Culture Magazine Thursday  31/03/2011 G Issue 337
فضاءات
الخميس 26 ,ربيع الآخر 1432   العدد  337
 
البحث عن المفتاح
د. صالح زياد

الجثة التي تمثِّل بداية أحداث رواية «طوق الحمام» لرجاء عالم، وهي جثة فتاة وُجِدت ملقاة بين جدار الشيخ مزاحم وجدار المعلمة عائشة، هي حدث جنائي في دلالته التي تستدعي التحقيق وبروز شخصية الضابط ناصر القحطاني الذي يتولى مهمة البحث عن القاتل. لكنه حدث فني صنَعَته الرواية في أبو الرووس لتتيح لمتلقيها المجرد والواقعي ما ينفذ به إلى عالم الزقاق المغلق وهو التحقيق الجنائي الذي يباشر مصادرة المدونات الشخصية من يوميات ورسائل، ويستجوب الشخصيات، ويعاين البيوت والأقبية من الداخل. وهي حيلة تضيف إلى الراوي العليم العجيب الذي اصطنعته الرواية، وإلى بعض شخصياتها، وخصوصاً يوسف الحجبي والمعلمة عائشة، اللذين يبرهن ما دوناه من يوميات ورسائل على ما يتمتعان به من مؤهلات روائية في العلاقة بأبي الرووس، تُحسن الوصف والسرد، وتحسن الحلم والخيال الذي يجاوز بهما عالم الزقاق.

وجملة الدلائل التي تسوقنا إليها المعطيات السردية في (طوق الحمام) تستقطب دلالة صراع بين ثنائية القفل والمفتاح، هي الوجه المجسِّد لعلاقة التعارض التي تؤشر عليها الحياة في أبي الرووس بين الراهن والمستقبل، والاضطرار والحرية، وتفرعات هذا التعارض التي تقسم شخصيات أبو الرووس إلى قسمين يمثل الشيخ مزاحم دور القفل والشَّرْط والراهنية أمام بحث يوسف وعائشة عن المفتاح. وليس هناك مسافة معنى تباعد بين تكسير الشيخ مزاحم ورفاقه للمذياع الرجيم، هذا الشر الذي تسلل –كما يحكي مزاحم لناصر- في الستينات متخفياً إلى بيوت مكة، وبين نافذة ابنة مزاحم عزة في بيته التي سمّرها أبوها بعوارض خشبية. كما لا يوجد مسافة معنى تباعد بين ما يدونه يوسف في يومياته إلى عزة وإلى أم القرى وما تكتبه عائشة في رسائلها الإلكترونية. ففي اليوميات والرسائل من التاريخ لأبو الرووس ما يحيلهما إلى النقيض لمزاحم، ويحملهما على البحث عن المفتاح، بحيث تنطوي الرواية على لغزه العصي ودلالته القدسية التي لا تفارق الغيب ولا تنفصل عن الكرامة وخرق الطبيعة والعادة.

وهذا يعني أن رواية (طوق الحمام) توظف منظوراً صوفياً، هو نقيضٌ ومعارض للاضطرار والقهر، في دلالة تترامى إلى توليد عجائبية تجاوز بها الرواية إلى تكسير الواقعي وخلخلته وتوسيع زاوية الرؤية إليه بما يمكّن من رؤية أشياء أخرى. وهو ما يتيح الاكتشاف للمقصي والمكبوت الذي تحاصره القوانين وأنواع الرقابة، ويحيل على ما به تقوم الأعمال الفنية في كونيتها ولا زمنيتها، أعني مجاوزة عالم الحياة المتناهي، وتلبية الرغبة الإنسانية إلى تخطي الوجود الطبيعي المحدود. وهنا نوع من التجاوب بين الذات الإبداعية والذات المثالية، تلك الذات التي ترى ذاتها خارج القوانين والإكراهات، وتأبى الخضوع للقوانين والإكراهات وتشرئب إلى كون حر يتجاوز النظام القائم، وهو كون تتطابق فيه الحرية مع الكرامة والانفتاح مع السعة. ورجاء عالم تهيئنا لهذا المنزع التصوفي/الإبداعي منذ استهلال روايتها الذي نطالع فيه: «اقرأ هذا الكتاب لجدي الأول يوسف العالم المكي، الذي كان يُجَسِّد الخبز تحت سجادة صلاته بالحرم... نعم جدي كان من أولئك الذين يقطعون بلاداً بلمحة بصر».

وعلى رغم أن شخصيات الرواية تخلو من التصوف، ولا يتخللها شيخ ولا مريد، فإن الشخصية المثالية التي تمثل الذات في هذه الرواية وهي شخصية يوسف، تأخذ أحياناً صفات غير طبيعية، تجاوز قيدها الجسدي، ومن ذلك –مثلاً- تلاشي جسده، في الحرم بعد خروجه من شهار: «كان بشر يخترقون من خلاله كما اختراقهم في حزمة شمس، لم يعد لجسده من وجود ككثافة معيقة، كانوا يخترقون فيه بينما يعمل جسده كأشعة إكس تكشف دخيلة العابرين».

وبالطبع فإن مكة المكرمة تضيف إلى هذا البعد، من خلال احتشادها بالمعالم والرموز التي تؤشر على صلات بالغيب، صلات الأرض بالسماء، والمجاوزة للحدود الطبيعية في الوعي الإنساني، فالكعبة المشرَّفة، ومقام إبراهيم، والحجر الأسود، والصفا والمروة، وبئر زمزم، وعرفات ومنى وجبال مكة وأوديتها وغار حراء وغار ثور، والتاريخ الذي تؤشر عليه مكة أو الذي يؤشر عليها ويحكيها... إلخ كل ذلك يحكي القداسة وعالم الروح والمعجزات. وفي تاريخ يوسف -كما يقول الراوي- «ليس الكعبة فقط هي المقُدَّس، وإنما جبال مكة أسرار كونية وشفاء».

يوسف باحث في التاريخ، وهذه صفة تصف الرواية بها يوسف، وتضعه في حيزها، لتسند إليه مهمة الوعي بمكة والبحث فيها. وهي مهمة مفتاحية لأن الجهل بالمكان قفل عليه وحاجز منيع عن تخلله، والجهل بمكة تحديداً يلغي ثقلها في الوعي ومركزيتها في الضمير، تلك التي تجاوز حسابات ساكنيها وأهلها إلى المنتسبين لقبلتها بل المنتسبين لمعاني المحبة والخيرية الإنسانية والكونية كما تريد الرواية أن تدلل. والإشارة إلى اختصاص يوسف بالتاريخ هو تدليل بمعنى التاريخ، على الصفة المفتاحية في يوسف؛ فالتاريخ دلالة على المستقبل، وليست علة الاهتمام بالتاريخ والبحث فيه، الوقوفَ المجرد على معرفة ما جرى في الماضي، وإنما استخلاص وعي مجاوز للماضي. أما القفل الذي تقوم دلالة المفتاح بإزائه، فهو كالمفتاح إشارة مفتوحة، لكنها -بعكس المفتاح- دلالة على كل ما يحجب ويغل ويأسر ويجهّل، إنه قفل التعاسة البشرية بمعناها الواسع، قفل الكراهية والبغضاء والتيه والنفاق والتوحش والجشع والأنانية والضعف والاغتراب وفقدان الألفة والمودة.

يرد -مثلاً- في يوميات يوسف التي صادرها المحقق ناصر وأخذ يتفحصها، ما يكتبه لعزة: «ما زلتُ في بحثٍ عن تلك الكلمات التي تقول شيئاً لتعني شيئاً آخر، والوجوه التي تحمل ملامح لتتستَّر على ملامح أخرى، والأحلام التي تحلمنا لتُخفينا في حلم كائن آخر، لا يريد بدوره أن يضمنا إلى أحلامه، التي هي في الأصل أحلام كائن آخر لا يريد أن يعيره إياها من مكتبة أحلامٍ حلمَتْها البشر قبله» ويكتب: «أكتب لأقول بأنني بسبيلي لإسقاط الأقنعة، وأولها قناعكِ».

ويضيف: «حسناً، وأنا الآن رجُل (وأيضاً كرجال أبو الرووس أحتاج إلى حجابٍ لعجزي) بحيث لا انتهي صفحة مفضوحة لعينيك». هنا كينونة معلّقة، عجز وشلل، هكذا يكتشف يوسف وجوده ووجود غيره، إنه وجود مغلق، وجود مستدير، أو كروي، قفل منطو على غير ما ينفتح، الظاهر بخلاف الباطن، أقنعة، كلمات تعني غير ما تقول، وتقول غير ما تعني، وجوه كتومة مزيفة! ولهذا فهي بلا هوية، أو هي شظايا ومزق هوية، كما هو وصفه هو نفسه في موضع آخر من يومياته لذاته: «أحتاج إلى جمع شظايا هويتي، كبقية أبناء جيلي».

الكتابة نفسها في يوميات يوسف أو مذكراته مفتاح، وهذا هو دلالة الاسم الذي يطلقه عليها والعنوان الذي يعنونها به. فقد ورد في ما أُرفِق معها من تقرير الخبير الذي قام بفحصها وترتيبها للمحقِّق: «يُسمِّي المدعو يوسف مُذكراته نوافذ، ويُقَسِّمها تحت عنوانين: نوافذ لعَزَّة: يكتب فيها الزقاق لحبيبته، ونوافذ لأم القُرَى: يعيد نبش التاريخ فيها».

ومن المؤكَّد أن النوافذ علاقة نفاذ إلى المغلَق، وإطلال عليه، واتصال به، فالنافذة دوماً فتْحة في مساحة إغلاق، أو جدار، ولا نافذة بلا مجاورة للمغلق، أو خرق له. وتتجلى مفتاحية يوسف بقدر ما تنجلي الأقفال كما يراها أو كما تتجسد في تعارضه معه، في انفجاره خطيباً غاضباً يخطف مكبّر الصوت في مسجد الزقاق بعد صلاة الفجر، قائلاً: «أنتم، أهل الزقاق، يا من أحب وأكرِّس مقالاتي لطرح قضاياهم الخاسرة... أنتم سرقتم حياتي، خنقتم كل روح شابة في الزقاق. أنتم عُصْبة ضد الحياة، من المنافقين والكاذبين، تحولتم لزقاق من الجواسيس، تتجسسون على أشد نوايانا وأحلامنا حميمية» ويتوجه إلى الشيخ مزاحم: «أنتَ، بيسراك تبني سجناً وبيُمناك تبني مسجداً، وتخطب مبشِّراً بالإيمان. أي إيمان؟!» ويقول: «أنا نفسي من المنافقين، لا أحد منا يدرك معنى أن نكون مجاورين لبيت الله الحرام، وما يقتضيه هذا الجوار من أن نحتفل بالحياة أم نحاربها؟!» وفي الختام يقول والأيدي تتناوشه: « تأملوا في الصفقة التي عقدتموها: سجن للحياة وفردوس للموت».

إن المفتاح حلم يوسف العصي، يقول لعزة «نرجع دائما إلى المفتاح، الذي يلخص كوابيسي» ويحكي الراوي عن وقوف أمه معه أمام مقام إبراهيم حيث أثر قَدَميْ سيدنا إبراهيم المطبوعتين في الَحَجَر مجاورتين لمفتاح الكعبة، وقد تجنبت أمه التحديق بجمرتي عينَيْ ابنها، متأملة المفتاح الذي شغل كتابات يوسف، فيقول يوسف: «أثر القدمين والمفتاح هذا تقرأهما البشر لآخر الزمان، ما الرسالة المخبأة هناك؟» ويمضي الراوي إلى وصف توق أمه إلى المستحيل الذي ينفذ فيه المفتاح، المستحيل الذي يوطِّن ابنها وأبناء البشر الذين يعانون الضياع مثله، ويقول يوسف: «محور حياتي الأبواب والمفتاح، تلك التي تفتح أو تغلق بوجوهنا». هنا دلالة المفتاح من خلال يوسف على الحلم والمجاوزة للواقع والنفاذ في الزمن، وهي دلالة، كما هو واضح من الوقوف أمام المقام، تبحث في الإعجازي عن المستحيل.

وتتضافر عزة/عائشة مع يوسف، في البحث عن المفتاح، والوعي بسره العجيب. فنورة هذه الفتاة التي استحالت إليها عزة أو عائشة، وسفَّرها شيخ المال والأعمال لمتعته في مدريد، منذ القسم الثاني من الرواية. تلتقي في طليطلة المرأة اليهودية التي تُحدثها عن التاريخ وتَجَاوُر الأديان في الأندلس، وتُحدثها عن ابن حزم وكتابه «طوق الحمامة» قائلة: «لقد وجد المفتاح في الحب الذي يشكِّل الجسور بين البشر» كما تحدثها عن جدها اليهودي جوزيف بن نقرالا الذي آمن أن الترجمة هي كشف الأحجبة عن العقل المطلق، أو الفردوس المطلق، وأن منقولاته فتحت الباب للعالم. وتذكُر رحلته إلى بلاد اليمن وإلى المعبدَيْن بمأرب، ورؤيته للأبواب المتألقة بالذهب تغطي الجبل وما إن يدانيها حتى تستحيل إلى بوابة عظيمة موصدة «وهذه الأبواب تفتح بين الموجودات من جماد ونبات وحيوان، وتفتح بين الألسن، وبين الحياة والموت، ويعلم الله بين ماذا وبين... الأمر يتعلق بالمفاتيح، يجب أن تعثر على المفتاح الأصل قبل أن تحلم بأن يُفْتَح لك أي من تلك الأبواب». وعاد جوزيف بتلك الأبواب إلى الأندلس، وأخذ يصوغ مع حداديها المفاتيح بحثاً عن صيغة مفتاح واحد، يفتح كل الأبواب. واستغل لصهارة الحديد من الأغاني والأشعار والرقصات والصلوات والتعاويذ التي جمعها في معبد اليمن. وتوصلوا لصياغة المفتاح حين بلغ جوزيف المئة من عمره، وأخذ يفتح باباً وراء باب، لكن جوزيف مات من الفرحة قبل أن يفتح الباب الأخير. وتحدِّث المرأةُ اليهودية نورةَ بمجيء جدها الشيبي باحثاً عن المفتاح، وعوضاً عنه وجد كل هذه الأبواب والأقفال. وأخيراً تعطي نورة «طوق الحمامة» قائلة: «نظرة الحب هي السحر القادر على قشع الأقنعة والحُجُب .. هي مفتاح أو باب لكائن خارق يكمن منْسياًّ فينا».

هكذا تتخذ الرواية من التقاطب بين المفتاح والقفل موضوعة للدلالة على أزمة الواقع والوجود الإنساني، وهي أزمة تدلل الرواية عليها بالدلالة الرمزية لطرفي الثنائية من حيث احتشادهما بدلالات تجاوز بهما الانحصار في شيء وتنشرهما لعديد الدلالات التي تعوق وتحجب وتقيد وتعجز وتهين والتي تحل وتنفذ وتقوي وتكشف وتعلم وتكرم وتشفي... إلخ. وفي رموز الأحلام عند ابن سيرين «وكل غلق هم، وكل فتح فرج». وتضاعف الرواية دلالتها على هذه الموضوعة بما تنفثه من نفس عجائبي يلون جوانب الرواية إلى جانب ما تحتشد به من جوانب تسجيلية واقعية. والعجيب هنا، كما هي طريقة العجيب في المرويات، مقترن بالرحلة والتيه الذي غابت معه محبوبة يوسف عزة مثلما غابت عائشة، والتحول إلى نورة ورحلتها في أماكن الأندلس القديمة، ولغز القتيلة التي لم ينته التحقيق في شأنها إلى نتيجة.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة