Culture Magazine Thursday  31/03/2011 G Issue 337
فضاءات
الخميس 26 ,ربيع الآخر 1432   العدد  337
 
(الإبرة والقميص)
من تَجليَّات (الكوميديا) الساخرة في الشعر العربي (2)
عمر بن عبد العزيز المحمود

لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ

إِبَرَاً يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ المنزِلِ

وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَعِيرُكَ إِبْرَةً

لِيَخِيطَ قُدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!

رابعاً: (إبراً): وهي المادة التي امتلأ بها القصر، وتأمّل كيف تبادر إلى ذهن الشاعر هذه الأداة بالذات، أعتقد أنَّ ثلاثة أسباب كانت كافيةً لروعة هذا الاختيار:

أ- لصغر حجمها ودقة شكلها، ولذلك فبالكاد أن تملأ الأعداد الهائلة منها مساحةً لا تُذكر، فكيف بأعداد ضخمة تملأ قصراً بأكمله، هل تصوَّرت المشهد؟

ب- لتفاهتها وقلة قيمتها، فالمقام مقام وصف بالبخل، وهذا البخيل يشح بهذه الأشياء التي لا يكاد يكون لها قيمة تُذكر.

ج- لأنها تتناسب مع المشهد القادم في البيت الثاني حينما يُطلب من هذا البخيل الشحيح استعارة إحداها لحاجة شديدة، وهي خياطة قميص قد تَمزَّق.

خامساً: (يضيق): إنَّ هذه الإبر التي ذكر الشاعر أنَّ قصر ابن يوسف مُمتَلٍ بها لم يكفها المكان على ضخامته واتساع مساحاته الشاسعة، وكأنَّ الشاعر لما قال: (مُمتلٍ) أراد أن يتجاوز ذلك إلى مبالغةٍ أعلى وأرقى وأكثر، فجاء بهذا الفعل (يضيق) ليبين أنَّ هذه الإبر قد تجاوزت مرحلة الامتلاء إلى مرحلة الضيق، بحيث إن كثيراً من هذه الإبر لم يعد له مكان في هذا القصر المترامي الأطراف.

سادساً: (فناء المنزل): والنص هنا على فناء المنزل له دلالة، فلو كان الذي ضاق بهذه الإبر إحدى حُجَر القصر المغلقة من الأعلى - وهذه هي طبيعة الحُجَر - لربما زعم أحد أن المشكلة في الحُجرة لضيق مساحتها وصغر حجمها - رغم أنه ذكر أنه قصر، والقصر لا يمكن أن تكون حُجَره بهذا الشكل -، ولكن الذي ضاق بهذه الأعداد الضخمة من الإبر هو فناء المنزل، والفناء هو أوسع ما في القصر وأرحب أمكنته، فإذا ضاق بها هذا المكان تحديداً فإنّ جميع أجزاء القصر الأخرى من باب أولى.

وهنا ينتهي المشهد الأول من هذه الكوميديا الساخرة، تعاضدت فيه المشاهد الجزئية الدقيقة، وتآزرت فيه المبالغات المتناهية للكشف عن الحالة المادية للمهجو - ابن يوسف، من خلال عرض مقطع قصير يصور شيئاً من مُمتلكاته.

ولا بد أن يلحظ القارئ أنَّ هذا المشهد ثابتٌ لا أثر للحركة فيه، كما لا بد أن يلحظ هنا أنَ، الشاعر حتى هذه اللحظة لم يهجُ أحداً، بل هو في مقام وصفٍ فحسب، وأستطيع أنَّ أقول إنَّ هذا البيت بما يحمله من معانٍ ودلالات ومبالغات يُمثِّلُ قمة (الاكتفاء) الذي أضفاه الشاعر على الضحية؛ ليكون تمهيداً للمشهد التالي.

(المشهد / البيت) الثاني:

قِمَّةُ الحاجة

بعد أن أنهى الشاعر المشهد الأول عن طريق وصف الضحية بأوصاف دلّت على قمة اكتفائه الذاتي ها هو الآن يصور المشهد التالي، وهو مشهد متحرك وليس ثابتاً كسابقه، كما أنَّ شخصيةً أخرى جديدة ستظهر خلال هذا المشهد لتضيف للنص إثارةً زيادةً على إثارته، ومبالغةً فضلاً عَمَّا فيه من مبالغة، فدعونا نستكشف جماليات الحركة في هذا المشهد وما فيه من مبالغات باهرة:

أولاً: (وأتاك): وهنا إشعارٌ بدخول شخصية جديدة إلى هذا المشهد، والشاعر هنا يصور قدوم شخص ما إلى ابن يوسف لحاجة ما سيكشف بقية البيت عن هويته والحاجة التي يبتغيها، ولكنَّ الذي يلفت الانتباه هنا أنَّ الشاعر بدأ منذ بداية المشهد بوضع اللبنة الأولى للكشف عن قمة الحاجة التي يفتقر إليها هذا الشخص، وذلك عن طريق تصويره بأنه يأتي هو بنفسه إلى ابن يوسف في قصره الأثير راجياً حاجته الملحة، أي أنَّ ابن يوسف لم يكن هو الذي ذهب إليه لأمر ما فاستغل الرجل الفرصة وشكا إليه حاجته، كما أنهما لم يلتقيا صدفة في مكان ما فاستثمر الرجل هذا اللقاء ليعرض حاجته على هذا الغني المقتدر، بل إن الحاجة الشديدة هي التي أتت بالرجل إلى عند باب المهجو / ابن يوسف.

ثانياً: (يوسف): والشاعر هنا يكشف عن شخصية هذا الرجل المحتاج الذي تجشَّم العناء لتحط به الرحال عند عتبات قصر ابن يوسف المنيف، وما هذا الرجل سوى يوسف نفسه والد المهجو / ابن يوسف، ولهذا السبب تعمّد الشاعر النص على اسم هذا البخيل في بداية البيت عن طريق نسبته إلى أبيه، وهنا لا بُدَّ لي من عدة وقفات:

أ- مجيء الأب إلى قصر ابنه ووقوفه على عتبات بابه طالباً منه المساعدة كافٍ في بيان شدة الحاجة التي وصل إليها هذا الأب المسكين؛ إذ إن الوالدين في العادة لا يطلبان شيئاً من ابنهما كي لا يثقلان عليه؛ رأفةً ورحمةً به وشفقةً عليه، أو عِزَّةً وأنفةً منهما، لكنَّ الحاجة الشديدة جعلت هذا الأب يخالف هذا المعتاد ويأتي بنفسه ذليلاً مُفتقراً إلى ابنه الذي وصل الغاية في الغنى والاكتفاء.

ب- لاحِظ كذلك أنه على الرغم من قمة الاكتفاء التي وصل إليها الابن وقمة الحاجة التي وصل إليها الأب، إلا أنَّ هذا الابن العاق كان غارقاً في غناه وأمواله إلى الدرجة التي وصل فيها إلى نسيان أبيه وعدم تفقد أحواله والسؤال عنه، خصوصاً وهذا الأب يرزح تحت وطأة الفقر الشديد كما سيتبين من خلال بقية البيت.

ج- ويتجه فهم النص إلى مستوى آخر من التعبير يدل على براعة الشاعر وإبداعه في استخدام الفنون الجمالية وتوظيفها في خدمة النص للكشف عن الثراء الدلالي الذي يتسم به وغزارة المعاني التي يمكن أن يحملها إلى المتلقي.

فإذا كان البعض قد فهم أنَّ يوسف هذا هو والد المهجو / ابن يوسف - وذلك من خلال نسبته إلى أبيه في بداية البيت الأول - واستشعر الفاقة التي حلَّت به، والدناءة التي توشَّح بها الابن، أقول: إذا كان البعض قد فهم هذا واستشعره فإنَّ البعض الآخر قد فهم فهماً آخر لشخصية يوسف هذه، وهو أنه ليس المقصود به والد ابن يوسف، وإنما المقصود - وهنا تكمن المفاجأة - أنه يوسف عليه السلام نبي الله، ويمكن أن يؤيد هذا الفهم أمران:

1- ما سبق رواية هذين البيتين في بعض كتب الأدب من قصةٍ تشير إلى مقولةٍ تدل على معنى هذين البيتين، وقد نُصَّ فيها على أنَّ المقصود هو يوسف u، وقد ذكرتُ نصَّ هذه القصة في ملاحظاتي الأولى على البيتين أثناء تتبعي لهما في المصادر التي أوردتهما، وقلتُ حينها أنَّ بعض الكتب ذكرت أنَّ ناظم هذين البيتين قد استفاد من هذه المقولة وصاغها شعرا.

2- أنَّ ما ورد بعد ذلك في بقية البيت من ذكرٍ للقميص وقَدِّهِ يتناسب مع القصة المعروفة ليوسف عليه السلام مع امرأة العزيز الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا التفسير الذي يرى أنَّ المقصود هنا هو يوسف عليه السلام أستطيع أن أدوِّن بعضاً من الدلالات التي يمكن أن يثيرها هذا التفسير:

أ- ما تتميز به هذه الشخصية النبوية المعصومة من جلالة قدرٍ وعلو منزلة، وهل هناك شخصية بشرية أرفع مقاماً من الأنبياء؟ إذا استحضر القارئ هذه القدسية التي تشع من حضور هذا النبي الكريم استشعر بكل وضوح هيبة الموقف وارتباك المشهد، فهذا النبي الشريف يأتي بنفسه إلى بيت هذا المهجو البخيل ويقف أمام عتبات قصره الضخم طالباً حاجته الفائقة، ومُبدياً انكساره وفقره الشديدين.

ب- الظروف والملابسات التي أحاطت بهذا النبي الكريم تحديداً دون غيره من الأنبياء، فلا أحد يجهل المواقف المأساوية والعقبات الشديدة واللحظات الصعبة التي مرَّت بيوسف u، ابتداءً من حسد إخوته وإلقائهم له في الجب، ومروراً بقصته مع امرأة العزيز، وانتهاءً بدخوله السجن، والمعاناة التي كانت ترافقه طوال هذه السنوات من فقدٍ لأهله وغُربته الرهيبة.

فإذا تأمّل القارئ الكريم هذه الظروف واستشعرها جيداً، ثم حوَّل بصره نحو هذا المشهد الحي المباشر الذي يطرق فيه يوسف عليه السلام باب هذا القصر، وهو يطلب من صاحبه ما سيطلب لا يملك القارئ حينها إلا أن يعجب أشد العجب وهو يتوقع بل يقطع جازماً دون تردد أو شك أنَّ ساكن القصر لن يتأخر في تلبية طلب هذا النبي الكريم أياً كان هذا الطلب، خصوصاً وهو يمر بظروفٍ ومآسٍ يعرفها كل أحد.

بل إنَّ القارئ يتمنى أن يكون مشاركاً في أجواء هذا المشهد لكي يُقدِّم كل ما يستطيع وما لا يستطيع لهذا النبي الكريم، بل إنَّ هذه الرغبة قد كانت موجودة لديه منذ أن قرأ قصته العجيبة التي رواها القرآن الكريم في السورة التي حملت اسمه؛ لأنه يدرك أنَّ صاحب المعروف في هذا المشهد هو هذا النبي المحتاج الذي ساقته الأقدار إلى هذا الباب المشؤوم.

ج- ثم إنَّ مجيء هذا النبي الكريم إلى قصر هذا البخيل يبعث كثيراً من التساؤلات حول سرِّ هذه الزيارة، ويثير أعلى درجات الفضول لدى القارئ في معرفة السبب الذي أدَّى بهذا النبي الكريم إلى أن يقصد هذا القصر ويقف عند عتبات بابه وهو مَن هو في جلالة القدر وعلو المنزلة.

Omar1401@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة