الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th November,2006 العدد : 177

الأثنين 29 ,شوال 1427

في نقد جابر عصفور
التعدد..التنوع..في الوحدة
محمد دكروب

1- القراءة في فضاء المكان!
كل مرة أستمع فيها إلى جابر عصفور، وهو يفتتح المؤتمرات التي ينظمها المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، أو يلقي مداخلة ما في هذه الندوة أو تلك.. تأخذني في الذاكرة - ولو خطفا ً - إلى اسمين كبيرين نتشارك في حبهما وفي التقدير الكبير لنتاجهما ودوريهما الأساسيين في ثقافتنا العربية الحديثة: طه حسين، ونجيب محفوظ.
فإذ يقف جابر عصفور خلف المنبر، يتدفق بالكلام، في لغة عربية متينة قوية مطوعة وواضحة، لينة المأخذ والتلقي، جميلة السبك والوقع، مشحونة بثقافة شمولية تريد أن توصل مقاصدها ومعانيها القريبة والبعيدة إلى الحضور في رجال الثقافة، وتالياً إلى القارئ يوم ينتج الدكتور جابر لمداخلاته هذه أن تنشر في جريدة أو كتاب.
وسواء كانت الكلمة هذه مكتوبة بنصها، أو أنها - كما عادته - مجرد رؤوس أقلام وعناوين كتبها على ورقة واحدة، فإن د. جابر يلقي وهو يواجه الجمهور مباشرة، فلا ينظر إلى أوراقه إلا لماماً، فكأنه حفظ (الخطبة) غيباً... ويأخذك الصوت وسلاسة الكلام وعذوبة الإلقاء، وتشعر كأن هذا الخطيب المحلل يقرأ كلاماً مكتوباً بالكامل في فضاء المكان، وتشعر - وأنت تستمع - بعلامات الكتابة: هنا فاصلة، وهنا نقطة، وهنا جملة جديدة على السطر الجديد، وهنا علامة تعجب واحدة أو أكثر، وبعدها علامة استفهام خافتة أو مدوية، وهنا انتقال إلى مقطع جديد يتقدم بك خطوة جديدة في أنحاء بنية الخطاب... وأهم من هذا، فإنك تلاحظ أن تموجات الصوت تأخذ بسمعك، وبيديك، إلى بعض المعاني والأفكار التي يؤكد عليها الخطيب فكأنه يؤشر تحتها بزيح من قلم أسود أو أحمر، ولك أنت أن تحدد اللون المقصود.
وإذ آنس إلى صوت الدكتور جابر وهو يلقي، في هذه اللغة العربية المتينة، القوية والمطواعة والمليئة بالمعاني التي يحملها للكلام ويريد أن يوصلها واضحة إلى سمعك ووعيك، ثم أنساب معه للاستماع إلى إيقاعاته.. إذ بي أعود بالذاكر - مع هذا الصوت وتموجاته - إلى وقفة طه حسين وهو يلقي، ويتدفق بالكلام كأنه يقرأ في كتاب، ليوصل إليك رأياً وفكراً وموقفاً طالما نهل منها جابر عصفور وتتلمذ عليها وتفاعل معها، كما تأثر، بالتأكيد، بسحر الكلام.
ولقد سمحت لنفسي أن أشير إلى هذا التشابه، في الوقفة والإلقاء وملامح الفكر، والتدفق بالكلام، لأنه أُتيح لي - ربما قبل خمسين عاماً - أن أرى طه حسين وأستمع إليه - مرتين - وهو يلقي، فيتدفق الكلام كما جدول الماء الصافي الطالع من نبع بلوري بعيد الغور.. (مرة استمعت إليه في بيروت، ومرة في بلودان بسوريا - وهذا حديث آخر له مجال آخر..)
ودائماً، وأيضاً، إذ ألتقي بجابر عصفور، يحضر في ذهني اسم ذلك الكبير الآخر: نجيب محفوظ.
ذلك أنني التقيت بجابر عصفور، أول مرة، في إطار ندوة عن أدب نجيب محفوظ نظمتها كلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1990، وشاركت فيها ببحث عن (صراعات اليمين واليسار في شخصيات نجيب محفوظ)... وعندما قدموني إلى الدكتور جابر فوجئت بإشراقة في عينيه وفي وجهه... عانقني وهو يقول: (محمد دكروب؟ - مجلة الثقافة الوطنية العزيزة؟ - عطر أيام الخمسينيات والمعارك الأدبية - السياسية أيام الخمسينيات)
وبدأ تاريخ صداقة جميلة خصبة أعتبر بها.
وتبين لي، عبر اللقاءات في القاهرة أو في بيروت، وبالأخص عبر قراءاتي لنتاجه المتنوع والمتعدد المجالات، في النقد الأدبي وفي الفكر على السواء، إننا نتشارك ونتلاقى في العديد من الآراء والمواقف، وأننا نلتقي في تقدير وحب وتقييم صاحبي هذين الاسمين الكبيرين طه حسين ونجيب محفوظ، إلى جانب أسماء عديدة أخرى... وأننا في الأغلب، لا نختلف كثيراً في العديد من المواقف والرؤى النقدية، سوى أن جابر عصفور هو الأكثر شمولاً ومعرفة ومرونة وبالتأكيد وهذا بالتحديد ما يجذبني إلى متابعة كتاباته النقدية والبحثية، سواء في المجلات والصحف، أم في كتبه التي تجاوز عددها العشرين كتاباً، منذ أصدر كتابه الأول عام 1973، وكان بعنوان (الصورة الفنية في التراث الفكري والبلاغي).
قلت إننا نشترك معاً في التقدير العالي لفكر طه حسين الرائي والعقلاني والرومانسي في حالات كثيرة، ونشترك أيضاً في حب طه حسين الشخصي: بجرأته وباقتحامه الحدود والسدود والعراقيل أمام تقدمه وتعلمه وصعوده، وهو الأعمى الآتي من وسط ريفي فقير.
كما أننا نشترك معاً في التقدير العالي لإبداع نجيب محفوظ وقدراته الخارقة على التنوع والتنويع في فنون الخلق الروائي والتجديد الطليعي فيه... ونشترك أيضاً في حب شخص نجيب محفوظ: بدأ به الأسطوري على الكتابة، الإبداعية، بنظام وتوقيت صارمين، واعتباره أن الكتابة هي لذته القصوى، وبحرصه على عيش الحياة بالطول والعرض، كما يقول، وبالحرص الشديد والحنون على صداقاته واكتساب صداقات جديدة، باستمرار، حتى اللحظات الأخيرة في حياته.
2- عن كتابة الرائي المقتحم: طه حسين
فكيف رأى جابر عصفور كتابة طه حسين؟.. وكيف سعى للتعرف على العناصر التكوينية الأساسي لهذه الكتابة في مجالاتها المختلفة؟
في مقالة له ممتعة ومشوقة (ذكريات كتاب - العربي، أغسطس 2005) يسرد لنا جابر عصفور بعض ذكريات عن حكاية تأليفه لكتاب متميز عن كتابة طه حسين النقدية أصدره قبل ثلاثة وعشرين عاماً، بعنوان (المرايا المتجاورة - دراسة في نقد طه حسين) (1983)... ففي ذلك الوقت كان د. جابر واقعاً تحت تأثير (البنيوية) فكان مهتماً بالنسق والنظام والبنية، فطرح على نفسه السؤال: (أين البنية التي تكمن وراء كتابات طه حسين وتردد تكثرها إلى وحدة وتعددها المراوغ إلى نسق منتظم متجانس؟..)
على أن الاهتداء إلى الجذر الأساسي الذي يحكم هذا التنوع الهائل في كتابات طه حسين النقدية، هو مهمة صعبة وممتعة في البحث والتدقيق والمقارنة ورؤية الروابط والعلاقات ليصل الباحث ليس فقط إلى اكتشاف جذر بنية الفكر النقدي لطه حسين، بل ليصل اعتماداً على اكتشافه هذا، إلى تأليف كتاب في نقد النقد، مبني - هو أيضاً - ومتراكب، يمزج خصائص الكتابة النقدية الحديثة، ربما فيها نقد النقد، بسياق أشبه بالعمل الفني الذي يشكل، كذلك وحده عبر التنوع، واتساع الآفاق.
فعبر قراءات في المجالات المختلفة لكتابة طه حسين النقدية لاحظ د. جابر تكراراً لافتاً وملحاحاً لكلمة (المرآة) في هذه الكتابة.. ورأى أن تتبع أحوال هذه الكلمة (المرآة) وتحولاتها وتعدد استخداماتها ومواقعها في كتابات طه حسين هذه، هو تتبع للعناصر التكنولوجية لفكره النقدي (المرايا المتجاورة - ص 14)
وبعد اختبارات لأنواع الكتابة لطه حسين، وقراءة مشتركة مع أستاذه الناقد عبد العزيز الأهواني، للأجزاء الثلاثة من كتاب طه حسين (حديث الأربعاء) للتأكد من سلامة توصيله إلى أن كلمة (المرآة) ومعانيها وتحولاتها رأي أن هذه الكلمة قد تشكل الأساس النسقي لكتابة طه حسين النقدية... ثم رأي أن المرآة هذه ليست مجرد عاكس بسيط بل هي في الكتابة، متعددة الأبعاد، وأن هناك على الأقل ثلاثة أنواع في مرايا الكتابة والأدب عند طه حسين هي: مرآة الأديب، ومرآة المجتمع، ومرآة الإنسانية... وأنواع وتحولات شتى لمعاني هذه الكلمة.
وصدف أن قرأ د. جابر، في ذلك الوقت كتابا للناقد الإنجليزي م. هو أبرامز بعنوان (المرآة والمصباح) يبحث في الكتابة وفي النقد.. فالمرآة هنا هي العاكسة لأشياء الخارج وفضاءاته، والمصباح هو الذي يصدر نوره في الداخل، وبما يعتمل في الداخل، ورؤية هذا الداخل للخارج.... وإذا كانت الكتابة النقدية لطه حسين أكثر ميلاً إلى تعبير (المرآة)، فإن قراءة د. جابر لنقد طه حسين كانت تنزع إلى تجاوز (المرآة) إلى الأبعد والأكثر تركيباً، فراودته الحيرة بعض الشيء، ولكنه رأى في هذا (المصباح) ضالته، ورأى أن من شأن هذا التعبير (أو النظرية) أن يغني رؤيته، فاستعان ب (المصباح) أيضاً، من حيث إن الأدب مرآة الخارج وصورة الداخل معاً، وأن الكتابة النقدية هي مرآة تحليلية للكلام حول العمل المنقود، كما أنها صورة لرؤية ناقد النقد هذا وخصائصه الفردية حين تصور - كما المصباح - في داخل الناقد لتحليل النص المنقود الذي هو خارجه وهو موضوعه الذي يرى إليه بعينه هو وليس فقط بعين الكاتب المنقود.
... فكان لنا في د. جابر هذا الكتاب الشمولي المتميز (المرايا المتجاورة - 510 صفحات من القطع الكبير)، حيث يكتب عن الكتابة النقدية لطه حسين بكل الحب ورحابة التقييم، حيث ينتقد جوانب في آراء طه حسين النقدية، بكل الحب أيضاً والتبيان الرحب لترابط هذه الآراء بزمانها النقدي.
يردد د. جابر، في مناسبات عديدة، أنه (تلميذ صغير في مدرسة طه حسين) على أن كتابات د. جابر العديدة عن طه حسين لم تكن فقط بعامل الوفاء، بل هي، أساسا، احتفاء بالقيمة التي أضفاها وأضافها طه حسين إلى حياتنا الفكرية والثقافية والإبداعية عموماً... وباستمرار كان د. جابر يؤكد على الطبيعة التنويرية لنقد طه حسين بكل ما يقترن بهذه الطبيعة في موسوعية وجسارة وفكر متقدم.
3- نجيب محفوظ: التحولات ومجابهة القمع
وكيف كان رأي د. جابر إلى نجيب محفوظ وإلى مسيرته الروائية التي أوصلت رواياته إلى العديد من بلدان العالم؟
في كتاب له بعنوان (الاحتفاء بالقيمة 2004) وتحت عنوان (تحية نجيب محفوظ) يرسم د. جابر بقلمه لوحة بانورامية شمولية ومكثفة جداً، لمسيرة نجيب محفوظ الروائية: الشخصيات، والأمكنة، والأجواء، والمناخ التاريخي، وكذلك التقنيات والتغييرات الأساسية في تقنياته بين رواية وأخرى بما يتفاعل مع مختلف التقنيات الروائية الحديثة، ولما يضيف جديدة هو إليها، وتأصيله الخاص لهذا الجديد.
ويصف د. جابر الروائي نجيب محفوظ، وقد وصل إلى مكانته الروائية الإنسانية العالمية بأنه: واحد من الكتاب الاستثنائيين الذين يقفون بحضورهم الإبداعي علامة حاسمة في تاريخ الكتابة الإبداعية، شأنه في ذلك شأن عظماء الكتاب الذين كتبوا بأقلامهم ما ترك آثاره العميقة غائرة في الوعي الإنساني على امتداد عصوره وأماكنه فهو كاتب عربي إنساني، يجمع بكتابته ما يصل الإنسان بالإنسان على امتداد الزمان والمكان، وعلى اختلاف اللغات والديانات والأعراق والقوميات. (ص 141)
ويرى د. جابر أن الوجود الإنساني يغدو في روايات محفوظ صراعاً مستمراً ضد الزمن وضد الشر وضد الظلم واحتكار المعرفة وسعياً دائماً إلى التحرر، والتجريب، والمغامرة، وصنع المستقبل.
في جميع كتاباته عن نجيب محفوظ، يلح د. جابر على تبيان المحتوى النضالي العميق لرواياته، سواء عبر النماذج الإنسانية في هذه الروايات، وبالأخص عبر صراعات هذه النماذج فيما بينها، وصراعات في المجتمع من أجل أهدافها المختلفة والمتخالفة، أم عبر متن الروايات وسياقاتها والإضاءات التي توصلك إليها كل رواية، ودائما نرى المؤلف محفوظ - عبر مجمل العمل الفني - في مكانه الطبيعي: مع الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ودائماً ضد مختلف أشكال القمع، ومختلف قوى التعصب والظلامية والإرهاب... ودائماً دائماً يؤصل لجديده الفني بين رواية ورواية. ويحفر عميقاً ليصل هو، ويوصلنا معه، إلى الجذر الإنساني، إلى ينابيع النور والظلمة في السلوك الإنساني وأنواع الصراعات.
وفي كتاباته عن (أولاد حارتنا) الشهيرة، والإشكالية، يزاوج د. جابر بين راهنية هذه الرواية العظيمة وتراثنا السردي العربي، التراث السردي الإنساني عموماً، ويرى أن هذه الرواية بالذات تشكل في تكوينها الرمزي، وشخصياتها - النماذج، وطابعها الكنائي، وتصور حالات القمع الفكري والسياسي والاجتماعي... تشكل امتداداً إبداعياً لتراث في الأعمال الإبداعية - الفلسفية، جابهت القمع والإرهاب بالرمز والحيلة والمواربة والكناية، مثل (كليلة ودمنة) و(حي بن يقظان) وصولاً إلى (غابة الحق) لفرنسيس المراشي و(الدين والعلم والمال) لفرح انطون، في السرديات الرمزية المقاومة في تراثنا العربي القديم وتراثنا النهضوي.
ويشير د. جابر إلى نجيب محفوظ هو أول من حاول الكشف عن العقليات المحافظة في تأويلاتها الدينية، مسلطاً الضوء عليها من حيث هي مولدات للقمع الديني، على امتداد أعماله التي ترجع أوائلها إلى ما قبل ظهور أحداث الإرهاب المتصاعدة منذ السبعينيات الساداتية (راجع: مواجهة الإرهاب - قراءات في الأدب العربي المعاصر، 2005)
في مختلف أحاديثه عن هذه الرواية أو تلك، يستحضر د. جابر السياق الثقافي والمسار السياسي الاجتماعي الذي تكونت الرواية فيه، وحملت تأثيرات عميقة منه، فكانت مناخها نتاجاً له، ثم أخذت تمارس، بهذا الشكل أو ذاك، فعلها فيه.. وكشفت آليات القمع والاضطهاد والاستثمار في زمانها، كما كشفت ملامح من جهود المقموعين والمناضلين العاملين للخلاص من الظلم، ولبناء مجتمع عادل، حيث (تمتلئ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً)!
فمن خلال تحليله، إذن، لهذه الرواية أو تلك، تتعرف، في الآن نفسه، على حكاية الصراعات الاجتماعية وأحوال الحكم والحركة السياسية والنضالية وحراك الأحزاب والجماعات، وعلى بنية الرواية وشخصياتها وأماكنها وجديدها الفني، وعلى موقع الرواية هذه ومكانها بين روايات المؤلف، ومكانها في المسار الروائي عموماً.
.... ولعله، بهذا، يكون أقرب إلى (البنيوية التكوينية)، على طريقته في تأصيلها عربياً... والله أعلم!
4- محفوظ - عصفور...
وزمن الرواية
.... ويعود د. جابر عصفور - في مفتتح كتابة (زمن الرواية) 1999 - إلى رأي (قديم) للشاب نجيب محفوظ، كان قد نشره في مجلة (الرسالة القاهرية) أيلول - سبتمبر 1945 قال فيه: إن القصة (الرواية) هي شعر الدنيا الحديثة، فهي تتوافق مع عصر العلم والصناعة والحقائق، العصر الذي ترعرعت الرواية في أحضانه فصارت هي الفن الجديد الذي يعبر عن هذا العصر الجديد ويصور أحواله وصراعاته وإشكالاته. ... ويقول جابر عصفور: إنه زمن الرواية!
فبعد تواتر النتاج الروائي، منذ أوائل الروايات العربية، في أواخر القرن التاسع عشر، وروايات (زينب) لهيكل و(عودة الروح) لتوفيق الحكيم، و(الرغيف) لتوفيق يوسف عواد، مروراً بروايات نجيب محفوظ، بتطوراتها وتحولاتها، وصولاً إلى تصاعد النتاج الروائي، كماً ونوعاً وتجديداً حداثياً، في مختلف البلدان العربية، رأى د. جابر شرعية متينة للقول إن زمننا هذا هو زمن الرواية.
و(شرعية) هذا الحكم، أو هذا التوصيف، لا تتأتى فقط من تكاثر النتاج الروائي العربي، بل تتأتى أيضاً، خاصة، ومن مدى الانتشار الواسع للرواية العربية، والمترجمة، أوسع بكثير من انتشار الشعر، الذي سبق أن تبوأ قديماً مكان الذروة بين فنون الكتابة العربية... فحلت الرواية، الآن، محله!. ويجد هذا التوصيف شرعيته - أيضاً - من واقع التباعد بين القارئ العربي والنتاج الشعري في زماننا، وهذا بالطبع ليس أبداً حكم قيمة أو تقييم لكل من مستويات النتاج الشعري والروائي، بل هو حكم يبرره واقع الحضور الأوسع والأعمق للرواية العربية في الأوساط العربية القارئة، ويتأتى في مدى التعبير عميقاً واتساعاً، عن تحولات الحياة الاجتماعية العربية والصراعات فيها، ومدى جذرية هذا التعبير، والإمكانية الأعمق والأوسع للتواصل مع القراء وتطلعاتهم نحو الحرية والتحرر والتقدم الاجتماعي
ذلك أن زمن الرواية، حسب رؤية د. جابر: يوجد حين يغدو التمرد على الأنساق المغلقة بداية انهيار هذه الأنساق، وحين تتولد رغبة التحرر عارمة، وتتأصل إمكانات التحديث فارضة وجودها، وينبثق علم العقل بمدائن المستقبل الخالية من القمع. بعبارة أخرى: (أن زمن الرواية العربية هو زمن الاستنارة التي تعني أولوية العقل في إدراك المعرفة)
وفي الجانب الآخر لهذا التوصيف، وانطلاقاً من الوعي المتكامل بزمن الرواية العربية، وبزمننا العربي الراهن، رأي د. جابر ضرورة إعادة تأمل القمع في صوره الحديثة، خصوصاً من زاوية العلاقة بين الزمن النوعي المولد للرواية العربية، وأشكال القمع التي كانت دافعاً من دوافع انبثاقها واندفاعها في مسيرتها الصاعدة.
للرواية العربية إذن - إلى أدوارها الأخرى - دور مزدوج: دور معرفي تنويري من ناحية، ومجابه للقمع والإرهاب والظلامية من ناحية أخرى... وهذان الخطان يتوافقان مع توجهات الكتابة عند د. جابر... فمن الطبيعي، إذن، أن نجد د. جابر - إلى كتاباته في مجلات عديدة وفنون إبداعية متعددة - يكاد يتخصص في النقد الروائي، الذي يصير بين يديه وفي وعيه: تأملاً (تقنياً) في التحولات الفنية الحداثية للرواية، وتأملاً معرفياً في أحوال المجتمع، وأحداثه، والصراعات فيه... وبهذا يقدم الناقد للقارئ زاداً ثقافياً ومعرفياً في حال الرواية وحال المجتمع معاً.
5- كلمات.. في نقد جابر عصفور
اختار د. جابر عصفور أن تكون له طريقة خاصة في النقد الأدبي والثقافي، وكذلك في الكتابة عن أهل الثقافة في مجالات البحث والفكر والأدب والرواية.. من خاصيات هذه الطريقة النقدية أنها تمزج بين التحليل والسرد وتصنع في مهماتها أن تقدم للقارئ (معلومات) ضرورية عن الموضوع الذي تتناوله، وأن تشكل هذه المعلومات جزءاً عضوياً وضرورياً في بنية الكتابة نفسها.
في مقالة ممتعة بعنوان (ذكريات كتاب) (مجلة العربي) أغسطس 2005 نرى كيف يشتغل د. جابر عصفورعلى تأليف الكتاب النقدي (وهو هنا كتاب: المرايا المتجاورة - دراسة في نقد طه حسين - صدر عام 1983) كما لو أن الكاتب الناقد يشتغل على رواية، من حيث تفتيش الباحث على المقولات والعناصر الأساسية التي سوف يعتمدها الباحث نفسه في كتابه عن طه حسين، ثم كيف يعمل على اكتشاف العنصر الأساس في بنية الكتابة عند طه حسين، وعلى ترابط الفصول بين التحليل والسرد بما يقضي، في الخاتمة إلى لحظة التنوير.. وهو يسرد - في المقال - حكاية تأليف كتابه هذا، بما يشبه الرواية، ويحكي ما (يصادفه) خلال عملية البحث والسعي والتفكير والتجميع من مفاجآت مشهدية وحديثة وفكرية، لعب بعضها دور مفاتيح للدخول إلى عالم الكتابة النقدية عند طه حسين، ودخل بعضها في صلب الكتاب وأسهم بعضها في إضاءة جوانب من كتابات طه حسين، وفي مقولات في النقد الأدبي وتشوفاته الجديدة سنوات وضع د. جابر كتابه هذا.
وقد أميل إلى القول: إن د. جابر عصفور يشتغل على مقالاته النقدية في هذا السياق التصاعدي نفسه، بحيث يتعرف القارئ على موقع الكتاب المنقود، في سلسلة الأعمال النقدية زمان التأليف، وموقع هذا العمل في سلسلة أعمال الناقد نفسه، كما نتعرف على رؤية الناقد الراهن (د. جابر) وموقعه الفكري وانطلاقاته النقدية وحتى الإيديولوجية التي يصدر عنها.
ولعلي أقول إن هذا النهج البنائي، في الكتابة النقدية نادر في الساحة النقدية العربية. وخلال سرد حكاية تأليف كتابه هذا، نعرف في د. جابر معالم الوضع السياسي الاجتماعي لتلك الفترة، كما لو أن حكاية الكتاب هي في الوقت نفسه حكاية الفترة السياسية وموقع د. جابر في خضم هذه الحكاية - الأحداث، وأيضاً وبخاصة، حكاية السنتين الأخيرتين من عمر طه حسين.
د. جابر يتعاطى حداثياً وتفاعلياً مع النظريات والتيارات النقدية في العالم، ويتعاطى حداثياً وعقلانياً وقومياً مع تراث النقد الأدبي العربي بجوانبه المختلفة والمتخالفة، مع إبراز واضح للجوانب العقلية والجمالية في هذا التراث، في منظور الراهن. وان مخزونه المعرفي بمنجزات هذين الجانبين، العربي والغربي واسع وعلى اتساع، مع متابعة دقيقة لمختلف تيارات الأدب والنقد الأدبي العربي، منذ عصر الإحياء إلى مختلف تيارات الحداثة حتى يومنا هذا.
في تقديم كتابه (مواجهة الإرهاب - قراءات في الأدب العربي المعاصر 02003) يستعيد د. جابر عناوين الكتب العربية القديمة عن فنون القمع وأنواع التعذيب وضروب السجون. رابطاً هذا التراث بزماننا، إبداعياً وحياتنا، باعتبار أن أنواع القمع الراهن والكتابات عن القمع، إنما تشكل امتداداً - أميناً للقمع القديم، والإبداع القديم، وتطويراً للقمع في الشراسة والوحشية والسادية المرعبة، وللإبداع في الصدق والجسارة ومقاومة الظلم.
ويلفت د. جابر الانتباه إلى أن الأدب العربي، في كل عصوره، كان ولا يزال يواجه أشكال القمع المقترنة بالإرهاب.
أكثر الأعمال الإبداعية التي يكتب عنها د. جابر عصفور تتميز، كما يقول، إنها أولاً - قاومت الإرهاب الديني، الاجتماعي، السياسي، ولكن بوصفها أعمالاً إبداعية ابتداءً، وثانياً بأنها مهمومة بتقنياتها الفنية المتميزة التي لم تتخلَ عنها لصالح أي خطاب إيديولوجي مباشر.
ويرى د. جابر أن الكتابة الفكرية عن هذه الأعمال هي موقف مواز بمعنى في الاتجاه نفسه: مقاومة القمع والإرهاب والاضطهاد والفكري والجسدي للمناضلين المدافعين عن الحرية والعدالة الاجتماعية.
لعلي أرى أن التزام د. جابر بالنظرية (البنيوية) في النقد وبشعاراتها ومصطلحاتها الزاعقة - حسب تعبيره - لم يستمر طويلاً.. فهو لم يعد يتعب لمذهب أو نظرية محددة في المدارس النقدية المعاصرة، بل هو يقرأ العمل الأدبي ويحلله حسب ما تقتضيه نوعية هذا العمل بالذات، معلقة، منفتح على مختلف المذاهب والنظريات والطرائف النقدية، يستفيد منها جميعاً ويصهرها في مخزونه الثقافي، ويطوع مداخله النقدية لتغييرات (المذاهب) واحكامه، بل لما تتطلبه - أو ما يرى أن تتطلبه - نوعية العمل الفني أساساً وبالدرجة الأولى.
ولعله في طبيعة ممارساته النقدية، أقرب إلى نظرية (البنيوية - التوليدية) التي تمزج أو تربط البنية الداخلية للعمل الفني بالبنية الاجتماعية السياسية الأوسع.. فلا تعزل العمل الفني عن مهاده.
في كتابه القيم (نظريات معاصرة 1998) يقول د. جابر: احسب أن السمة الحاسمة التي تكشف عن أهم ما يتميز به النقد الأدبي المعاصر وفي ممارساته العالمية هي أنه نقد لا يكف عن مساءلة ذاته في فعل مساءلة موضوعه (ص9).
... واحسب أن د. جابر عصفور، بقوله هذا، يصف أيضاً تحولاته هو عبر مساءلته ذاته حول مداخله في نقد أو تحليل هذا العمل الأدبي أو ذاك.. فهو لا يكف عن التطور والتطوير بفعل قراءاته ومتابعاته لحركة النقد الأدبي وتحولاتها وتقدمها وتعدد مناهجها في العالم.
واحسب انه يميل إلى الحكمة الجدلية القائلة بالتعدد ضمن الوحدة أو الوحدة ضمن التعدد، وهو يجتهد أن يعمل بمقتضى هذه الحكمة في عمله النقدي والفكري والإنساني على السواء.
...............................................لبنان
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved