراً وحسب مثل الكثيرين من أهلي؟ وقال أيضاً لو أنني أستطيع منحك الماجستير أو الدكتوراه على هذا البحث لفعلت؟

وبعد هذا البحث صار الأستاذ الكبير يقربني له وكنت بحكم خجلي الفطري وفارق السن لا اقترب ممن هو أكبر مني ولا سيما ممن كان في حجم الشيخ الطنطاوي، فصرت أجامله بالذهاب إلى المسجد الحرام والجلوس معه من بعد صلاة المغرب إلى بعد صلاة العشاء والمشي معه إلى داره دون أن أدخلها وهو دائماً ينظر إلي بإعجاب ومحبة ويعبر لي عن ذلك أحياناً.

وأنا لا أقل عنه في ذلك ولكنني كنت أكتم عواطفي نحوه بحكم الفوارق التي ذكرتها وبحكم أنني كنت أخالفه في النظرة لقضية الوحدة العربية وعبد الناصر والقومية العربية في ذلك الزمن العاصف وكنت في مرحلة من الصعب فيها تعديلي.. وهذا ما ندمت عليه فيما بعد؟!

وعندما ذهبت للعطلة الصيفية أرسلت لأستاذي رسالة معبرة وما لبثت أن تلقيت منه رداً أكثر تعبيراً.

وهكذا قضيت أربع سنوات في الكلية بمكة أحسست فيها بالقرب والبعد من هذا الرجل - العملاق الرائع - وعندما حصلت على البكالوريوس عام 1388هـ - 1968م اقترح علي الشيخ الطنطاوي بأن التحق بقسم التوحيد في الدراسات الإسلامية العليا لعل الله - كما قال في رسالته لي - أن يعز بقلمي الإسلام؟!

ولكنني رفضت هذا الطعم بحجة أنني متخصص في التربية والجغرافيا وهذه علوم اجتماعية، وأنني على الرغم من أن علم التوحيد (الذي يسمى في كتب التراث علم الكلام) من أقرب العلوم لقلبي وكنت أحصل على درجات عالية فيه منذ المرحلة الابتدائية، فإنني أرفض أن أصبح شيخاً؟

ولم يكن ردي الساخر إلا مداعبة استفزازية قصدتها، فرد علي الأستاذ الشيخ رسالتي ووضع تحت أسطري الاستفزازية خطوطاً حمراء.. وهذا كل ما فعله؟

ثم فارقنا بعضنا حوالي خمس سنوات وفي عام 1391هـ - 1971م فوجئت بزيارته لنا في ثانوية ثقيف بالطائف لإلقاء محاضرة - إرشادية دينية - على الطلاب وكنت أعمل وقتها مدرساً في المدرسة المذكورة.

وقد فرحت بوجود أستاذي الذي أحببته وقدمته للطلاب والمدرسين ببعض أبيات من الشعر قوبلت بتصفيق من الحضور ولكنه رد علي رداً لم يعجبني فقد قال:

إن ما قاله ابني (حمد) هو مدح كثير والمدح الكثير يشبه الذم الكثير؟!

وطبعاً بلعت هذه الإهانة الصغيرة كعادتي ولم أعاتبه عليها.

وبعد المحاضرة رجوته أن يتغدى عندي ويرتاح قبل سفره لمكة وكان الوقت حوالي الثانية بعد الظهر فلم يوافق وكررت عليه أن نذهب إلى مطعم أو أن أذهب به بسيارتي إلى مكة - إذ لم يكن معه سيارة - فرفض كذلك وقال إنه مسافر الآن لمكة وأوقف فجأة سيارة أجرة أثناء وقوفنا معه أمام باب المدرسة وركب فيها وتركنا نادمين عليه وعلى طريقته في التصرف؟!

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة