Culture Magazine Thursday  01/03/2012 G Issue 365
قراءات
الخميس 8 ,ربيع الآخر 1433   العدد  365
 
حيز الشخصمكانية الروائية في «نساء البخور»
فؤاد نصر الدين

 

يعشق الكاتب السعودى (خالد اليوسف) النساء؛ فهو يكتب عنهن كثيراً. تجده في كل مجموعاته القصصية السبع يحب المرأة ويدافع عنها ضد كل من يحاول إهانتها، أو يستخدم معها العنف بشتى أنواعه؛ ففي روايته الأولى (وديان الإبريزى) يتحدث عن المرأة معنوناً روايته باسمها، وفي روايته الثانية التي نحن بصددها، والصادرة عن دار الانتشار العربي ببيروت العام 2012، نجده متحدثاً عن مجموع المرأة (النساء) ويطلق عليها (نساء البخور).. هو يعشق المرأة العربية، ونحن مثله نعشقها؛ لذا سنتجاوب معه، ونتطلع إليها من خلال السوق التي توجد فيه (نساء البخور)، وهن النساء البائعات بضاعتهن فوق الأرض، واللاتي يفترشن الأرض متربعات في قعدتهن يبعن كل ما يخطر على البال من بخور ولبان وأعشاب طبية وملابس أطفال وحريمي وبيض وعسل وكريمات الشعر وأبوفأس وسم الفأر وطارد الديدان وخيوط الخياطة، ومنهن من يبعن أنواع الحب المملح والمحمص، وكل واحدة منهن تحتضن زنبيلها الكبير المصنوع من سعف النخيل ومكاييل بيعها الصاع والمد والنصيف أو كأس لا يملأ بما يتجاوز قبضة اليد..،

تتميز الرواية برؤيتها الجديدة للشخصيات والأمكنة؛ فشخصياتها انتقاها الكاتب بعناية من خلال إحدى شرائح المجتمع (اليمني) التي تعمل في الرياض والمناطق المحيطة بها زمن أحداث ثورة عبدالله السلال، وانقلابه على الإمام أحمد البدر وانتهاءً بوفاة الملك سعود. كما أنه اختار حيزاً لفضاء روايته ربما لم يتطرق إليه أحد من الروائيين السعوديين من قبله ألا وهو سوق النساء في (المقيبرة) بالرياض، والتي يبدأ بتقديمها لنا في أولى سطور روايته ومن خلال استهلالها.

يقول واصفاً هذه السوق صفحة 5 : (سوق المقيبرة) المركز الرئيسي للمدينة، وهي القلب الخافق بتدفق أقدام أهلها الراجلة والممتزجة أرواحهم بأزقتها وحوانيتها ومظلاتها الشعبية، وهي سوق تمتزج فيها كل البضائع والضروريات لطبقات المجتمع كافة، يتقاطر الباعة إليها قبل الفجر بوقت كاف. يتوافدون من كل مكان حول المدينة النابضة بروح جديدة؛ ففيها المزارعون وتجار المزاد المتمرسون، وفيها من يبحث عن رزق يومه من تجار ذوي خبرة ومعرفة بالأصناف الجيدة من الرديئة، ولوجودهم الدائم نبض لا ينقطع تدفقه عن قوة السوق وحياتها..

أعطانا خالد اليوسف رؤية أولية للحيز (الشخصمكاني الروائي) والذي مزج فيه بين المكان والشخصية؛ فهو في روايته يقدم لنا المظهر الجغرافي للسوق أو الوصف المكاني، وذلك بمثول المكان في مظاهر مختلفة وأشكال متعددة..

((المقيبرة، لم تعد سوقاً واحدة، كما أنشئت قبل عشرين عاماً، هي تكبر وتنمو سريعاً وتأكل البيوت والأحواش الفارغة والنخيل من حولها حتى وصلت إلى كل الأحياء المحيطة بها، ها هي (المقيبرة) تصبح علماً للرياض بعد اشتباكها بسوق السدرة، وقيصرية الحساوية من الشرق، وسوق أقمشة الجملة والأحذية، وسوق الجفرة والأواني المنزلية، وقيصرية الصرافين والعطارين من الشمال)) ص 17 ((... يزدحم الشارع بهن وبمن يقف حولهن، وهو الشارع الأسفلتي الوحيد الذي يقسم (المقيبرة) إلى نصفين غربي وشرقي)) ص19

((يحيط بسوق (المقيبرة) ما تبقى من بيوت طينية مهدمة بعد أن وصل امتدادها إلى حارة مليحة وآل حماد جنوباً وما تبقى من حي دخنة شرقاً وكراج دليل غرباً)) ص 39 (..... بعد جلوسه في مسجد المريقب الذي يتوسط سوق المقيبرة) ص45

........ وهكذا يصف لنا المؤلف مكانه الروائي ليس كمكان جماد؛ لكنه يبث فيه روح الحياة في نظر لقول خالد..((وهي تكبر وتنمو سريعاً وتأكل البيوت والأحواش الفارغة والنخيل من حولها حتى وصلت إلى كل الأحياء المحيطة بها)). لقد قدمها لنا عبر وصف خلفي لنرى المكان كوحش أسطوري ينهض من رقدتة الأزلية كي يلتهم كل ما حوله ويزداد نمواً ووحشية مع الأيام. إنه الوحش الناري الذي يبتلع كل ما يقابله من بشر ومبان وأشجار.

كما أن المكان في هذه الرواية ليس جغرافياً فحسب؛ فهو أيضاً الحلم الكبير للنساء.. في صفحة 57 يقول (نساء المقيبرة من كل الطبقات التي تسكن المدينة أو التي استوطنتها فيما بعد؛ بل حتى من يمررن بها أو يزرنها لهن موطئ قدم ومعظم وقتهن بها، النساء يدركن جميعاً أن في المقيبرة تفتح أبواب السماء وتشرع نوافذ الرزق الحلال)

والسوق ليس فقط مكاناً للبيع والشراء فهو ملاذ للشباب...ص101 (أما المقاهي وبعض المطاعم المنتشرة في سوق المقيبرة على أطرافها وبين أزقتها؛ فقد كانت حضناً وموئلاً لشباب الرياض وبعض اليمانيين والعرب المقيمين في الرياض، وغيرهم ممن يعشقون الجراك والإسترخاء مع كأس الشاي لسماع المذياع...)

لقد مثل المكان في هذه الرواية في مظاهر مختلفة وتحديد جغرافي واصفاً الموقع والأرض (فالحيز المكاني هو وصف وشرح الحيز ا لراهن والطبيعي والإنساني لوجه الأرض)*

(ولما كان الحيز الروائي يعكس مثول الإنسان في صورة خيالية (الشخصية) فإن هذه الشخصية ماكان لها لتضطرب إلا في حيز جغرافي أو في مكان) *

وهو ما توصل إليه خالد اليوسف حينما أعطى حيزا ًللشخصيات الروائية عنده ممتزجة مع الحيز المكاني ومرتبطة به ارتباطاً وثيقاً لا تنفصل عنه..(يلتقي شهاب الزين أثناء وجوده في سوق المقيبرة عدداً كبيراً من أبناء بلده وبلدته، فيتحول اللقاء إلى البوح والثرثرة حول معاناتهم وما تخزنه صدورهم) ص 37

وتتأثر السوق بالأحداث الخارجية مثل حرب السادس من يونيو حزيران 1967 وغلق قناة السويس: ((وضعت أم زيد جهاز الراديو الصغير الذي يعمل بالبطارية بالقرب منها وكانت تسمع بين وقت وآخر الأناشيد الوطنية الحماسية من إذاعة الرياض.................وعلمت أن الخطر مقبل على سوق المقيبرة من خلال إغلاق قناة السويس وأن حركة التجارة ستتوقف خلال الفترة المقبلة)) ص 86

لقد أصبحت واقعية السوق في هذه الرواية حياة لكثير من الشخصيات التي هرعت وأصابها الكدر حينما سمعوا أن البلدية تريد نقل السوق......

هاه يا أم عبد الله، وين رحت، وش فيك سهيت على ؟

لا. لا أنا معك بس أنى أهوجس بسوقنا وخرابيط البلدية اللى تخوفنا فيها كل شئ.

وش صاير... فيه شى ؟

يبغون ينقلون السوق................................... ص77

لقد ارتبطت شخصيات الرواية بأحداثها وحياتها بالمكان؛ فشخصيات (خالد اليوسف) في روايته (نساء البخور) مختلفة ومتنوعة وهى لا تتعدى العشرين شخصية مابين شخصيات رئيسية مثل : مريم الورقاء، وأم زيد، بطلتا الرواية

وشخصية شهاب الزين.. اليمنى الذي يعمل بالسوق وهو البطل الذكوري ومعه سعيد الأعرج، الذي كان يعمل لدى مريم الورقاء وعشقها عشقاً نحل له جسده لولا إنقاذ شهاب الزين له بنقله إلى جنوب المقيبرة ليعمل بعيداً عن حبيبته مريم.

وهناك شخصيات أم شهاب، ومزنة بنت أحمد..شخصيات ظلالية

وبالرواية شخصيات استاتيكية غير محركة للحدث الروائي بأي عمل أو تصرف يؤثر وسير الرواية وهم (نساء البخور) بالسوق.

إن شخصيات (خالد اليوسف) في نساء البخور كثيرة ومتنوعة وهذا ما يزيدها حركة وانفعالاً وجمالاً.

وقد قسم روايته دون أن يلمح بذلك إلى قسمين متساويين في عدد الصفحات جاعلاً النصف الأول للحديث عن مريم والنصف الآخر عن أم زيد. ولو كان الكاتب لمح لنا ذلك لكان أفضل.. بالترقيم أو بعنوان الشخصيات... نعود ونقول أن أولى الشخصيات الرئيسية والتي يستهل من خلالها أحداث الرواية هي (مريم الورقاء) وهى امرأة مبرقعة، ذكية، لها سلطة على نساء السوق، سريعة الخطى.. امرأة بدوية متحضرة ،لديها قوة حدس وتحليل لا يخيب، تحافظ على مكانة وشرف سوق النساء في (المقيبرة)؛ فتحرم على أي رجل دخوله دون هدف البيع أو الشراء، وتحرم على كل بائعة أن تتهاون مع أي رجل وتحادثه سراً أو تتركه يغازلها وإلا فأنها تطردها من السوق كله.

((لمريم الورقاء سلطة بين نساء السوق الداخلية في أمرها ورفضها، في حضورها وغيابها، في قدومها وخروجها، في حديثها وكلماتها وأقوالها، قلما يعصى لها أمر أصدرته على إحدى البائعات ولا يرفض لها طلب أو رغبة....... وتعارف الجميع أنها المتحدثة بأسمهن في كل الأمور)) ص11

((وهي امرأة تتبرقع في جل أوقاتها، ولم تر امرأة من نساء السوق جانباً من وجهها أو جزءاً منه إلا فيما ندر، وتنظر إلى البرقع على أنه مكمل لكيانها وشخصيتها، فلا ترغب في الجدل فيه وفي نزعة أو تغيير شكله وكثيرات منهن يتمنين رؤية وجهها الذي يوصف بأنه خارق الجمال)) ص11

هذه المرأة ظلت عزباء لا تهتم بشيء إلا بعملها في السوق. وحينما جاءت (أم زيد) وعملت جوارها في (المقيبرة) وأصبحتا صديقتين حميمتين بلغتها (أم زيد) برغبة الوجيه (أبو محمد) زوج (مزنة بنت أحمد) بالزواج منها لكنها لا ترغب لأنها تكره الرجال وتريد تربية أولادها؛ فعرضته على (مريم الورقاء) التي لم تتقبل الأمر بداية؛ ولكنها تتأمل تحقيق أمنيتها معه، وهي لم تستطع الوصول إليها الأمنية منذ سنين مع غيره.

(....أم زيد شعرت بميول مريم الورقاء نحو الوجيه أبو محمد ورغبتها في تقدمه إليها، أما مريم الورقاء فقد أنتابها الابتهاج وسرت....) ص137

ولكن الرواية تنتهي دون أن نعرف ما الذي جرى لأن خبراً جاء يهز السوق بإذاعة نبأ وفاة الملك سعود....... الشخصية المرادفة لشخصية مريم الورقاء هي شخصية (أم زيد) وهي بائعة بالسوق، طلقت من زوجها السكير تاركاً لها بنتاً وثلاثة أولاد في أعمار 18 : 12 سنة، تعرفت على السيدة (مزنة بنت أحمد) زوجة الوجيه الثري والذي سرعان ما تحول معها من حالة الكرم والجود إلى حالة البخل والشح، وحتى تحافظ الزوجة على بيتها وأولادها راحت تعمل في خياطة ملابس الأطفال وبيعها بسوق المقيبرة بمساعدة أم زيد مقابل عمولة، ثم كونا شراكة بينهما فأخذت تتردد على بيت (مزنة بنت أحمد) التي علمتها بدورها القراءة والكتابة وحفظتها سور القرآن الكريم، وجعلتها تطالع الصحف والمجلات وكتب التفسير فأضاءت حياتها، وأصبحت ذات مشاعر وتفكير مختلف.. (الحياة والناس والعلم والعمل، أعمدة أربعة ترتكز عليها حياتها الحاضرة. كانت تنظر إليها فيما مضى بعين فارغة، كأي إنسان آخر يعيش يومه وحياته كيفما اتفق، فهي لم تكن تبالي بما حولها وبما تصبح عليه من حال أو تمسي، وكانت منغمسة في كسب رضا زوجها وتلبية مطالبه وملذاته، الحياة عندها هي زوجها إذا كان سعيداً بطربه وخمرته) ص 97 لكنها كرهت الرجال كلهم لأنهم يتلذذون بسحق المرأة وعبوديتها، يشعرون بقوتهم حين تطأطئ المرأة رأسها وتقول: سمعاً وطاعة.............. (إنها تكون مسرورة حينما تأتي إلى هنا لأنها تجد مكانها الحقيقي من غير تسلط أو تملك أو أمر ونهي مع احترام كامل للمرأة ووجودها) ص135 لكن حينما يراها الوجيه أبو محمد زوج صديقتها مزنة بنت أحمد ويعجب بها وبأخلاقها وسيرتها وحسن تربيتها لأولادها يتقدم لطلب يدها منها في بيتها؛ لكنها ترفض مراعاة لشعور المرأة الصديقة التي حفظتها القرآن وعلمتها القراءة والكتابة وفتحت عينيها على الحياة الجديدة.. وهداها تفكيرها لعرض هذا العريس على مريم الورقاء التي تأمل وتحلم بزوج يملأ حياتها بعد سنواتها العجاف التي عاشتها بلا رجل، لكن نهاية الرواية يقف حائلاً بينهما لتحقيق هذه الأمنية الغالية.

إن أربع شخصيات هامة في هذه الرواية مريم، أم زيد، شهاب الزين، مزنة بنت أحمد، المرادف الجغرافي لجهات الكرة الأرضية والاتجاهات الجغرافية من شرق وغرب وجنوب وشمال.. ودلالة على (الشخصمكانية) في الرواية..

* هذه الرواية تصيبك بالدهشة وفي ذات الوقت تقطع عليك المتعة؛ فهي في نظري ملخص لرواية كبيرة، ربما ملحمة، أو ثلاثية؛ فالأحداث التي مر عليها خالد اليوسف سريعاً هي في حاجة إلى نمو وإلى كتابة أشمل وأعمق، وقصص حياة (نساء البخور) لن نشعر بها إلا من خلال ما كتبه الكاتب عن مريم الورقاء وأم زيد ومزنة بنت أحمد وشهاب الزين وسعيد الأعرج وهناك الكثير الذي كان يجب أن يقدمه لنا من خلال تلك الشخصيات وشخصيات أخرى مثل أروى، حليمة، شريفة الصماء، وناطح الجبل.. وما يحيط بهم من شخصيات أخرى.. أرجو أن أكون مصيباً في رأيي ويكون هناك جزء أو أجزاء أخرى لدى خالد اليوسف سيقدمها لنا لاحقاً حتى تكتمل متعتنا الكبرى معه.....

*الشخصمكانية: كلمة من نحت كاتب المقال الذي يأمل أن تكون منهجاً جديداً...

الجمل التي بين الأقواس وفوقها علامة النجمة هي إرشادات من كتاب في نظرية الرواية للدكتور عبد الملك مرتاض (عالم المعرفة)..

كنت أود أن تكون هذه الرواية باسم (المقيبرة) وهو الاسم الأشمل لها والدال على ما فيها من أحداث وقد فعل ذلك معظم أدباء العربية خاصة نجيب محفوظ في رواياته: خان الخليلي / بين القصرين / قصر الشوق / السكرية/ ميرامار....إلخ

fnasreldin @ yahoo.com الإسكندرية

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة