Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
الفِتْنَةُ العَمْيَاءُ
عمامَةُ الطائفيّة لا تَسَعُ رأسَيْن
ياسر حجازي

 

رُوِيَ في أدبيّات المتصوّفة: «حينَ قَدِمَ أبو الحسن الشاذلي الإسكندرية، وكان فيها أبو الفتح الواسطيّ، فوقفَ بظاهرها واسْتأذنَهُ الدُّخُولَ، فقالَ: «طاقيّةٌ لا تَسَعُ رَأسَيْنِ»؛ فماتَ الواسطِيُّ في تلك الليلة؛ قالَ العَارفونَ: «مَن دخلَ بلداً على (فقيرٍ) بغَيْر إِذْنِهِ قَتَلَهُ».

**

(أ)

العماء والبصيرة ثنائيّة فكريّة تؤثّر في النزاعات والمصالحات؛ حيث إنّ العماء عامل خلافي والبصيرة عامل ائتلافي؛ وكلاهما يرتبطان بثنائيّات متنازع عليها في المجتمعات العربيّة، كمثل (العقل والنقل، الحداثة والتراث...)، وهي من التعقيد الخلافيّ أنّها ما زالت أساس إشكالات وأزمات عديدة، على الرغم من الأبحاث التي تناولتها، لكنّ الحكومات لم تحسم أمر هذه الإشكالات، وتعاملت معها ومع ممثّلي تيّاراتها في حدود النفعيّة السلطويّة.

العماء والبصيرة الفكريّة (ثنائيّة تكامليّة) وحدة تحمل ضدّين يكتشفان معانيهما النسبيّة وقيمة حضورهما من بعضهما، فلا يلغي أحدهما الآخر بل يُعزّزه ويُظهره»؛ فالقيمة والكينونة لأحدهما تتوقّف على ضدّه، ممّا يُوحي بتماهٍ نسبيٍّ وفقاً لمرجعيّة القياس؛ وهما يعملان معاً في العقل الإنساني بتفاوتٍ نسبيٍّ، كما الشرّ والخير، الفجور والتقوى، الخوف والشجاعة، فلا يخلو عقل منها؛ لذلك فإنّ أيّ ضدٍّ يزول بوجود ضدّه هو خارج الثنائيّة التكامليّة التي مهّدتُ لها.

**

لا يحمل العماء الفكريّ معناه اللغويّ البدائيّ، وهو ليس تابعاً للأميّة التعليميّة، ذلك أنّه يطغى عند طبقة المتعلّمين تحت تأثير محرّضاته، وأهمّها (الأنا والطائفيّة). فكلاهما يجنّدان مناهل المعارف والعلوم إقصاءً للآخر وإعلاءً للأنا. وفي سبيل تحقيق الغاية، يستسلم العقل الطائفيّ لثلاثة أوهام تحتلّ قناعاته: (الوهم المخادع): هو اقتناعٌ يحرّف أفعال المرء فلا يحمل الفعل قيمته الأصليّة، وتغدو الارتباطات غير متجانسة بين منطومة الأفعال وما يقابلها من قيم؛ كإباحة (التطهير الطائفي) تحت حججٍ مختلقة. و(الوهم الأعمى): اقتناعٌ يحتلّ المرء بإلحاق الأطراف (السالبة) في الأضداد بمخالفيه، وبادّعاء ملكية الأطراف (الموجبة) منها. بينما الأضداد جميعةً تعمل في الإنسان دون تفريقٍ، والتفاوت منوط بأوزان قيم الأضداد المتأثّرة (بالأعراف، بالدين، بالعلم، بالثقافة، بالدولة)؛ ولعلّ النص القرآنيّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (7) (8) سورة الشمس. يُصادق على مشاعيّة الأضداد (موجبها وسالبها) لدى النفس الإنسانيّة دون تمييز بين عرقٍ وجنسٍ وانتماءٍ. إذّاك يكون الوهم الأعمى أنْ تضع خصمك في المكان الذي لا تضع نفسك فيه، هو المدنّسُ وأنتَ المقدّسُ. والوهم الضلّيل: اقتناعٌ أخلاقيّ بقيمة النتائج وإن كانت غير أخلاقيّة. هنا يكمل الوهم دورته بتأثير سلبيّ على أصحابه، فتؤول النتائج اللاأخلاقيّة إلى أخلاقيّة معدّلة وفق مكيال الطائفيّة، بل تتحوّل إلى فضيلة يدافع عنها حتّى أشدّهم تقوى.

إنّ هذه الأوهام الثلاثة: الخداع في تناقض السلوك بين الأصل والفعل، والعماء في التعالي، والتضليل في قبول النتائج غير الأخلاقيّة، هي مكوّنات تضخّم الطائفيّة وذيوع أحاديّتها النيرونيّة.

**

(ب)

يُنسب للنبي العربي صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة»، وهو حديث ضعّفه الباحثون، ولا يستقيم مع النص القرآني؛ فالدين ليس (عمامة)، والمذاهب ليست (رؤوساً) حتّى نسقط عليها خرافة (طاقية لا تسع رأسين)، والأصل في النص القرآني: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (48) سورة المائدة. وحديث «الفتنة نائمة» ضعّفه الباحثون أيضاً؛ والقصدُ -هاهنا- ليس قراءة في السند والمتن، إنّما إخضاع قولين منسوبين (بالضعف والإنكار) إلى النبي العربي صلى الله عليه وسلم، وكيف تحوّلا إلى أدبيّات الطائفيّة.

«الفتنة نائمةٌ» قولٌ يكثرُ استخدامه خشية مخاطرها، كأنّ ما يحدث في الأرض العربيّة منذ ثلاثة عقود وتزيد من هلاكٍ وعراكٍ لم يخرجْ من «عمامة الفتن الطائفيّة» إنّما من «عمامة الإلفة»؛ فما يقال عن المخاوف من هلال شيعيٍّ وآخر إسلامويٍّ سُنّيٍّ، وماذا تدعى المواقف السياسيّة المنبثقة من الطائفيّة لا من المصلحة الوطنيّة، والمتباينة في العراق، لبنان، أحداث سوريّا، أزمة البحرين؟ إنّ الشواهد كثيرةٌ لكنّ الطائفيّة تُعْمِي أتباعها ولا ترحمهم قبل خصومها وخصومهم.

**

وإنّ من ضرورات البحث في الطائفيّة، أنْ نفرّق بينها وبين المذهب على مستوى ماهيّة كلّ منهما، نشأته، غايته؛ (فالمذهب): مدرسة فكريّة تشريعيّة تأوّل الأصول فتزداد المدوّنة المرجعيّة سعةً وتيسيراً، ويحقّق وجودها تعدّدا فكريّا للفهم الإنساني، وهي بحال لا تدعو إلى الطائفيّة. أمّا (الطائفة): فهي تمثيل سياسيّ للمذهب، يتوهّم أنّ بقاء الآخر خطر على بقائه، وأنّ بينهما (ثنائيّة حدّيّة) كطاقية الشاذلي، عباءةٌ لا تسعُ روحين؛ تمثيل يحوّل المذهب من سمته التعدّديّة الفكريّة إلى قدسيّة أحاديّة تدّعي حقيقة مفاهيمها المطلقة ووحدانيّة تمثيلها للأصل.

(الطائفيّة) ليست أصلاً أو كلاًّ إنّما جزءٌ منشقّ من مجموعة، تهيمن عليها (طهرانيّة جهولة طوباويّة) لتخليص المجموعة من كلّ المختلفين والمخالفين؛ فلا ترى نفسها جزءاً من الاختلاف (وهذا مضمون الفرقة الناجية أو الحركة التصحيحيّة)، فلا قيمة هنا للحوار، فالتعصّبُ في المتن وليس هامشيّاً. هكذا نجد الطائفيّة الدينيّة والسياسيّة أكثر عداءً للفصائل والطوائف الأخرى داخل الدين أو الحزب نفسه، بينما تُجيزُ التعامل والمرونة مع المجموعات الأخرى المختلفة كليّاً. فكيف يمكن أن تقوم تعدّديّة سياسيّة ودينيّة آمنة مُستقرّة تعتمد الفتنة الطائفيّة، ولعلّ النموذج اللبناني خير نموذج لبلد لم ينعم بمفهوم الدولة والاستقرار منذ (اختلاقه - وصناعته) بسبب المحاصصة الطائفيّة؟

أمّا على مستوى النشأة، فلعلّ نشوء المذاهب يكمن في أسباب: (التغيير والتجديد مقابل الحاجة الاجتهاديّة والتشريعيّة/ الرؤية في مقابل التعدّديّة الفكريّة)، فتجديد التشريعات والاجتهادت ضرورة إنسانيّة تعاقبيّة لمواءمة متطلّبات الإنسان وفق الكائنية والزمانية. أمّا نشوء الطائفيّة فإنّها تتأثّر: (بالتنازع على السلطة مقابل عدم تداولها، وبالمرجعيّة الخاصّة مقابل عدم الانصهار في المجموعة، وبالمظلوميّة الأقلويّة مقابل نفوذ الأغلبيّة، وبالتهميش الاجتماعي مقابل الامتيازات الطبقيّة).

**

كلّ انتماءٍ يحمل في متنه وهامشه عقلاً بين الانغلاق والانفتاح، إلاّ أنّ الطائفيّة هي فقدان العقل تحت مؤثّرات أوهامه المخادعة والعمياء والضلّيلة؛ فأيّ منطق يستأثرُ بالقيم، الأخلاق، المفاهيم، الوعد الأخير إنّما هو منطق أعمى، لا يصمد أمام بديهيّات البصيرة.

الفتنة قائمة، والاعتراف بها أساس، والأحداث أكثر سطوعاً أنّ الفتنة الطائفيّة والسياسيّة والاجتماعيّة تأكل المجتعات العربيّة من محيطها حتّى خليجها: فما هو العمل؟

هل حقّاً نحن لا نرى الفتنة؟ هل الاعتراف بها يورّطنا بمسؤوليّة المشاركة في اقتراف آثامها وما تخلّفه من ضحايا؟ هل طغى العماء على أيّ بصيرة، وغدت الطائفيّة قيمة؟ إنّ هذا العماء بنكران الفتنة المستعرة هو حجبنة تمتهرها الطائفيّة لئلا يتعثّر مشروعها التطهيريّ، وحتّى لا يتوزّر أتباعها بمسؤولية الأحداث، فكلّ بلاء يعلّق بأعناق الطوائف الأخرى.

لماذا لا (تموت الفتنة)؟ ألا يعتبر الظنّ بأنّها (نائمة) إقراراً بديمومتها فما تزول أبداً، أليست هي عائقٌ يمنع (الصلح التاريخيّ)، فالنزاع باقٍ ما بقيت الفتنة، كيفما كان شكل بقائها؛ فهي (إمّا أن تكون أو لا تكون)؛ وحالنا، نحن (الأفرقاء جميعاً) والفتنة الطائفيّة كعمامة الشاذليّ (لا تَسَعُ رأسَيْن)، فإمّا أن تكون هي، وإمّا أن نكون نحن؟!

Yaser.hejazi@Gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة