Culture Magazine Thursday  01/03/2012 G Issue 365
فضاءات
الخميس 8 ,ربيع الآخر 1433   العدد  365
 
أحجارُ الدُّومِيْنُو
الثوراتُ المبتورةُ والمنجزاتُ المُؤجَّلة
ياسر حجازي

 

(أ)

أحجارُ الدُّوْمِيْنُو تسقط تباعاً، التدخّل في إيقافها لا يخدمها، ربّما يُفضي إلى ارتطامات لم تكن في الحسبان، كأن تؤثّر على آخرين من خارج خطوط الأحجار؛ مَنْ صفّ على مدى سنوات طوالٍ هذه الأحجار؟ لماذا تنتهي الثورات العربيّة دائماً عند سقوط الأحجار فقط؟

بعدها: تجدُ شرائح الشعب كلّها، على اختلافاتها الظاهريّة في الأدوار والطبقات، كأنّها على قلب إنسان واحد على مستوى الأوهام، ثُمّ مرّة أخرى في (التيه)؛ متشابهين، بينما ظنّهم أنّهم أحزابٌ، وتيّاراتٌ؛ يعملون لإعادة ترتيب الأحجار في مكان جديد، قد يختلفون قليلاً حوله، لكنّهم في النهاية يتّفقون، ويحتفلون بالنجاح على أنه عهد جديد؛ عهد غارق في التغييرات الشكليّة: أوراق العملة، أغلفة الكتب التعليميّة وإزالة أي أثر من العهد السابق، استبدال الصور في الأماكن العامة، أسماء الشوارع والميادين، هذه منجزاته؛ أمّا المسبّبات من بطالة، فقر، أخلاق، فساد.. فكلّ ذلك مؤجّل إلى ثورة قادمة.

(ب)

الثورة عمياء إن لم يكن الشعب بصيراً.

لا تقدر الثورة أن تخلع الاستبداد إن كان جزءاً من طبيعة الشعب.

(ج)

يقول مظفّر النوّاب: (إنَّنا أمّةٌ لو جهنَّم صُبَّتْ على رأسِهَا واقفَةْ).

ليس الوجود بحدّ ذاته ذا دلالات قوّة وقيمة، فبقاء أمّة يعني بقاء حضارتها، وزوالها لا يكون بزوال جماعاتها ككيانات إنسانيّة، إنّما بزوال حضارتها كقوّة وقيمة مؤثّرة. فإلى أيّ مدى يمكن أن نراهن على الثورات العربيّة اليوم أن تُمهّد لوجودٍ ذي قيمة وقوّة وتأثير.

كيف تصل إلى مصاف الثورات الكبرى التي تُغيّر مجرى التاريخ: (الفرنسيّة، الأمريكيّة، الصينيّة) بما حملته وأنجزته من قيم التغيير الجذريّ في العقد الاجتماعيّ؛ أمْ تكتفي ثورات الخريف/الربيع العربي بتحقيق هدفها المتمثّل بتغيير النظام السياسي، ثمّ لا تلتفت إلى الغايات التي من أجلها قامت الثورة: (الحريّة، المساواة، العدل)؛ فليس من وظائف الثورة تأهيل الشعب لتحقيق غاياته ما لم يكن الشعب نفسه مُهيّأ لهذا الطور.

هل قدر كلّ ثورة سياسيّة أن تُفضي إلى طور أعلى أو طور مغاير؟ وهل إزاحة طبقة فاسدة كفيل بإتاحة طبقة سياسيّة صالحة؟ وإلى أي مدى تعدّ ثورة إن لم تحقّق غاياتها! المسألة ليست تغييراً أحاديّا يُفضي إلى تغيير جماعيّ، فإن كان (الناس على دين حكّامهم) كذلك فإن الحكّام ليسوا من (المريخ) بل هم طبخة هذا الشعب ومن جنسه، فغلبة الجماهير هي المنتج، لذلك فإن معرفة نوع النظام السياسي الجديد، وما هي مخرجات التغيير السياسيّ تستوجب تحليل الشعب ومكوّناته وقدراته، فالآية الكريمة: (وكذلكَ نُوَلِّي بعض الظالمين بعضًا)، والقول المنسوب للنبي العربي (ص) «كما تكونوا يُولّى عليكم» يصادق على صوابية تحليل الجماهير وصولاً إلى ماهيّة الطبقة السياسيّة المؤمّل أن تدير شؤون البلاد (سلطة ومعارضة)، وهو المؤشّر والموجّه أنّ تبديل الرؤوس ليس ضمانة لطور أعلى ما لم يكن الشعب نفسه مؤهّلا لهذا الطور؛ وتلكم حجّة عبدالملك بن مروان فيمن طالبه أن يكون على سيرة الخليفتين الراشدين (أبي بكر وعمر)، إذ طعنَ بقيمة رعيّته مقارنة برعيّتهما.

(د)

الظنّ بما يُسوّق له الإعلام أنّ ما تفعله الجماهير العربيّة اليوم هو فعلٌ شاذٌّ عن تاريخها، لهو ظنّ يتجاهل قراءة التاريخ المعاصر، فالثورات ليست قاموساً دخيلاً؛ فما حُرِمَ جيل منذ مئة عامٍ من مفرداتها وتضحياتها؛ بدءاً (بالثورة ضدّ الدولة العثمانيّة/ التحرّر من الاستعمار/الثورات الداخليّة/الثورة الفلسطينيّة/ الخريف-الربيع العربي). لكنّها جميعة تتشابه من حيث النتائج كونها:(ثورات مبتورة، ونهضة متعثّرة): أميّة في «العقل التنظيمي المؤسّساتي»، أميّة في تحويل النهضة والتنوير والحضارة من التنظير إلى الواقع، أميّة في تماهي الاستقلال بالتبعيّة. وتلك الأميّات لا تعني فقدان القدرة على التغيير؛ لكنّ وجود القدرة ليس ضمانة لإنتاج القيمة.

فماذا أنتجت الثورات العربيّة السابقة بعد نجاح قدرتها بتغيير الأنظمة السياسيّة؟ أما عجزت -جميعها- عن تحقيق الغايات المتمثّلة في القيم التي قامت تلك الثورات لأجلها.

فلا شكّ أنّ النهضة الأولى تكسّرت وتلاشت بالاستعمار الخارجيّ، والثانية وُئِدَتْ على يد العسكريّات الوطنيّة المصابة بفوبيا التآمر، التي شوّهت الاستقلال، وعطّلت الإنسان العربيّ من الدخول في طور (ما بعد الاستقلال)، حيث استبدلت استعماراً خارجيّاً باستعمار داخليّ؛ وظّف وسائل الحداثة لمصلحة التجهيل، فزُوّرت النهضة واستُلِبتْ، وتنازل روّادها عن مشروعهم، وحسبي أردّد شاهداً: كيف تبرّأ طه حُسين عن مقدّمته في كتاب الأدب الجاهليّ، وهو الذي وزّر التعليم؛ لكن هل أدخل ديكارت إلى الوزارة والمناهج أم الأصوليّات والمنقولات، أمْ أنّ العسكر طردوا هيغل وديك ارت من عقله.

كيف يقدر الإنسان العربيّ اليوم إن يصنع نهضة على مستوى الأخلاق والمفاهيم والمدنيّة؟ الطبقة السياسيّة التشريعيّة والتنفيذيّة لا تريد أن تطوّر المناهج والتعليم والقوانين والحريّات، والطبقات التي تثور ليس في حسبانها هذه الأجندات، ليس على مستوى التفاوض والإنجاز؟ تلك هي المعضلة!! كيف يقدر أن يزيح الأغلال الداخليّة المتمثّلة بالطبقة المتحجّرة على الفهم الإنساني كبديل للأصول المفتوحة؟ فأيّ تغييرٍ لا يلتفت إلى تأهيل الشعب وتطويره، لن يرتجي من نظامه السياسيّة الجديد أي طورٍ مغايرٍ.

(هـ)

منذ «نيران البُوعزيزي» وما أعقبها، طفحت على طاولة التداولات والمراجعات مفاهيم عديدة: (ما هي الحريّة، العدالة، المساواة؟ ما هي المدنيّة؟.. كيف تتحوّل هذه المفاهيم إلى جزء تنفيذي واقعي؟) وحسبي كنتُ أقلّب مفهوم عبدالله القصيمي: «العرب ظاهرة صوتيّة: أنّ الجماهير عاجزة عن الخروج من طور الصوت، إلى طور الفعل»؛ وكدتُ أقع في شرك «الياسمين» و «نشوة الصوت» ثمّ تمهّلت احتكاماً للعقل: لقراءة التاريخ مرّة أخر؛ فماذا وجدتُ سوى ثورات مبتورة لم تتجاوز عتبة تغيير الأنظمة السياسيّة ومسمّياتها وأسماء شخوصها، لكنّ الاستبداد، التمييز الجنسي والعرقي، القبليّة، مفاسد بقيت هي الحيّز المهيمن على الحياة العربيّة، وما زلنا أبعد ما نكون عن الدخول في الدولة المدنيّة. فعلى الرغم من بطولات وتضحيات الشباب العربيّ في الدول العسكريّة إلاّ أنّها ما زالت تحت تصنيف انقلابات أو انتفاضات ما لم تمض إلى تحقيق غاياتها؛ والمناصرة والوقوف إلى جانبها لا يعصمنا عن رؤية الواقع وإمكاناته، فكونها قضيّة عادلة لا يعني حتميّة مآلها إلى خلاص نهائيّ ممّا يكبّل المجتمع، من هنا يصعب تصنيفها تحت خانة (الثورة) وهي عاجزة عن إحلال عقد اجتماعي محلّ آخر، فليس في سيماها علامات لطور أعلى، إذّاك وجدتني لا أقوى على معارضة مفهوم (العرب ظاهرة صوتيّة)، فما حدث لا يعدو كونه (ظاهرة صوتيّة) إن لم تعقبه قوانين وممارسات مدنيّة تدخل (الحريّة، المساواة، العدل) إلى الحيّز التشريعيّ والتنفيذي، فالمادة الأساس التي يتكوّن منها (الاستبداد، الانحطاط العربيّ، الجهل) ليست مطروحة للاستئصال أو للمعالجة على الأقل، حتّى يستبشر المرء طوراً مغايراً ونهضة من وراء هذه الحركات الشعبيّة، فكلّ الظنّ الحسن أنّها حقّقت هدفاً في تغيير الأنظمة السياسيّة، فهل تستغلّ هذا الهدف المُحقّق لتحقيق المنجزات النهضويّة، فالحجّة على اكتمال الثورات إنّما يكون في إنجاز غاياتها المشروعة.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة