Culture Magazine Thursday  06/09/2012 G Issue 378
فضاءات
الخميس 19 ,شوال 1433   العدد  378
 
القص الماورائي واختراق الجدار الرابع
في «هروب البطل» لمحمد الرطيان 1-3
د. لمياء باعشن

 

تعتبر الناقدة ليندا هتشيون Linda Hutcheon أول من قدم نظرية متكاملة للقص الماورائي أو الميتافكشن وذلك في كتابها (السرد النرجسي: معضلة الميتافكشن/ Narcissistic Narrative: The Metafictional Paradox)، الصادر في عام 1980، وقد رسخت بذلك المفهوم الخاص بمصطلح الميتافيشكن الذي صكّه روبرت شولز Robert Scholes في مقالاته في مجلة «مراجعات أيوا / The Iowa Review»، ثم استخدمه ويليام جاس William H. Gass في نفس العام في كتابه (الكتابة التخييلية وشخوص الحياة / Fiction and the Figures of Life 1970).

وتعرّف هتشيون الميتافكشن بأنه «رواية عن رواية تتضمن تعليقها على سردها وهويتها»، وهي ترى أنه نوع «نرجسي لأنه يحيل إلى ذاته ويتمثلها». القص الماورائي نوع من الكتابة السردية التي تختبر أنظمتها الروائية وطرق ابتداعها والأساليب التي تم توظيفها لتشكيل واقعها الافتراضي، كما أنها ليست جنساً أدبياً، بل هي نزوع يتولد من داخل الرواية، وكالنظر في المرآة يعكس الميتافكشن إجراءات البناء التخييلي، وقد يهدمه.

ثم أصدرت الناقدة باتريشيا واو Patricia Waugh كتابها: (ما وراء القص: النظرية والتطبيق للحكي الواعي بذاته/ Metafiction: The Theory and Practice of Self-Conscious Fiction ) في عام 1984، لتعطي تعريفاً للميتافكشن بأنه «رواية تُلفت انتباه القارئ بوعي كامل إلى تكوينها المصطنع، وتُخفت وتيرة واقعية السرد وذلك لتثير الأسئلة حول العلاقة بين الرواية والحقيقة»، وبرفضها للواقعية فهي تقدم العالم أيضاً على أنه نظام مصطنع كونه سلسلة من الهياكل البنائية، مما يزيد احتمال أن «تكون التخييلية السردية هي جوهر الحياة خارج النصوص».

منذ ذلك الحين لاقت هذه التقنية السردية ترحيباً في الأوساط الأدبية والنقدية وأصبحت موضوعاً رئيساً في بحوث السرديات. وقد تزامن ظهور هذا الشكل السردي مع المحاولات النقدية المعاصرة لتحديد ملامح السرد ما بعد الحداثي والابتعاد عن الأشكال الأدبية المستهلكة وتوظيفها المتكرر. وظل السرد التخييلي الواعي بذاته والمتأمل في بنيته الخاصة ملمحاً حيوياً من ملامح الأدب، ليس فقط في مرحلة ما بعد الحداثة، بل تخطى لحظات تحول الأدب إلى بعد - ما بعد - الحداثة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين.

يقوض التحديث السردي الأشكال النمطية السائدة ويضيف مظهراً تجريبياً يتجاوز به الرواية الواقعية ويفتح آفاقاً دلالية احتمالية باستخدام الخاصية الميتاسردية لتوليد المعنى وإتاحة مستويات متعددة من التأويل. كما يرصد الخطاب الميتاسردي طرائق تكوين عوالم المتخيل السردي ويفكك قوانين الهيكلية الناظمة له من أجل كشف فوضى الوجود المعاصر وفضح زيف الوهم المهيمن على الوعي البشري، وبذلك يهدد هذا الخطاب نظام العالم الخارجي للنص ويفضح عبثيته وتشتته من خلال مساءلته الذاتية لسرديته وطبيعته التلفيقية. في خروجه عن واقعية السرد المتخيل يطرح القص الماورائي الواقع بوصفه افتراضاً وبذلك يغير العلاقة الجدلية بين الواقعي والمتخيل ويثير الشكوك في طبيعة تصوراتنا عن الحقيقة التي تتحول إلى مفهوم مشبوه لإثبات أن ليس هناك حقائق بحتة أو معاني ثابتة.

وإضافة إلى كشف اللعبة السردية وانتهاك اتفاقيات المصداقية التقليدية، فإن الكتابة الميتاسردية توظف تقنيات تجريبية مثل:

1- التدخل في النص والتطفل عليه بالتعليق بشكل سافر يزيد بناءها خلخلة وتشويشاً، و2- مخاطبة القارئ مباشرة ومن ثم يصبح المتلقي مشاركاً في بناء العملية التخييليلة، و3- ظهور المؤلف كشخصية مشاركة في الحدث السردي، و4- دخول شخصيات واقعية معروفة أو شخصيات مستعارة من أعمال أدبية مشهورة ضمن بنية المتخيل السردي.

ويقدم هذا النمط السردي نفسه بوصفه تلفيقات مختلقة تحاكي البنى الحكائية التقليدية محاكاة ساخرة، لذلك فهو عبارة عن لعبة يعتريها الغموض والتشتت، وتدخل تناقضاتها في معارضات تتحدى أسس المنطق والمسلمات اليقينية خارج النص. ولا يكتفي السرد الماورائي بكسر أفق التوقع لدى المتلقي، بل يتخطى ذلك بكسر قيود التسلسل الزمني والترابط المكاني في محاولة لتفتيت الإيهام السردي بالواقعية وإرباك عمليات التلقي العادية بتوقيف مصداقية الحدث الروائي. وبهذا يقترب ما وراء القص من أسلوب هدم الجدار الرابع في مسرح برتولت بريخت Berthold Brecht والذي يهدف إلى إزالة الحدود الفاصلة بين خشبة المسرح وجمهور الحضور ليتمكن من المشاركة الإيجابية التواصلية مع الأحداث بدلاً من الفرجة السلبية المنفصلة عنها. والجدار الرابع في المسرح هو ذلك الجدار غير المرئي والوهمي المواجه للمتفرجين المتابعين لما يجري على خشبة المسرح التي تبدو وكأنها غرفة لها ج دار خلفي وآخران على الجانبين. ويعتقد بريخت أن المشاهد هو أهم عناصر التكوين المسرحي وعليه أن يجعله مشاركاً فاعلاً في العمل بهدم إيهام الانفصال عنه.

وسأدرج هنا نصاً يمثل نمطاً للقص التجريبي الماورائي الذي يأخذ منحى سردياً مختلفاً يأتي على شكل مغامرة فنية جادة، وسنتلمس إمكاناته المختزنة كنسق علاماتي ينزع نحو الكتابة السردية التي تخرج على أعراف الجنس الأدبي المعروفة. وقد يبدو النص وكأنه تهكمي ساخر، لكنه يحتوي على العديد من تقنيات التجريب المثيرة للجدل:

«هروب البطل من النص: قصة محمد الرطيان» وعند الصفحة رقم «127» قرّرت أن أهرب من الرواية!

أعلم أنني تركت هذا «الروائي» المجنون في مأزق عظيم.. ولكن من الذي قال له أن يختارني أنا تحديداً بين أكثر من 20 مليون مواطن لأكون بطلاً لروايته التعيسة؟!

كنت أرى أن الأحداث تتجه لنهايتي، وأن الحبكة تستدعي موتي..

هل كان سيقتلني دهساً بسيارة مسرعة يقودها «كومبارس» مجهول، دوره الوحيد هو أن يدهسني؟.. أم إن عقله الروائي المريض كان سيدفعني إلى الانتحار؟!.

لا أعرف.. الذي أعرفه أنني قرّرت الهروب من صفحات الكتاب.. إلى شوارع الحياة.

كنت أعبر الشوارع بريبة.. كنت أنظر بخوف إلى كل السيارات..

«لعلّ بينها سيارة أرسلها الروائي لكي تدهسني».. حتى هذه اللحظة لا أصدق أنني هربت من النص!

عند المساء اخترت فندقا صغيرا ورخيصا لأقضي ليلتي فيه.

في الصباح صحوت على صوت قرع باب الغرفة.. فتحت الباب.. كان «الروائي» يقف أمامي.. كانت ملامحه حزينة ومرهقة.. وعيناه مشوشتان ومرتبكتان..

قال لي:

لم أنم البارحة..

! ......

قال لي كلاما كثيرا عن: قيمة أن أعيش داخل «النص».. لا خارجه.

وقال: إن الحياة كذبة.. و»النص» حقيقة.

وأقنعني: أنني حتى لو مت داخل «النص».. فإنني لا أموت!

وأضاف بخضوع: سنجد مخرجاً لنجاتك من الموت.

قلت له: إذاً نتفق على بعض التفاصيل..

قال دون تفكير: موافق.

(2)

عند الصفحة «128».. قتلني!

يكشف هذا النص عن تقنية المرآوية الذاتية بطريقة نرجسية، فالحدث المركزي يصور تقنية كتابة نص سردي له قواعده التكوينية ونظامه البنيوي الذي لا يسمح بالتغيير المفاجئ ولا بالانحراف عن خط سير الأحداث المرسومة سلفاً. الكتابة السردية مسألة حسابية دقيقة، لكل حركة موعد وسبب، ولبطل القصة فسحة زمنية يحددها كاتب العمل ولا يترك له الخيار في أن يتعداها. هذا البطل على وعي تام بدوره داخل النص ويختار أن يجابه الخطاب السردي وليس أحداث القصة، فهو يتحدى الخطة السردية وموقعه منها كما يهدد الحبكة وأبعاد مكانته البطولية فيها بخروجه منها.

lamiabaeshen@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة