Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
الاغتراب الليبرالي
عبدالله العودة

 

بعد النظر في عدة اغترابات عربية وإسلامية.. يبقى الاغتراب الليبرالي.. هو الاغتراب الذي لا يعرف نفسه.. ويتنكر لها. وحينما ولدت الليبرالية في الغرب جاءت لأجل «الحرية» حرية الناس.. وحرية رأيهم.. وتبني حقهم الاجتماعي والسياسي.. ولكنها تحولت في أجزاء من العالم العربي لتصبح الوقوف ضد خيار الناس والتشكيك بهم وتبني خيار الآخرين ضدهم وضد انتمائهم. شق الليبرالية التي عرفها الغرب سياسياً مفقودٌ تماماً.. وأما الشق الاجتماعي.. فقد تحول إلى مرض اجتماعي مستعص يسمى «الاغتراب». وإنه ليحزنني القول إنه في الوقت الذي جاءت الليبرالية ابتداءً في الغرب لأجل المجتمع المدني الحر وحقوق الناس وحرياتهم.. أصبحت الليبرالية العربية وخصوصاً السعودية في أحسن أحوالها غير مبالية بحقوق الناس.. بل هي تقدم رزمة شاملة من الآراء الجاهزة التي تنسب نفسها لليبرالية.. وتقدمها للمجتمع والناس ليسمع لها وليطيع على أنها «النور» و»الحق» في الوقت الذي تشتم الناس والمجتمع بالحديث عن «الحق» المطلق.

وأما العقد الاجتماعي (عند الغرب) ليبرالياً.. فقد تحول إلى العقيدة الاجتماعية (عند الليبراليين السعوديين) عربياً! فحينما طرح جون لوك العقد الاجتماعي على أساس أنه عقد يقوم على المساواة العادلة.. وعلى حفظ حقوق الناس والمجتمع قبل كل شيء.. كان يؤسس سياسياً واجتماعياً للوقوف مع الناس وإلى جوارهم تماماً.. أو هكذا حاول على الأقل من أجل إصلاح سياسي يقوم على اعتبار المحكوم أولاً.. والناس. ولكن الليبرالية تصبح في بعض البلاد العربية شعارات إيدلوجية تافهة.. وعبارات دعوية مستهلكة.. همها في الغالب ليس نقد السلطة.. والوقوف مع الناس.. لأجل عقدهم الاجتماعي.. بل الوقوف مع السلطة وإيجاع الناس ضرباً وحرباً وجلداً.. لتقديم عقيدة اجتماعية غير مؤسسة تسمى «ليبرالية».. لتتشكل محلياً صيغة «الليبرالية المبتذلة». التي حولت الليبرالية كمفاهيم إصلاحية لأجل الناس إلى «حزبية». وإذا كانت ليبرالية التنوير المبكر «لوك» و»مونسكيو» تقدم فصل السلطات أونظام الرقابة السياسية الاجتماعية.. والدولة المدنية.. فإن الليبرالية في بعض الدول العربية تدعي ذات المصطلح «الليبرالية» ولكنها تبدو أسلحة رخيصة في يد المستبد يضرب بها أعداء هذه «الليبرالية» المحلية المدعاة..التي تكفر بكل بالليبرالية نفسها.. لأن الليبرالية تعني اللجوء لخيار الناس ولرقابتهم المدنية.. ولمؤسساتهم الأهلية.. ولقيمتهم وحرياتهم وحقوقهم.. واحترام قواعدهم بل والتأسيس عليها.. وهكذا كان ما يعرف بالقانون الطبيعي الذي يقدم قيم الناس كأسس مدنية اجتماعية لتأسيس القانون.

هذه الليبرالية التي تحولت من العقد الاجتماعي إلى العقيدة الاجتماعية الدعوية.. تحولت لحزبية مبتذلة.. تقوم على الأعراف الشللية التي تعيد تعريف الحقوق ليس ضمن قيم الناس وخيارهم.. ولكن ضمن آرائهم الشخصية البسيطة التي يعتقدون أنها «ليبرالية»! هنا تحول «الليبرالي» المحلي الممسوخ إلى مناضل ليس لأجل الناس ولكنه «مناضل» ضدهم.. وليس لأجل الحرية.. ولكن لأجل هذه السلسة البسيطة من الآراء الاجتماعية التي يعيد تعريف الليبرالية عربياً من خلالها.. وهذه بالتحديد هي ما أطلق عليها د. عبدالله الغذامي «الليبرالية الموشومة».

هذه «الليبرالية» آنفة الذكر أسست لمرض فكري واجتماعي ونفسي مشترك بين كثير من الأطياف العربية.. مرض الاغتراب..في البدء عربياً وسعودياً كان الاغتراب الليبرالي.. فحينما يحس المثقف السعودي الليبرالي بأنه يؤسس لقيم فردية تقوم على تقويض كل المفاهيم الاجتماعية.. وعلى الحد من حرية الناس وحقهم الديني والسياسي والاجتماعي باسم الليبرالية.. يبدأ عنده الشعور بأنه «غريب» داخل هذا المجتمع المنسجم.. وتتطور عنده الحاجة للبحث عن مجتمع بديل أو عن صناعة مجتمع صغير جداً يشبهه في الأفكار وفي ذات المرض.. ليلعنوا المجتمع.. ويلعنوا «تخلفه»..و»عدم جاهزيته».. و»غباءه»..إلخ.. في ذات الوقت الذي يدعون فيه أنهم «قادة» هذا المجتمع و»رواد الوعي» فيه..! يلومونه ويطلبون منه أن يستمع إليهم ويطبق ما يقولون كأنهم أوصياء في ذات الوقت الذي يلعنون فيه وصاية المجتمع.. وفي الوقت الذي يلوكون فيه بغير فهم معاني الأغلبية والديمقراطية الغربية.. يبذلون كل جهدهم أن لا يكون للأغلبية أي قرار في البلاد العربية والمحلية.. ويستميتون في سبيل الوقوف ضد خيار الناس وضد قرارهم.. ونفسهم الحر.

في الوقت الذي يؤسسون فيه لمبدأ «المسامحة» والتسامح مع الغريب.. يطبقون مبدأ «المشاحة» والتلاعن مع القريب.. تسامحٌ مع «الآخر».. وتصارع مع «الأنا».. ليكون أحدهم «كاتب السلطان الحديث» كما عبر خالد زيادة ذات يوم.. ولقد صدق الجاحظ حينما أغرق هؤلاء الكتاب بالذم.. ووصفهم بالتبعية والذل.. بل وألف فيهم كتاباً حول «ذم الكتاب».. فكان مماقال «إن «الكتابة بُنيَ على أنه لا يتقلدها إلا تابع، ولا يتولاها إلا من هو في معنى الخادم.. فأحكامه أحكام الأرقاء، ومحله من الخدمة محل الأغبياء.. هذا هو المشهور من أفعالهم، والموصوف من أخلاقهم». وهكذا أصبحت الليبرالية المبتذلة تعاني الاغتراب عن الناس والبعد عنهم.. وعدم تبني حقوقهم وقضاياهم.. وتحولت من الساحة والميدان.. إلى البلاط حيث الحياة المخملية.. والليبرالية السعودية!

أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة