Culture Magazine Thursday  05/01/2012 G Issue 359
فضاءات
الخميس 11 ,صفر 1433   العدد  359
 
رؤية
متلازمة الشك (1-3)
فالح العجمي

 

عندما تطرقت إلى موضوع الصداقة في حلقتين سابقتين من مقالات هذه الزاوية، كنت قد تلقيت بعض تعليقات طريفة، وأخرى مؤثرة؛ أبرزها ما تفضل به عليّ زميلي الدكتور عبدالله العسكر من حزنه للنتائج التي توصلت إليها في ذلك التحليل، وأسفه على عدم وجود صديق ينطبق عليه قول الشافعي، أو كما تشيع مرويات التراث: صديق مخلص يتنازل له المأمون عن نصف ملكه. وكان محور تلك الأفكار يصب في فلسفة قيم العلاقات بين البشر، وطريقة الأفراد والمجتمعات في تصنيف تلك العلاقات؛ بل وإدراجها ضمن مناهج التعليم وأطر التربية، وأخذ العبر منها، وسك الأمثال أو العبارات الراسخة التي تؤطر السلوك.

لكن ما أثرته في تينك المقالتين ومس الشغاف لدى البعض هو مدار بحث لدى علماء الدماغ البشري، يتقصى بشكل عام موضوع «الثقة» لدى الناس، وكون كثير من أفراد المجتمعات الحديثة بدأوا يفقدون الثقة التي كانوا يحسونها لدى كثير من مجايليهم في فترات سابقة؛ أو بعبارة زميلي الفاضل الدكتور عبدالله العسكر: «العودة إلى زمن جميل كنا نسمع أن فيه صديق صادق».

ودون أن أرهق القارئ بما حدده العلماء لموقع تلك المشاعر في الدماغ، نترك بعض التطبيقات التي تعاملت معها تلك الدراسة؛ من فقدان الثقة بين الدول، وبين البنوك في تعاملات بعضها مع بعض بسبب الأزمات المالية والاقتصادية المتلاحقة.

ونبدأ من المقارنة بين استطلاعات الرأي التي قام بها الباحثون بين عامي 2005م و 2010م؛ وكانت إجابات الناس عن سؤال: «هل تظن بأن المرء يمكن أن يثق في أكثر الناس؟» بالإيجاب سنة 2005م بنسبة 44 %، بينما انخفضت النسبة في سنة 2010م إلى 38 % من المشتركين في استطلاع الرأي.

الطريف في الأمر أن الفئة المشتركة في الاستطلاع قد احتوت نموذجاً مغايراً لفتاة في الثامنة من عمرها؛ فهي بطبيعتها لا تعرف الشك في الناس.

وقد وصف التقرير هذه الفتاة (ومعها ما يقارب 8000 شخص) بأنها تعاني من متلازمة ويليام – بويرن (WBS)، وأبرز سمات تلك المتلازمة: الوجه الضئيل والفم الكبير والروح المشعة بالثقة.

وكانت أم هذه الفتاة تقول عنها: «إنها تذهب مع أي غريب، إذا طلب منها ذلك».

ودون تدخل في نتائج البحث العلمي، أو التهكم على أفراد العينة؛ ألا يذكركم وصف أصحاب هذه المتلازمة بما يردده كثير من نجوم الفن في مقابلاتهم في وسائل الإعلام المختلفة (خاصة النساء منهم): فتلك العبارة المعتادة في إجاباتهم عن أبرز سلبياتهم «مشكلتي في الثقة العمياء في الناس»! إذن هناك شعور يتضاءل بأن الناس أهل للثقة.

ولئن كان الأمر بهذا الشكل في المجتمعات الغربية التي تعودت على سيادة الرأسمالية، وسيطرة مشاعر المجتمع الصناعي المتصاعد إيقاعه بعيداً عن مراعاة المشاعر الإنسانية؛ فإنه أيضاً في البلدان التي تقل فيها قوانين الحماية للأفراد، وضعاف عناصر المجتمع على وجه الخصوص، تزداد الحاجة إليه.

فالناس مع تقلص مساحة سيادة القانون يشعرون بالخوف من عدم تمكنهم من حماية أنفسهم، كما تشجع الثغرات القانونية أصحاب التجاوزات على ممارساتهم إزاء الآخرين؛ مما يبرر اتساع مشاعر فقدان الثقة.

فبعد أن كانت الوصايا العامة وأطر السلوك المحددة للصغار تتمثل في القيام على خدمة الغريب وإكرامه وتحقيق رغبته؛ أصبحت وصايا الأهل لأطفالهم: لا تثق في أحد غريب! والعبارات التي نسمعها تتكرر في المطارات والأماكن العامة: لا تترك أغراضك بعيداً عنك، ولا تستلم أشياء من أحد لا تعرفه! هل بدأت البشرية في الانحدار أم في الأمان؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة