Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
قراءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
هذا الكتاب
فن البناء والمعايير الاجتماعية والأخلاقية في العالم العربي
لمياء السويلم

 

(تحاول العمارة العربية الإسلامية، أولاً وبشكل عام، التقليل من حجم ظهور النساء في الفضاءات المعمارية، وهي تسعى ثانياً، في الأماكن الاجتماعية المكتظة بالسكان، إلى التقليل من احتكاكهن بالرجال بكل الوسائل الممكنة... الإيديولوجيا المعادية للنساء، أحد مبادئها العامة التي تحكم العمارة العربية، هو وضعية المرأة بصفتها عورة ً) سوسيولوجيا العمارة أو ثقافة البناء، هي العناوين التي يندرج كتاب «العمارة الذكورية» تحتها، فمنذ بداية التاريخ كان الإنسان يراعي في طريقة بنائه للمساكن ظروف المناخ والتضاريس الجغرافية، فاستجابة المجتمعات لشروط الجغرافيا هي التي حددت غالباً شكل وطرق العمارة، لكن على امتداد التاريخ العربي والإسلامي كان هنالك شرط آخر يتدخل في بناء المساكن لا علاقة له بالجغرافيا، إنه شرط «حجب النساء» كأحد أهم وأقوى شروط ثقافة المجتمع الذكورية. يناقش الكتاب المعيار الأخلاقي المقلّل من النسوة، فيطرح حال بعض المجتمعات التي تقف موقفاً لا يقل عداءً تجاه المرأة، مثل المجتمع الصيني التقليدي والمجتمع الهندي الريفي، فيخلص إلى أنّ أيّاً من المجتمعين لم يذهب إلى حد التغييب البصري النهائي للمرأة عبر الحجابات والنقابات، فثقافة المجتمع الهندي أو الصيني قمعت المرأة بشكل شرس على مستوى النظرة تجاهها ومفهومها كإنسان، لكن كلا الثقافتين لم تتورّط بإقامة عمائر أو جماليات معمارية مكرسّة فقط لإخفاء النساء. صدر «العمارة الذكورية» عن دار رياض الريس اللبنانية منذ أعوام في كتاب من 213 صفحة من القطع الكبير، وهو إحدى مؤلفات الشاعر والباحث العراقي شاكر لعيبي، دكتوراه في علوم الاجتماع، ومختص في الحضارة الإسلامية، الذي يتنوّع إنتاجه الثقافي بين الشعر والفنون، آخر إصداراته كان كتاب عن تصاوير الإمام علي.

«العمارة الذكورية» ليس بحثاً تاريخياً بالمعنى العلمي، لكنه كتاب ثقافي بعدسه انثربولوجية، يتسلسل الكتاب في عشر فرضيات، فمن أنّ حجب النساء هو الإشكالية الأولى في العمارة التقليدية الأولى في أول الفرضيات، إلى الفرضية العاشرة عن التصاميم المعمارية الحديثة: تنظيرات العمارة الذكورية، بشهادات من منطقة الخليج.

يجد القارئ في هذا الكتاب الكثير من المفردات التي يندر أن يمر بها، التقاليد البصرية، فقه العمارة، الرجل البيتوتي، وعمارة الطقس الذكوري، أو حتى ضرر الكشف، وضرر الكشف ليس إلاّ أصولاً فقهية في العمارة الإسلامية، وهي كأصول تستهدف اثنين، الأول مراعاة الحياة الشخصية للجيران، والثاني هو الحجب المطلق للنساء بجميع الوسائل، وهذا الأصل الفقهي يعود لحادثة في عهد الخليفة الثاني، إذ كتب له عمرو بن العاص عن أول غرفة تبنى في الفسطاط، فطلب منه الخليفة أن يدخل الغرفة لينصب مقعداً يقيم عليه رجل ليس طويلاً ولا قصيراً، فإنْ طال الرجل «كوة الغرفة» أي نافذتها، فيجب هدمها، والهدم هنا لأنّ الكوة قد تتيح فرصة تكشف المرأة داخل هذه الغرفة. هذه الحادثة تبيّن أنّ حجب النساء لم يتوقف على الخمار الذي ترتديه المرأة خارج بيتها، بل يمتد إلى استفتاء الخليفة في طريقة البناء التي تحقق حجب النساء، فالعمارة الإسلامية الذكورية كانت تعتبر فكرة حجب المرأة هي أحد أساسات بنائها، إنها تشترط إخفاء المرأة كجسد من كل الفضاء العام حتى من كوة «نافذة» غرفتها. «العمارة الذكورية» بفهرسه المميّز من الصور التاريخية لمختلف أصناف العمارة، هو كتاب لا يتوقف على عمارة المساكن فقط، بل يقرأ المدينة الإسلامية كفضاء عام يشترط تغيبب المرأة منه، فحتى تاريخ المقاهي قد انعطف بمجرّد دخوله في المدن العربية الإسلامية، لقد حضر المقهى في مدننا بصفته عمارة الفحولة العربية، إنه عالم الرجال المحرم على النساء، إنها متعة المكان العام المحظورة بتاتاً على المرأة. في الفرضية الثالثة، يكتب المؤلف عن المشربيات، وكيف أنها إطلالة وحب للعالم من طرف واحد ذي أغراض تلصصية، والمشربيات لا زالت حية في بعض بيوت مدننا العربية، ففي خلاصة الفرضية (إنّ أي تأويل سوسيولوجي للمشربيات سيتوجّه فوراً إلى فكرة الحب من طرف واحد: من يراقب المشهد؟ لا أحد يراقبه، إنها إطلالة أحادية الجانب على العالم، وإنها حب يائس للعالم من طرف واحد، العمارة نفسها في تعبيرها «المشربي» تصير تجسيداً لإرادة اجتماعية في الإبقاء على الكائن سجين حلمه وتأملاته. الكائن الأنثوي قابع وحيداً خلف المشربيات يراقب المشهد من دون أن يلحظه أحد. في المشربيات نلتقي بفكرة «التلصص» بجميع أبعادها السايكولوجية المحض) إنها المشربيات التي تحوّلت فيما بعد إلى مشربيات متنقّلة ومتحركة، في صورة السيارات ذات الزجاج الأسود الحاجب للمرأة داخله. سيصل الكتاب إلى المساكن الجديدة وما فرضته على المجتمع من تغيير، مقابل العكس، أي ما فرضته ثقافة المجتمع التقليدية على كل شيء جديد بما فيها المساكن، فالحداثة على حد تعبير المؤلف يجري استخدامها وتأويلها لصالح اللاحداثة والمفاهيم التقليدية، ففي المدن العربية لا يمكن أن تجد بيوتاً بمنافذ زجاجية واسعة تطل على الخارج لتسمح بالتنافذ الروحي بين داخل المكان وخارجه، لأنّ هذه المنافذ وإنْ وجدت في مدننا كعمارة حداثية، سوف تغطيها الستائر السميكة لشرط الحجب التقليدي. الجدران الخارجية والأحواش الداخلية، النوافذ الضيقة والعالية، وحوائط السطوح الدقيقة في قياس ارتفاعها، باب البيت و»خوخته» والمداخل المنعطفة، كل هذا وأكثر، ليس فقط دلالات ثقافة عربية لعمارة محض ذكورية، إنها شيء من حقيقة تاريخ العمارة العربية في حجب وتغييب المرأة.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة