الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th November,2006 العدد : 177

الأثنين 29 ,شوال 1427

من فيض الحجاز والمدينة المنورة
أمل زاهد
يؤكد كتاب الدكتور محمد العيد الخطراوي (أسرة الوادي المبارك) حضور المدينة المنورة كإحدى الروافد الثقافية المهمة والمكونات المعرفية الرئيسة، التي نهل منها أبناء الحجاز وساهمت بدورها في تكوين ملامح وسمات الشخصية الحجازية ونهل منها أيضا أبناء نجد وباقي المناطق الأخرى في المملكة العربية السعودية. فالهوية الحجازية أفاضت ونفحت من ثرائها كل من يتماس معها أو يحتك بها؛ لما يحفل به تكوينها من غنى وملامحها من تفرد وتمايز، فقد امتزجت في تكوينها ثقافات وكيانات متعددة وهويات مختلفة قدمت إلى الحجاز ثم آثرت الجوار والاستقرار في الأرض الطاهرة فتلاقحت مع الهوية الأصلية وسكبت أطيب ما عندها في الوعاء الحجازي، كما أخذت من سكان المدينة الأصليين أزكى ما لديهم ليتشكل هذا الكيان المتمايز بخصوصية ثرية وتوليفة بديعة، تفيض بالزخم الذي لا يستلبها أصالتها ولا يفتئت على عراقة حضارتها، بل ينجدل مع تلك المكونات ويتضافر معها ليضيف إليها فسيفسائية جميلة تزيدها إشراقا وتمنحها مزيدا من الألق والبهاء. يورد الكاتب نماذج شعرية تتغنى بالمدينة المنورة لشعراء أحبوا المدينة المنورة مبتدئا بحسان بن ثابت ومتدرجا بعمرو بن الوليد بن عقبة الأموي ثم أبي عبد الله بن أبي عمران البسكري والمتوفى في المدينة عام 713 هـ، ثم يعرجُ إلى شعراء أحدث عهدا منهم من لا يزال على قيد الحياة ومنهم من توفاه الله. والمتأمل في الشعر الذي يتغنى في حب المدينة لا بد أن يلاحظ أن المدينة تتمزج وتتماهي عند كثير من أولئك الشعراء مع الحبيبة، فكأنما الشاعر وهو يتغنى بمدينته يتغنى بحبيبته ويذكر محاسنها ويصف مناقبها ويعدد مزاياها، وكأنما الوطن هو تجسيد وترميز للحبيبة، أو كأنما الحبيبة هي رمز وتعبير عن حب الوطن.
وهي إشكالية نجدها دائما عند المبدع العربي الذي لا يفتأ يبحث في الحبيبة عن وطن، خاصة ونحن نعاني في بقع كثيرة من هذا الوطن العربي المترامي الأطراف من عقوق الأوطان وجحودها لأبنائها المخلصين أو من انتهاكها واحتلالها من المستعمر، فلا بد أن يبحث المبدع عما يصب فيه تلك المشاعر الجياشة فيلجأ إلى الحبيبة يتمثل في شخصها الوطن المفقود والأرض الجاحدة العاقة.
وقد يلجأ الشاعر للتغزل في وطنه أو مدنيته كشكل من إشكال الإسقاط الذي تفرضه عوائق معينة فرضتها قيود ثقافية مستحدثة لم تكن موجودة من قبل عند الشاعر العربي القديم الذي اعتاد أن يسبح في جميع الاتجاهات غير هياب أو وَجِل من وصمة يوصف بها أو مسبة توجه ضده وترمى فوق كاهله.
فنلاحظ أن الشعر الأقدم هو الأكثر انفتاحا على الغزل والتغني بالحبيبة والمتحرر من ربقة الخوف والتوجس مما قد يقوله الناس، وربما نستطيع أن نعزو تلك الظاهرة إلى أن المجتمعات آنذاك كانت مجتمعات بدائية تظهر فيها حراشة الفطرة جلية ظاهرة، وتنزع بطبيعية وبراءة إلى الوضوح وتسمية الأشياء بأسمائها والاعتراف بالميول الغريزية دون مواربة أو خجل، فقشرة التمدن تفسد الفطرة وتلوث البراءة الطبيعية وتكبلها بأصفاد متينة وتمنعها من الانطلاق والسباحة، وتفرض على الناس ارتداء الأقنعة التي تخفي ملامحهم النفسية الحقيقية، وكلما زاد تمدن الإنسان تمكنت منه تلك القيود وألجمت قدرته على التعبير وأجبرته على التحايل والإسقاط، وساهم في الانغلاق الأدبي والفني في الحجاز سيادة تيارات فكرية منغلقة ومتشددة، التفت عليها عادات اجتماعية وظواهر سلوكية لم تكن موجودة في أهل الحجاز، فزادت في تكبيل المبدع وشددت عليه الخناق. وهي مشكلة إن كانت تواجه الرجل المبدع بصورة كبيرة، معيقة بروز إبداعه منفلتا ومتحررا من القيود، فهي تواجه المرأة المبدعة بصورة أكبر، فالقارئ يعتقد أن كل ما يكتبه المبدع أو المبدعة بالضرورة تعبير عن تجربة ذاتية أو خبرة معاشة في واقع الحياة، بينما المبدع أو المبدعة يستطيع أن يستقل أجنحة الخيال فتعبر به إلى أراضٍ لم يزرها وإلى خبرات لم يلمسها أو يعايشها في واقعه، بل إن هذا التعبير الممتطي بساط الخيال هو الذي يحقق للمبدع أو المبدعة التوازن النفسي، فالتكوين النفسي للمبدع متشابك ومعقد وتختلط فيه الأضداد بصورة مثيرة للدهشة، ولا تجد هذه التناقضات متنفسا لها إلا عبر استقلال مركبة الإبداع التي تمكن المبدع من التعبير عن هذه التناقضات عبر أشعاره أو فنه وأدبه، ومن خلال الشخصيات التي يرسم ملامحها ويجتهد في خلقها وتخطيط قسماتها.. والكتاب أيضا يحاول أن يسلط الضوء على شخصيات أحبت المدينة وحملت على عاتقها مهمة إثراء مشهدها الثقافي، ومضت تترجم ذلك الحب عملا مثمرا بناء، وأدبا قويا، وشعرا جزلا، وفنا راقيا.
فقد كانت المدينة المنورة إبان تكوين أسرة الوادي المقدس في السبعينات الهجرية قبلة ثقافية ترنو إليها أعين الظامئين للنهل من مشارب العلم والعب من بحوره التي لا تنضب.
كما يحاول الكاتب التوثيق تاريخيا ومعرفيا وثقافيا للنتاجات الأدبية والثقافية الصادرة من المدينة التي تمخضت عن جهود أولئك الذين ساهموا في الحركة الفكرية والثقافية وكان لهم دور بارز أو حتى دور ثانوي أو ضمني في إنشاء ذلك البناء قبيل تأسيس أسرة الوادي المبارك وفي فترة التأسيس نفسها ثم الفترة التالية التي أنشئ فيها نادي المدينة المنورة الثقافي والأدبي، ثم الفترة التي تلتها حتى وقتنا الحاضر. والمؤلف يشكر على جهوده في محاولة لملمة المتبعثر وإن كان كل جهد بشري معرضا للنقص ولا يستطيع أن يلم بكل الجوانب ويذكر كل النتاجات أو يوثق لكل الأشخاص، ونحسب أنه لم يتعمد إهمال أحد أو انكار جهد أشخاص ساهموا في تلك الحركة الثقافية. يصف لنا الكتاب في أوائل صفحاته المناخ الثقافي الذي اصطبغ به الحجاز وتلون بصفاته، وذلك المناخ كان دون شك انعكاسا ومرآة للمناخ الثقافي الذي ساد في تلك المرحلة في العالم العربي.
فكان الحجاز متأثرا بما يتأجج على الساحة الثقافية من معارك فكرية ومن انتماءات أدبية، ويطلع مثقفوه على المجلات الراقية مثل الرسالة والكتاب والأديب، يرمق بعينه ما يجري في مصر والشام والعراق ثم يحاول الاقتباس والمحاكاة، فأسرته فكرة الجماعات الأدبية أمثال جماعة (الرابطة القلمية)، و(العصبة الأندلسية) و(بساط الريح) و(أسرة الجبل الملهم) التي جاء اسم أسرة الوادي المبارك على وزنها ثم (جماعة أبولو) التي كان لها تأثير بليغ الأثر على شعراء العالم العربي بأسره.
ويقول الدكتور الخطراوي: وننقسم في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة إلى مناصرين ومناوئين، فمنا العقاديون، ومنا الطحسنيون ومنا المهجريون إلى غير ذلك من التقسيمات التي كانت أكثر ما كانت في الجيل الذي سبقنا أمثال محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وأحمد عبد الغفور عطار ومحمد حسين زيدان وحسين سرحان وعزيز ضياء وغيرهم.


Amal_zahid@hotmail. Com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved