Culture Magazine Thursday  03/05/2012 G Issue 372
فضاءات
الخميس 12 ,جمادى الآخر 1433   العدد  372
 
شَيْخُوخَةُ الثَّقَافَةْ
ياسر حجازي

 

(أ)

قدّمت مفاهيم مثل (النهضة، التنوير، التنمية) وظائفها القيّمة في أوروبا ومناطق عديدة من العالم، حتّى تجاوزتها الحضارة الغربية إلى (ما بعدها)، إلاّ أنّ الثقافة بقيت في حالة توسّع على مدى قرنين، حاوية على عشرات المفاهيم الشموليّة حتّى فقدت وظائفها الأساس في تنوير العقل؛ ممّا يجعلني أتساءل: ألا تؤول الثقافة إلى «مابعد الثقافة» كما آلت إليه النهضة والتنوير؟

أوقفني تفكيك شبهة المصطلح (ما بعد) على أسئلة التكاثر الفكريّ في إخراج ما يعقبه نتيجة للجدل الثلاثيّ بين: (إمكان القيمة، وإمكانات داخلها وخارجها)؛ وهذا التفكيك في دلالات (ثقافات ما بعد) أوضح إشكال مفاهيم الثقافة المتضخّمة بدءاً باشتقاقها من الكلمة اللاتينية»culture» وتوظيفها من حقل الزراعة إلى تنمية العقل، وليس انتهاء بتعاريفها الشموليّة التي تحتوي بخلطٍ مُزعج «احتلالي وإحلالي» على جميع العادات، المعتقدات، الأفكار، الأصول والممارسات لجماعة دون غيرها؛ ومن هنا لا تستكين الثقافة لشكلٍ وظيفيّ وتعريف نهائيٍّ يضبط الانفلات المفاهيمي الذي غلب عليها؛ وهذه اللا مبالاة في قيمة الوظيفة والتخصيص المفاهيمي أضفى جرأة تجريبيّة عطّلت أُسس التواصل والبناء الفكري والمعرفيّ بين مجموعة لا تربطها معان ودلالات محدّدة متفق عليها.

وإنّه من العبث أن اقترح - هاهنا- تعريفاً للثقافة أو أتبنّاه مفاضلة بين تعاريف منتقاةٍ، هكذا أقعُ في الفخّ إن فعلتُ، فالغايةُ في (ما بعد الثقافة) هي تقليص العموميّات منها، الفاقدة للمعنى والوظيفة، أنّ تزيح ما نُسبَ إليها توثيناً وأسطرةً، إذّاك تكون أسئلتنا ترشيداً وليس تكاثراً لمفهوم قد تحوّل إلى (اللا- مفهوم) بضمّه كلّ شيْءٍ.

وهذا مأزقٌ يُماهي الثقافة حين يجعلها مرادفة لمجموعة كبيرة من الكلمات: (الطريقة، الأسلوب، الأخلاق، العلم، التنمية، التطوير، العادات، التقاليد..) أو حين يعادلها بالحياة بوجه الإنسان إذّاك تفقد - تلقائيّاً- وظائفها، ثمّ تغدو هي نفسها مادة الإشكال ومحلّه: (الإنسان والثقافة) وليست الآليّة القادرة على تفكيك الإشكال وضبطه. فالشموليّة - في زعمي- هرطقة استعماريّة (غربيّة)، من تأويلات غاياتها خلق النموذج الأوحد المتمثّل بالثقافي الغربي، وقياس باقي ثقافات الأمم بمعياره؛ فأيّ وظيفة للثقافة إذاً؟ وأيّ منفعة من مصطلح يحمل كلّ شيء؟

* *

ولأنّ استمراريّة نمو المفاهيم تظلّ ممكنةً وفقاً لطبيعة نمو الحياة؛ وبالتالي أتساءل: ثُمّ إلى أين؟ فإنّ احتواء مفاهيم الثقافة لنواحي الحياة يكفّ عملها كوسيلة انتفاعيّة تحقّق السعادة للإنسان بوصفه فرداً وبوصفه مجتمعاً، وتهذّب من ممارساته السلوكيّة. أليس في هذا التماهي فقدان محدوديّة الخصائص والوظائف؟ وهل في ذلك دلالة على اختفاء الثقافة؟ أم أنّ هناك بديل (ما بعد الثقافة) فاعلاً في حركة الحاضر لم يتَّضح مسمَّاه بعد؟ فما هي الأسئلة والملاحظات التي تمكّن من مناقشة هذه الحالة الفكريّة اللا منتميّة واللا منفصلة للثقافة بوصفها متغيّراً، وتبعاً لمفاهيم (ما بعد).

(ب)

إنّ دراسة دلالات ضعف أثر الثقافة - ومدى ابتعادها أو اشتراكها في صناعة الراهن واستيعاب مجرياته وتحوّلاته - تفسح المجال لأسئلة (ما بعد الثقافة) للخروج إلى حيّز التداول بحثاً عن ملامح المصطلح الذي تسعى المقالة لمناقشته استناداً إلى: (1) آثار الجدل الارتباطيّ بين الثقافة كمتغيّرٍ، وداخلها المتمثّلة بصراع المستويات المختلفة بين (التطرف والاعتدال والفساد) لتأويل الأصول الطوطميّة/ الخصوصيّة، وخارج الثقافة المتمثّل بالثالوث السياسي، الاجتماعي - الديني، الاقتصادي. (2) تماهي الواقعين (الواقع الأخرس، والناطق الفضائي) بإنتاج قوّة مهجّنة بين الواقعي والافتراضي، المعرفي واللا معرفي، الأخلاقي واللا- أخلاقي، تؤثّر في حركة العالم المعيش وصناعة الحاضر.

من هنا أطرح بعض المسائل المحرّضة للشكّ في شيخوخة الثقافة وظهور «ما بعد الثقافة»:

مسألة أولى: ضبابيّة وشموليّة مفاهيم الثقافة والمصطلحات العاملة في نطاقاتها المتعدّدة وانفلاتها على المترادفات والعموميّات، ممّا يُعد خرافةً تصيب الثقافة في غموض ومجاهيل معقّدة على عكس مفهومها الأوّلي المستند على تنوير العقل.

فأيّ فكرٍ مرّ على الإنسان بدءاً من الأسطورة، الدين، العلم، الآداب تضمّن في آليّاته دلالات توسّعيّة كما آلت إليه الثقافة من توسّعٍ في المفاهيم وحريّة في إطلاقها، حتّى صار لكلّ مثقّف تعريفه؛ وهذا الخداع الثقيل تسعى (ما بعد الثقافة) للخروج منه؛ حيث إنّك - حالياً- خرجت من الثقافة لكنّك لم تر خروجك بعد، ذلك أنّك في برزخٍ بين المكان واللا مكان؛ فالمكانُ يمنحك الرضا والأمن أنّك ما زلت في نطاق الثقافة المألوف، واللا مكان يفاوضك على المابعديّة لعلّها تهدي التيه الثقافيّ.

مسألة ثانية: غيابُ المثقّفين عن المشاركة والتأثير في أحداث العالم والاكتفاء بالتنظير (ما بعد الحدث- (Aftermath، فإلى أي مدى يكون السؤال صائباً حين يتعلّق بغياب المثقّف؟ أمْ أنّه تضليل يحجب البحث الخاص بأسباب غياب الثقافة نفسها ووظائفها!

مسألة ثالثة: التفريط في معنى الطوطم الثقافي والخصوصيّة في المفاهيم الشموليّة، وإن تضمّنت تعاريفهم إشارة مخادعة تمييزاً لجماعة أو شعبٍ ما، حيث إنّ الفكرة التوسّعية للمفاهيم الشموليّة تنطلق من التمييز والخصوصيّة حتّى ذوبانها ومحوها، إخضاعاً لمفهوم وحدة الطوطم الثقافي للإنسان، وهو نموذج استعلائي استعماريّ أيّاً كان حامله شرقيّاً أو غربيّاً؛ فما هو موقف «ما بعد الثقافة» من وراء هذا التيه الثقافيّ بين وحدة طوطم الإنسان وبين تعدّده؟ وما علاقة ذلك بالاستعمار والعنصريّة والتبعيّة واختلال الموازين الأخلاقيّة.

مسألة رابعة:كيف يجوز عقلاً القبول بحتميّة ثبات (الثقافة المتغيّرة) على التاريخ والحياة، وقبول ارتهان الحضارة اليوم وغداً لها؛ أليس منطقيّاً أنّ تعاقب حضارات الإنسان وتطوّره المعرفي، العلمي، الفلسفي، كان في أطوار سابقة لظهور المصطلح الخصب، وبديهيّاً أيضاً أنّها سوف تستمر وتتجاوزه إلى «ما بعده»، فما هي «ما بعد الثقافة» إذاً؟

(ج)

«ما بعد الثقافة» هي اللا-انتماء للثقافة واللا-انفصال عنها في آنٍ معاً، تحمل طوطمها الأمّ وفق المتغيّرات والملاءمة الحافظة. (فاللا-انتماء) هو هجين على المستويين الفكري والسلوكيّ وما يحمله هذا الهجين من دلالات، وهو يتجاوز الثنائيّات إلى ارتباطات ثلاثيّة وتزيد. وهذا الهجين لا ينتمي للثقافة بمفاهيمها التوسّعيّة (ماقبل) إلا كمن ينتمي إلى شيءٍ -لا على نيّة الارتباط- إنّما على نيّة فكّ الارتباط؛ (1) من هنا يكون الارتباط اشتراطا للتقابل بين نهايات الثقافة وبدايات (مابعد الثقافة) التي تُعدّل أو تقوّم أو تخلطُ ما تظنّه بحاجة إلى هذه الاشتراطات، (2) أمّا فكّ الارتباط فيكون بالخروج من الحالة العموميّة التي أتلفت وعي الثقافة بنفسها، حينَ راحت تحتلّ العلوم جميعةً كمرادف عاطل عن الوظيفة. هكذا لا تكون مفاهيم الثقافة (ما قبل) قائمة تبعاً لصلاحيّة التأثير، بل قائمة لصلاحيّات: (الفحص، المحاكمة) فكم من المفاهيم تجمّدت نتيجة لغموضها وتعقيدها وتماهتْ حتّى تاهَتْ، بحيث إنّها آلت (إلى كلّ شيء، ولا شيء)؛ وفي كلتا الحالتين فقدت تأثيراتها الصانعة لتنوير وحداثة القرنين الماضيين.

أمّا (اللا-انفصال) فذلك يعني أنّ (ما بعد الثقافة) لا تنفصل عن الثقافة انفصالاً كاملاً، فالسؤال عن (موت الثقافة) لا يعني بحالٍ موتها! فالثقافة عِلَّةُ وجود (ما بعدها) كما أنّها النسخة المعدّلة وفقاً لدلالات (ما بعد - الفكريّة)؛ أيْ أنّ (ما بعد الثقافة) نسخة مطوّرة من (الثقافة).

جدة Yaser.hejazi@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة