Culture Magazine Thursday  04/10/2012 G Issue 382
قراءات
الخميس 18 ,ذو القعدة 1433   العدد  382
 
الرصاص المصبوب.. كيف يراه العقل الغربي المتطور؟!
حوار الحضارات وثقافة التسامح هي حركة الجدل الموضوعية
قاسم حول

 

في وقت يتصاعد فيه العنف كردة فعل لفيلم “براءة المسلمين” أقيم في مقر الجامعة الحرة في لاهاي معرض هام عن ضحايا عملية “الرصاص المصبوب” التي نفذتها القوات الإسرائيلية ضد سكان غزة العزل والتي استغرقت اثنين وعشرين يوماً بدأت في تاريخ السابع عشر من شهر ديسمبر من عام 2008 حتى الثامن عشر من شهر يناير 2009 وراح ضحيتها ألف وأربعمائة وثلاثون إنساناً بريئاً بينهم ثلاثة عشر يهودياً.

لم يكن توقيت إقامة المعرض ذي علاقة بالفيلم الساذج والتافه الذي أثار كل هذا اللقط وتسلط عليه الضوء ليبدو وكأنه حدث هام. فهذا المعرض كان قد أقيم ضمن فعاليات كثيرة تشجب القتل والتدمير والعنصرية في العالم وعرض في بروكسل قبل عامين. واليوم يعاد عرضه في صالات الجامعة الحرة في لاهاي.

هذا الموضوع هو مكمل لمقال “فيلم براءة المسلمين والعقل المركزي للصورة” الذي نشر الأسبوع الماضي في الملحق الثقافي لصحيفة الجزيرة، يؤكد بأن قوى الخير وعقلاء البشر يتزايد عددهم وتتوسع دائرة الشجب والرفض لكل الأخطاء التي ينفذها المجانين في العالم، أياً كان إنتماؤهم!.

فقط علينا أن نتقن فن الجدل وفن الحوار ونتصرف برؤية صادقة نحو فكرة حوار الحضارات، وأن نتقن فن الإعلام وأن نستخدمه بشكل صحيح!.. علينا أن نعرف بأن لنا أصدقاء مثل ما عندنا أعداء.. وعدد الأصدقاء ليس هيناً ولا هو بالقليل وهو في تكاثر مستمر ويتمثل في النوع وليس في الكم، فقط أن نذهب ونتعرف عليهم ونقف معهم كي يساعدونا في طرد الخلل وهزيمة معسكر المجانين الذي بدأ يتضاءل، لا ينبغي على الإطلاق أن نخسرهم ونبدو أمامهم متساوين مع سلوك مخرج الفيلم البذيء الذي يشجبونه هم بطريقتهم، ومعرض الرصاص المصبوب خير دليل على ذلك. وفيلم “براءة المسلمين” التافه والمقزز والذي أنتج بهدف سياسي وهدف ثان ديني فإن معرض الرصاص المصبوب بعمقه وجماله وقوته ودلالاته هو أكبر بكثير من تلك الفقاعة لأنه جبل من الإبداع والحرية وقوة معرفة الحقيقة وقوة التعبير عنها. لكن العرب كانوا غائبين عنه ولم تحضر ولا كاميرا عربية واحدة أمام المنصة أو في أروقة المعرض!.

الرصاص المصبوب

في مقر الجامعة الحرة في مدينة “لاهاي” الهولندية دعت التشكيلية والفنانة “أنجريد روليما – Ingrid Rollema”” عدداً من المثقفين وجمعية كتاب بلا حدود الهولندية ومنظمات ثقافية لمشاهدة معرض لألف وأربعمائة وثلاثين كتاباً مصفوفة على الأرض بطرائق متساوية تشبه شواهد قبور اليهود بعد الحقبة النازية وتشبه شواهد قبور ضحايا البوسنة. لكنها في هذه المرة شواهد بدون قبور منظمة ومصفوفة فراحت هي تنظمها على أرض صالات واسعة لكتب متشابهة كالقبور يبلغ عددها 1430 كتاباً على غلاف كل كتاب اسم ضحية فلسطينية قتلت في عملية “الرصاص المصبوب” الإسرائيلية.

يبلغ عدد أولئك الضحايا 1417 ضحية فلسطينية وإلى جانبهم ثلاثة عشر كتاباً لثلاثة عشر ضحية إسرائيلية، كلهم ضحايا عملية “الرصاص المصبوب” التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة والتي استمرت لمدة اثنين وعشرين يوماً وأودت بحياة هذا العدد من الأبرياء.

عندما دخلت الصالة في الطابق الأرضي من بناية الجامعة الحرة شاهدت ضباباً مصنوعاً في عدد من الصالات المرتبطة ببعضها وثمة سكة حديد عليها آلة التصوير والمصور يعمل بصمت مع المخرج وعلى الأرض كتباً بيضاء متشابهة جلب انتباهي الحروف العربية والإنكليزية لأسماء أشخاص كتبت على غلاف كل كتاب. المشهد كأنه الأبدية حيث ألغت الإنارة والضباب الكثيف معالم المكان وتشعر الناظر بخوف حقيقي. وكنت أتصور كيف ستظهر الصورة على الشاشة. لم أكن أعرف بعد التفاصيل قبل أن أغادر المكان وأصل إلى الطابق الخامس من البناية حيث دعوة اللقاء الذي نظمته التشكيلية “أنجريد روليما” في مقر الجامعة الحرة بلاهاي.

بعد اللقاء الذي استغرق قرابة الساعة ونصف الساعة من التعارف والحوار بين المدعوين دعينا للعودة إلى الطابق الأرضي، ولم يكن ثمة ضباب حيث انتهى التصوير وبدأنا نتعرف على الواقع الثقافي والإنساني وطبيعة الكتب المصفوفة على الأرض وبتلك الطريقة المنظمة.

لم يكن المعرض ولا طبيعة اللقاء هو ضد إسرائيل ولا هو دعاية فلسطينية أيضاً ولا هو إدعاء لقوى يسار أوروبي. والأهم ليس لهذا اللقاء علاقة لا من بعيد ولا من قريب مما جرى في إنتاج الفيلم المسيء للأسلام، فيلم “براءة المسلمين”، لأنه مشروع بدأ في عام 2009 وهو يكشف الحقائق ليس في فلسطين فحسب، بل في بقاع ملتهبة من العالم، لأنه يكشف بصدق الحقائق الموضوعية ما سيوفر علينا الكثير من الجهد. أنها صورة العالم بعين الوعي الذي خسرنا قدرته على الفعل والتأثير، فلو نحن كرسنا ظاهرة الوعي والمعرفة لكان بإمكاننا تجاوز الكثير من الصعاب وتوفير الكثير من الدماء وحلنا دون الحرمان واليتم والفاقة.

العدد كبير ونوعي!

من هذا المنطلق نظرت التشكيلية “أنجريد روليما” إلى ما يجري في هذا العالم، وهكذا عملت مع عدد غير قليل من الباحثين والأساتذة والمبدعين من أجل فهم الحقيقة ومعرفة ما يجري حولنا في هذا العام وصولاً إلى عالم أقل خراباً! وأقل زيفاً! حيث يلعب الإعلام اليوم لعبة ليست نظيفة في قلب الحقائق وإخفاء المعلومات وتقديم معلومات مظللة بدلها. وهذا يجري في مناطق شتى من العالم، في أمريكا اللاتينية، في الشرق الأوسط، في العراق، في أفغانستان، في ليبيا، في تونس، في مصر.. وفي فلسطين أيضاً!

يقول الكاتب المسرحي الهولندي “أرفين يانس” في التمهيد الذي كتبه عن إصدار الكتاب المركزي لكتب الشهداء “تضمن المشروع الفني العدد الكلي للطبعة 1430 كتاباً قد نشرت على الأرض، بحيث يمثل كل واحد منها شاهد قبر، وتشكل مجتمعة مقبرة مطبعية بمثابة نصب تذكاري. أنها تذكار وذاكرة للحياة ومكان للتفكير في العالم الذي نعيش فيه حيث الحروب والعنف والظلم والبؤس وإمكانية الإلتزام ومسؤولية الفن والفنان”.

إن هذا التجمع أو هذا التأسيس هو تأسيس معادي للعنصرية بالضرورة والبوصلة التي تشير إلى فلسطين وإلى ضحايا عملية “الرصاص المصبوب” تؤكذ ذلك، ولكن الفكرة هي التخلص من المفاجآت المرتقبة، فكل الأكاديميين الذين تحدثوا في لقاءات هذا التجمع وفي المشروع الثقافي المناهض للعسف والذين أصدروا المؤلفات وكتبوا البحوث وألقوا المحاضرات في الجامعات في العالم يؤكدون على دور الإعلام في العملية السياسية. وهذا الدور ينبغي أن ينطلق من الضمير.. ومن الوعي. وهذا الموضوع هو الأخطر لأنهم يقولون إن إخفاء المعلومات والحقائق لا يمكن أن يمر بشكل مؤكد ودائم، وكل الأكاديميين الذي ينضوون اليوم ضمن هذه الحركة في تأييدهم لنهجها يعرفون تلك الحقائق المخيفة في حسابات المستقبل.

من أين انطلق هذا المشروع الثقافي؟

لقد تمكنت هذه الفنانة من استئجار موقع كبير في بروكسل يسير فيه الزائرون على مراحل وبمجمله يشبه مسرحية جديدة، حيث القول لقد تحول الواقع في عصرنا هذا إلى مسرح. وبعد أن يمر الزائرون بمراحل تاريخية وحضارية تركت أثرها في الوجدان الإنساني من اللوحات والتماثيل مع إنارة خاصة على ممشى مضاء بطريقة يشعر فيها الزائر أنه يؤدي دوراً في هذه العملية الثقافية الحضارية حتى يصل في النهاية إلى موقع مفروش بالسجاد الأنيق المصنوع في الفلاندرز الغربية من بلجيكا والمعد للتصدير إلى المملكة العربية السعودية ودبي وإيران استعارت منه الفنانة أنجريد عدداً من السجاد لكي يمنح المتحاورين شعوراً بما يجري في الشرق وهم عدد من الباحثين والأكاديميين.

الزائرون الذين يمشون متوجهين إلى مكان الحوار هذا يمشون على خارطة العالم مركبة بطريقة فنية تظهر إينما مشت أقدامهم الاضطربات الحاصلة في هذه القارة أو تلك. ومصدر الفكرة كانت عملية الرصاص المصبوب التي حفزتها على تأسيس هذه الحركة.

ثم نقلت جانباً من هذا المعرض المتعلق بضحايا عملية “الرصاص المصبوب” إلى مدينة لاهاي الهولندية. إن صاحبة المشروع الثقافي الإنساني هي التشكيلية “أنجريد روليما” صاحبة كتاب “إسرائيل ومأساة الدولة اليهودية” لنقرأ ما تقوله هي عن كتابها الكبير والفريد.

تمهيد

لأن الفكرة دائماً ما تكون البداية

عادة ما يكون الكتاب قائم بذاته.. هذا الكتاب ليس كذلك؛ أنه جزء مهم من بناء فني، كل كتاب يحمل اسماً من أسماء الـ 1430 إنساناً، الذين استشهدوا أثناء ما يسمى بعملية الرصاص المصبوب، والتي تم تنفيذها من 27 ديسمبر 2008 وحتى 18 يناير 2009.. تظهر الهجمات العسكرية والتي قتل فيها كل من الفلسطينيين والإسرائيليين بالطريقة غير العادلة التي تنفذ فيها الحروب في هذه الأيام.. عندما تفرش الكتب على الأرض تشكل بحراً من الأسماء.. الكم الهائل من الكتب وأسمائهم يجعل الفقد ألماً ملموساً.. كما ويمكننا أن نجرب الصمت الذي لن يتغير والذي فرض عليهم للأبد، وحقيقة أنه لا يمكن لهم الحكم أو التعليق. عندما تفرش الكتب على الأرض تصبح عملاً فنياً. ربما تعي سياقاً للكم الهائل للذين فقدوا الحياة.. قد توقظ تفكير الناظرين وربما تجعلهم يتحركون.

إن أساليب الحرب الحديثة تشهد تطورات كالريح العاصفة. هذه التطورات لها آثار بعيدة المدى قد تلمسنا نحن أما شخصيا أو فعليا.. الزنزانات تخترق كالقتلة في الليل.. إن القادة والحكومات تختار أهدافها دون حساب للعملية الديمقراطية.. كل شيء يبدو شفاف ولكن لا شيء بعيد عن الحقيقة.. بعد أن يعرض بناء الرصاص المصبوب ستنشر أسماء الشهداء منفصلة في كل أنحاء العالم.

يأتي هذا الكتاب كعرض لعملية امتدت لعامين حيث استخدمنا الصور والكنايات بما يتعلق بالقوة والعنف.. لقد حاول الفنانون، العلماء، أصحاب النظريات والناشطون السياسيون إبداع صور وأفكار مؤثرة فوق المجالات القوية التي تتحكم فينا. أنهم يحاولون إيجاد معنى للتطورات العالمية التي تحدث، دور الفن في ذلك وماذا يستطيع المواطن العادي أن يفعل في محاولة للمساهمة بشكل أفضل في إيجاد الحياة الكريمة التي يستحقها كل إنسان.

غياب الإعلام العربي

الدعوات للقنوات العربية كما علمت من المنظمين لهذا اللقاء الثقافي كانت وجهت لها، لكنني لم أر كاميرا ولم أر مراسلاً عربياً يغطي هذا الحدث القوي في وعيه ومعناه. وهنا لابد من الإشارة بأن المراسلين حتى في حضورهم فإنهم سوف ينقلون خبراً تقريرياً لا يتجاوز نصف الدقيقة لنقل نصف الحقيقة في نصف خبر، فيما أن حدثا ثقافياً بهذا الإصرار وبهذا الاتساع الذي يشمل الكتاب والإعلام والسينما والمسرح وهو يعمل بصعوبة مالية قاسية ولكن بإصرار هام، يحتاج إلى برامج قادرة على جعل المتلقين من بضعة مئات وبضعة آلاف إلى ملايين، لو كنا نملك فضائية عربية واحدة تتسم بالعدل وبالوطنية.

فأين تكمن أبعاد لعبة الاختفاء الإعلامي ومخاطرها؟

طبعاً كل المشاركين في هذه الثقافة هم من الخبراء والأكاديميين والكتاب والأساتذة من أصحاب المعرفة وأصحاب الوعي والتحليل العلمي للواقع ومعطياته.

إن مشكلة الإعلام في المنطقة عندنا هو أن الإعلامي يلعب دور الموظف الذي يتلقى التعليمات من مديره المباشر منفذاً سياسة المدير العام، فيما الإعلامي هو في حقيقته صورة الضمير الذي يحاكم الأمور من منطلق الوعي، لأن إخفاء الواقع أو تظليل الحقائق لم يعد ممكنا بسبب انتشار وسائل الإعلام “الهاتف النقال، الفضائيات، الإنترنت. ومع أن هذه الثقافة هي ثقافة مبسطة وغير عميقة وهي ثقافة معلوماتية إلا أنها يمكن أن تلعب دوراً سلبياً يشارك في تعميم فوضى الحياة وإنجاز المعالجة الفاشلة مثل العملية الجراحية الفاشلة التي تبقى لها مضاعفات على جسم الإنسان، سرعان ما يموت بعد العملية الفاشلة.

يؤكد كل المشاركين في هذا التيار الذي حركته الفنانة “أنجريد روليما” بأن زيف الصورة على الشاشة المتناقضة كلياً مع الواقع المعاش هو الذي دفع الناس في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إطلاق “حركة احتلوا” الاحتجاجية المناهضة للسياسة الأمريكية والتي دعت للعصيان والهيمنة على وول ستريت ومراكز مالية أخرى.

لم يكن حتى وقت قريب مسموح بإبراز الحقائق المتعلقة بإسرائيل وعمليات التدمير التي تقوم بها ضد الفلسطينيين. بهذه الحركة وعدد الأكاديميين المناصرين لها، ليس ما يتعلق الأمر بإسرائيل فحسب، بل حتى في الغرب وفي إخفاء الحقائق عن المجتمع، فيما اليوم تنمو هذه الحركة وهذا التيار وسيصبح في فترة ليست بعيدة شجرة وارفة الظلال.

جانب كبير من المسؤولية

نحن الآن في مواجهة عالم متقدم تكنولوجياً ونحن مستهلكون لهذه التقنية في أغلب مجالات حياتنا، ومثل ما نستخدم الطائرة في تقريب المسافات علينا أن نستخدم التلفاز والقنوات الفضائية في تقريب المسافات أيضاً. الفرق أننا في الطائرة تقودنا الخرائط العلمية للوصول إلى المكان الذي نريد الوصول إليه، فيما نحن عبر وسائل الأعلام يقودنا المزاج فنمشي بعكس التيار ولا نصل بالضرورة إلى الهدف الذي نرمي الوصول إليه، وبهذا التصرف لا نصل إلى هدفنا وأيضاً لا نتعرف على ناس هم أصدقاء لنا بل ونعمد للابتعاد عنهم.

الإعلام العربي والإعلاميون العرب يتحملون جانباً كبيراً من المسؤولية.

كنت أتمنى ومنذ زمن أن تبادر دولة واحدة فقط من بلداننا إلى رسم سياسة إعلامية متوازنة دينياً وثقافيا واجتماعياً وتضع وترسم سياسة إعلامية حرة بقانون، والقانون لا يتعارض مع الحرية، بل يؤمن مصلحة المجتمع والناس والدين. وهذه السياسة المتوازنة هي التي تقود إلى الوعي.

القناة الإعلامية اليوم وبعد أن تحولت إلى فضائية هي سلاح خطير لا يجوز أن يمنح الرخصة باستخدامه لا إلى جاهل ولا إلى معتوه، بل هو ثكنة عسكرية وموقع متقدم في الخطوط الأمامية في الساحة السياسية والدينية والثقافية والوطنية والأخلاقية.

لو كان لنا مثل هذا الإعلام لاستطعنا التصرف بحكمة وهدوء إزاء ما جرى وما يجري من أحداث ولتمكنا من إيصال صوتنا والتأثير على الرأي العام العربي والعالمي والإسلامي ولأقمنا حواراً للحضارات ولنا في العالم من الأصدقاء وللعالم الإنساني الطيب من الأنصار ما يكفي لأن نعيش سعداء وبسلام.

- هولندا sununu@ziggo.nl

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة