Culture Magazine Thursday  01/03/2012 G Issue 365
فضاءات
الخميس 8 ,ربيع الآخر 1433   العدد  365
 
الاغتراب السلفي
عبدالله العودة

 

حالة الاغتراب النفسية والثقافية.. قد تعتمد على ثقافة مدرسية وعلمية.. وقد تأخذ طابعاً حركياً.. وقد تتلبس فكراً تحررياً.. أو تنويرياً.. إو إصلاحياً.. وبمجموع مقالات سأحاول فحص الفيروسات الاغترابية في الفكر العربي والإسلامي.. ولذلك فهذا المقال هو عن الاغتراب السلفي.

في أول عهد المحدث الكبير الألباني رحمه الله بالعلم والحديث.. وجد نفسه خصيماً للتعصب المذهبي كما يسميها تلاميذه أو ربما للتقليد المذهبي عموماً.. بل وربما للمذاهب نفسها كما يصفه خصومه.. ولأن أباه كان حنفياً محافظاً.. فقد بدأت الخصومة مبكرة.. حتى تسبب ذلك بطرد الابن/المحدث الألباني من البيت.. فالصراع النفسي ضد تيار غالب.. والإحساس بالغربة والاغتراب بدأ مبكراً.. وبدأ من النقطة المحددة التي يفترض أن تكون موضع السكينة والسكن.. وحين خاض الألباني الشاب والكهل صراعاته مع مخالفيه وجد نفسه في رقعة محددة.. رقعة واحدة تجعله مختلفاً عن كل خصومه.. هي النقطة الوحيدة التي ينازل بها الآخرين.. فقدم نفسه أو ربما وجدها «سلفيةً».. أمام مختلف الاتجاهات الآخرى.

تلك «السلفية» المحدثة.. لن تحتاج لكثير جهد كي تستنجد بكل مفاهيم الاغتراب والتميز عن «المخالفين» و»المعارضين» و»المنحرفين».. وكان الشرط النفسي والاجتماعي في هذا الفكر السلفي الحديث هو البحث لا عن نقاط التوافق والالتقاء.. بل عن مواطن النزاع والخلاف والصراع.. وهذه بالتحديد هي حالة «الاغتراب» الفكري.. التي شملت أطيافاً فكرية كثيرة.. لكن هذا المقال بالتحديد يتحدث عن الفكر السلفي وعقلية الاغتراب فيه.. فهي تحولت إلى مجموع «سلفيين» يختلفون عن المجتمع كله.. ويحسون بالغربة.. بل وربما أسسوا ثقافياً ومدرسياً ومفهومياً لهذا الاغتراب.. وهكذا تبدا الغربة طبيعيةً حين تفرض نفسها.. لكنها تتحول لمرض مستعصي حين تتلبس المدرسة.. ويكون البحث عن الغربة والاختلاف والاغتراب.. جزءٌ حاضر منها.

الاغتراب -حسب «ماركس»- هو تقريباً الإحساس بأن العامل الحقيقي لا يرى أثار نتاجه في المجتمع.. وحينما طور «فيبر» المفهوم جعل أطياف المجتمع كلها مجالاً لرصد الظاهرة.. فكان لاحقاً.. «سيمان» وغيره يرون أن الاغتراب باختلاف صوره المرضية وإشكالياته يدور حول مظاهر متقاربة..أهمها حالة الإحساس بالعجز أمام المجتمع الطاحن.. أو باللا معنى.. أو بفقدان المجتمع للقيم الحقيقية.. أو بالعزلة.. بواعث وصور مهمة للاغتراب عن هذا المجتمع.. والعزلة عنه.. وليست العزلة تعني العزلة الجسدية بل هي فقدان الارتباط بقيم المجتمع وقضاياه وأحاسيسه.. فتجد هذا التيار يطوّر علاقاته التحتية أو يصنع عالمه الخاص المعزول الذي يصارع فيه خصومه الذين ربما يكونون هم الجميع.. جميع التيارات والطوائف والأفكار!

ظاهرة الاغتراب في الفكر السلفي بكل تأكيد ليست حكراً عليه.. لكن مجموع هذه المقالات ستتناول أطيافاً مختلفة تحمل أدواء الاغتراب ومشاكله.. وللتوضيح أيضاً فإن رصد ظاهرة الاغتراب في كل التيارات لاتعني أن كل تفاصيل هذا التيار موبوءة به.. ولكنها تعني وجوده بوضوح..

الألباني.. ومدرسته حاولت جهدها تحويل «السلفية» من مجرد مفاهيم عامة مرتبطة بفهم السلف الصالح إلى تيار يصنع أمجاده من خلال الخصومة مع المجتمع لصناعة مجتمع صغير آخر يضع لنفسه الحدود والمعالم والموانيء.. لذلك فمن يستمع لأشرطة الألباني -رحمه الله- الكثيرة يجد التأكيد الشديد على أن الموضوع الفلاني والقضية الفلانية من صنع الفريق الفلاني أو الطائفة الفلانية ولذلك يبنغي عدم فعله.. وأن القضية الفلانية يفعلها الكثير من السلفيين ولذلك ينبغي التمسك بها.. ليتحول صراع المفاهيم إلى صراع حول تأسيس مجتمع مختلف صغير ومحدود.. مجتمع «يرفض» المجتمع الكبير.

وهل يا ترى المذهب السلفي يبحث لنفسه عن أشكال وظواهر تميزه عن التيارات الأخرى أم يبحث عن الأقرب إلى روح الحق والمعرفة..؟ لذلك كان الألباني مثلاً يؤكد كثيراً على أن إلصاق الرجل برجل الآخر في الصلاة تحولت من مجرد سنة يراها بسبب حديث صححه إلى معلم من معالم السلفية يجب اتباعه ليتبين السلفي من غيره! ومن العجب أن هذا «التمييز» الاغترابي انتقل إلى أماكن مختلفة من الأرض حتى أن مسجداً صغيراً يختلف عن كل المساجد الأخرى في مدينة بيتسبرغ بأمريكا -مثلاً- يعرف نفسه بالمسجد السلفي.. هو الوحيد الذي يلتزم بهذه الصفة في الصلاة.

هذا الاغتراب السلفي.. يؤكد على أن السلفيين يتشابهون في الزي واللباس.. ليميزوا أنفسهم عن «الأغيار» الذين لا ينتمون لهذا المذهب السلفي، ولذلك ليس غريباً أن ترى الغترة السلفية والثوب الخليجي يلبسه السلفي المصري والمغربي والتونسي والجزائري والشامي.. بل والأمريكي فصاحبنا السلفي الأمريكي الأبيض كأنه لايرى صحة سلفيته إلا بذلك الثوب والغترة الخليجية في عمق المجتمع الأمريكي..

هذا فقط مثالٌ توضيحي.. وفكر المحدث الكبير الألباني وبعض تلاميذه هو نموذج فقط لهذا التمييز الاغترابي الذي يمارسه بعض السلفيين..

الاغتراب السلفي.. تطور من العيش مع المجتمع ولأجله إلى العيش على خصوماته والتمييز فيه.. ومن حمل هموم الناس وقضاياهم إلى أن يكون حملاً ثقيلاً فوق أكتاف الناس.. هذا الاغتراب جعل المجتمع يكبر وتتطور قضاياه.. وتنمو دوائره وعلاقاته.. ووعيه ويتحول إلى أطوار مختلفة من النشأة والحياة والخلق.. بينما الاغتراب السلفي يطحن نفسه.. ولا يزال يعيش ضد.. «التيارات المنحرفة».. ضد «التيارات» كلها ربما.. ضد.. المجتمع.. وأخيراً ضد نفسه إن لم يتدارك نفسه.. ويعيش للناس وقضاياهم.. وهمومهم الحقيقية!

aalodah@hotmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة