Culture Magazine Thursday  06/09/2012 G Issue 378
فضاءات
الخميس 19 ,شوال 1433   العدد  378
 
النفاق الثقافي المحمود!
وائل القاسم

 

العقول الكبيرة القويّة الجريئة التي تغرّد طيور أفكارها بتميّز خارج سرب التغريد الفكري السائد والمألوف، في مجتمع يرفض ذلك النوع من التغريد، قد تكون مجبرة ومعذورة في الوقت نفسه على شيء من النفاق؛ لأنها تحتاجه أكثر مما تحتاجه العقول الضعيفة الجامدة الخامدة الهامدة المبرمجة على طريقة التفكير الواحد.

أيها الإقصائيون، أيها المتطرفون المبرمجون.. يا من نصبتم أنفسكم قضاة للضمائر في محاكم الرأي والتعبير دون وجه حق.. أنتم تبذلون كل ما بوسعكم لمنعنا من أن نقول لكم: إننا لا نستطيع الاقتناع بما تريدون إقناعنا به، وتطالبوننا -في الوقت نفسه- بقول ذلك والجهر به، حتى لا نكون كذابين منافقين، وتشنون علينا الحروب الشعواء لو قلناه أو كتبناه!!

إن محاربة النفاق تقتضي بالضرورة حث الناس على التصريح بكل قناعاتهم ومعتقداتهم وتستلزم إلزامهم بتمزيق جميع الأقنعة الفكرية التي يلبسونها، فهل هذا ممكن؟!

نعم، إنه ممكن جداً في المجتمعات المدنية الراقية المتحضّرة، التي لا يشكل فيها الاختلاف في وجهات النظر مشكلة، ولا يفسد للود قضية عند أفرادها الأسوياء عامة، وعند المثقفين منهم على وجه الخصوص، مهما بلغ حجم ذلك الاختلاف، أما في المجتمعات الأخرى كمجتمعنا فهذا مستحيل.

يقولون لنا: إياكم والنفاق.. إياكم والكذب.. احذروا الجبن.. أنتم لا تملكون الشجاعة في طرح آرائكم.. كونوا صادقين.. كونوا واضحين.. ثم يثورون علينا بشراسة إذا صدقنا معهم، ويغضبون منا جداً إذا صارحناهم، ويطالبون بمحاكمتنا ومعاقبتنا بأعنف أنواع العقوبات إذا كتبنا بوضوح.

ما هو المطلوب منا إذن حتى نكون أسوياء في نظركم؟ ماذا نفعل لكم؟ ماذا تريدون منا بالضبط؟

كيف نتعامل معك أيها المؤدلج المفلس؟! هل تريد منا السكوت؟ لا لن نسكت، فمن حقنا البوح بقناعاتنا، كما تبوح أنت بقناعاتك. هل تريد منا الجرأة الكاملة والوضوح التام في طرح وجهات نظرنا، لتجمعها ضدنا بكل خبث ومكر وتلاعب وخسة، ثم تطالب بموجبها بقطع ألسنتنا التي أصابتكم في مقاتل، أو أصابعنا التي كتبت ما لا تملكون القدرة على نقضه؟!

لا، لن يحدث ذلك أبداً، وسنستمر -رغم أنفك- في تمرير أفكارنا بالوسائل التي نراها مناسبة لواقع هذا المجتمع الغريب المريب، الذي يسيطر عليه الكذابون والمخادعون والمتلاعبون بالدين وغير الدين لتحقيق أرباحهم الخاصة وحماية مصالحهم الشخصية منذ عقود طويلة من الزمن دون حسيب ولا رقيب.

سنستخدم كلَّ وسيلة تحقق لنا ما نريد، مهما كانت سيئة في نظركم، فالغاية تبرر الوسيلة عندنا، وثقوا تمام الثقة أن وسائلنا مهما بلغت من الوقاحة -في نظركم- لن تكون أشد من وقاحتكم ووقاحة رموزكم العاجزين في نظرنا.

كيف تسمح لك نفسك أيها الخائف من الآخر لعجزك عن الانتصار بأفكارك الهشة الضعيفة على أفكاره القوية الصلبة المتماسكة، التي تعلم أنها قادرة على نسف كلِّ كياناتك الفكرية الكرتونية؛ كيف تسمح لك نفسك بانتقاص إنسان اكتشفت من خلال أطروحاته أنه ينافقك، وأنت تعلم أنه لو لم يكن كذلك لما كان على قيد الحياة، أو لتعرّض لأحقر وأشد أساليب الإساءة والضرر، التي لا تتوقف عند شخصه فقط، بل تمتد في غالب الأحيان، لتصل إلى عرضه وماله وأسرته، وربما دمه؟

كيف تسمح لك نفسك بذلك؟ أنت ظالم ومجرم في هذه الحالة. أنت متجرد من جميع خصال الإنسانية الحميدة إن فعلت ذلك. ليس هناك طغيان ولا وقاحة أشد من طغيانك ووقاحتك وأنت تنتقص شخصه أو تسخر منه. إن محاربة صاحب الرأي المخالف بكل الأساليب القذرة المتجاوزة لجميع الحدود، ثم منعه من النفاق أو النظر إليه بعين الازدراء إذا نافقك أو حاول منافقتك؛ إن ذلك ليس من العدل في شيء.. إنه ليس إلا القتل المتعمد -مع سبق الإصرار والترصّد- لكل معاني العدل والإنصاف والحياد.. إنه تلويث شديد أكيد لدماء جسد الثقافة الطاهر، أو الذي يفترض أن يكون طاهراً.. إنه التكسير العبثي الفوضوي المنحط، لجميع مجاديف سفن النزاهة الفكرية في بحور الحوار.

أنت تغضب من جميع أحوالي دون أن تستوعبني جيداً، أو تحاول استيعابي. أنت قليل أدب معي، رغم أني في قمة الأدب معك عند طرح أفكاري. لا أدري كيف أتعامل معك. إن واجهتك بأفكاري تجاهلتها وهاجمت شخصي.. تتجاهل أدلتي الواضحة وحججي الدامغة وبيناتي القاطعة وبراهيني التي لا تملك مثلها ولا تستطيع دفعها، وترفع أقذر وأفتك أسلحتك ضد جسدي واسمي ومالي وأهلي وتقتحم -بكلِّ دناءة- كلَّ خصوصياتي التي لا يحق لك الاقتراب منها فضلا عن اقتحامها.

وإن داهنتك وجاملتك وسايستك هرباً من شرِّك وحماقتك غضبت أيضاً، واتهمتني بالجبن والنفاق والكذب والخداع والمراوغة!!

اعلم يا هذا أن النفاق مع أمثالك ليس إلا صورة من أعظم وأشرف صور الاعتراض والرفض والاحتجاج على أساليبك المتطرفة وغباواتك وغواياتك التي لا تنتهي. إنه -أي النفاق- في هذه الحالة خلقٌ حميد كريم نبيل جميل جداً، يحق لنا الفخر به ورفع شعاره عالياً خفاقاً وممارسته في كل حين وبمختلف الطرق المتاحة دون تردّد أو خجل.

النفاق خلق قبيح مرفوض، في الساحات الفكرية المحترمة الحرة، التي تقوم على العدل والمساواة والحياد؛ أما إذا كان واقعها كواقع الساحة الفكرية السعودية، التي يراقبها الجلادون الذين يملكون القدرة على جلد من يختلف معهم في الرأي بسياط القوانين الرجعية المطبقة، فإن الحال يختلف كثيراً.. إن ارتداء قناع النفاق والكذب –أحياناً- ضرورة حتمية، وحاجة ملحة إجبارية لا مناص عنها ولا مهرب.

أوجدوا لنا مناخاً ثقافياً نقياً يتنفَّس الجميع هواءه بحرية، ويعبّرون في أجوائه العذبة العطرة عن قناعات عقولهم ومكنونات أنفسهم تحت مظلة العدالة، وفوق أرض المساواة دون خوف أو رهبة، ونعدكم أن نكون في قمة الوضوح والصدق في كل ما نقول ونكتب.

هل تستطيعون ذلك؟!

الجواب بالبنط العريض هو: (لا) لا تستطيعون ذلك.. أنتم عاجزون عن ذلك؛ لأنكم تعلمون أن الحجة الأقوى هي التي ستنتصر في مثل هذه الأجواء الفكرية العليلة، وهذا ما لا تريدونه.. بل هذا ما تخشونه وترتعد فرائصكم منه.

أنتم لا تريدون انتصار الصواب والمقنع والحق والحقيقة، ولا تريدون انتصار الأدلة الأقوى والبراهين الأوضح.. أنتم لا تريدون إلا انتصار ما تريدون.. انتصار ما يحقق لكم ما تريدون.. انتصار ما يشبع أطماعكم ويملأ جيوبكم ويحقق أهدافكم الشخصية ويحمي مصالحكم الموغلة في الشهوات.. أنتم لا تهتمون بشيء.. لا تهتمون بأي شيء، إلا بقاء المجتمع على الحالة التي تريدون، حتى تستمر سيطرتكم عليه، وعبثكم بعقول أفراده وحشوها بما تختارونه من الأفكار، وتوجيه تلك العقول -بعد الحشو- كما تريدون إلى ما تريدون.

نعم، أنتم تسعون للغلبة بأي ثمن، مهما كان ذلك الثمن.. حتى لو كان الثمن هو الهروب من الحق إلى الباطل الذي توهمون الناس أنه حق!!

يجب أن تعلموا أن المثقّف الناضج هو من يملك القدرة على الانصياع للحجة الأقوى، والتراجع عن أيِّ رأي أو موقفٍ فكريٍّ يتّضح له -من خلال حواره مع خصومه- بطلانه.

هو المثقف الذي لا يمنع خصمه من الحديث عن أي شيء، ولا عن إيراد أي برهان.. المثقف الحقيقي الناضج هو الذي يردّ على البينة بالبينة وعلى الحجة بالحجة.

إن المثقف النزيه لا يجمع من كلام خصومه ما يدينهم في جهة إعلامية أو محكمة معينة متحيزة لتوجهه ومسلكه، ثم يتقدم للشكوى ضدهم، بعد أن عجز عن الدحض والتفنيد!

فهل يستطيع الواحد منكم أيها الرجعيون المتطرفون أن يكون كذلك؟

هل يستطيع الواحد منكم أن يكون مثقفاً حقيقياً ناضجاً نزيهاً واعياً واثقاُ من نفسه ومعتقداته؟!

هل يستطيع الواحد منكم أن يقبل الحوار مع الآخر دون أي قيود أو حدود أو تربص أو تهديد أو وعيد، أو أي أساليب ملتوية أخرى؟!

هذا مستحيل مستحيل مستحيل.. أعطوني قراراً رسمياً أو وعداً علنياً من أهل الحل والعقد في الإعلام والقضاء، يضمن للإنسان حرية التعبير عن قناعاته الفكرية ومعتقداته الشخصية بكل وضوح دون أن يتعرض لأذى.. دون أن يتعرض لأي نوع من الأذى، مهما كانت قناعاته ومهما بلغت جرأته في الحديث عنها.

أعطوني وعداً جاداً صادقاً بذلك، ثم حددوا المكان والزمان المناسبين للحوارات والمناظرات، وستجدون المئات بل الآلاف من حملة القناعات القوية المستترة المتوارية المضادة لقناعاتكم الهشة الضعيفة المعلنة؛ ستجدونهم يقفون أمامكم وقفة الواثقين من أفكارهم وأنفسهم، وستعلمون حينها حقيقتكم وحقيقة ما ترددونه من الخزعبلات والتفاهات التي أزكمتم بروائحها العفنة أنوفنا.. ستعرفون حينها حجمكم الثقافي جيداً.

لا أخفيكم سراً أنني أنتظر منذ فترة صدور قرار إيقافي عن الكتابة في الصحف السعودية؛ إذ إن إرهاصات ذلك الإيقاف ظهرت وبانت بكل وضوح، ولذلك فقد رتّبت أموري للانتقال للكتابة في صحف خارجية إن حدث ذلك الإيقاف المتوقع يوماً ما.

لن أحزن إن حدث ذلك، بل سأفرح جداً؛ لأنه شهادة نجاح وتفوق وانتصار. لقد اعتدت على منع كثير من مقالاتي، والتغيير والتعديل في بعضها قبل النشر، منذ أن كنت كاتباً في «البلاد» وغيرها من الصحف الورقية والالكترونية، وحتى اليوم.

أنا لا ألوم من يقوم بذلك؛ لأني أعلم أنه لا يستطيع أن لا يقوم بذلك.. لا يملك إلا أن يتقن القيام بذلك على أكمل وجه إذا طٌلب منه ذلك؛ لأنه لن يستمر في عمله لو امتنع عن القيام بذلك معي ومع غيري، بل قد لا يستمر منبره الإعلامي أيضاً.

أنا لا ألومه هو.. أنا ألوم من أوصله إلى هذه المرحلة.. ألوم من أجبره على هذا المسلك وعلى هذه الطريقة الجائرة في التعامل.

إن تكبيل قلم الكاتب بمنع مقالاته تارة، والتلاعب بها تارة أخرى، وإيقافه عن الكتابة تارة ثالثة، لا يعني إلا انتصاره الباهر على من قيده وعمل على كتم أنفاسه واجتهد في تجفيف مداده وإسكات صوته، ذعراً منه وه رباً من أفكاره التي لا يملك لها صدّا ولا ردّا.. وكذلك تهديده بالعقوبة الفلانية أو الإجراء الفلاني، إن تكلم في الموضوع الفلاني أو القضية الفلانية.

يحق للإنسان في جميع دول العالم الحوار مع المختلفين معه بكل أريحية وحرية، فوق أرض الحياد وتحت سقف الاحترام المتبادل، فلماذا لا تكون بلادنا كذلك؟ لماذا لا يكون مجتمعنا بهذه الصورة المشرقة النظيفة البهيّة، لعله يلحق ولو بآخر مقصورة من مقصورات قطار الحضارة والتقدم والرقي؟!

إنني أوجه هذا الكلام لكل مسؤول في الجهات الإعلامية والقضائية والثقافية والفكرية المختلفة.. إنني أقول ذلك بكل حرقة، فقد مللنا من النفاق الاضطراري والكذب الضروري الذي تجبروننا عليه.

وأختم بما يجب أن أختم به فأقول: الواثق من نفسه وفكره ومنهجه، لا يخشى الصوت الآخر أبداً.. لا يهدده.. لا يتوعّده.. لا يتربّص به.. لا يجتهد في إزهاق روح صوته.. لا يتهجم على شخصه.. لا يسعى للإضرار به.. إن العاجز المفلس المرتبك المذعور المدرك لسخف قناعته وضعف براهينه البالية التي أكل عليها الدهر وشرب، هو من يقوم بتلك التصرفات الصبيانية المخجلة، التي يتملص بها عن المواجهة من جهة، ويجبر خصمه بها على لبس ثوب النفاق الثقافي الضروري المحمود في مثل هذا الموقف.

إن النفاقَ الذي يستطيع الإنسان من خلاله التعبير عن مكنونات عقله وتمرير أفكاره بطريقة تضمن له استمراره في تقديم رسالته، وسلامة دمه وماله وعرضه، شرفٌ ما بعده شرف، وشموخ ليس فوقه شموخ، وكذلك الكذب الذي يضطر إليه التنويريون اضطراراً في المجتمعات المظلمة التي لا يمكن أن يصلها النور إلا من خلال أساليب المراوغة القائمة على قاعدة ميكافيلي العظيم التي تقول: الغاية تبرر الوسيلة.

أنا مقتنع جداً بذلك، ولا أخجل من الحديث عن هذه القناعة والتصريح بها في كل مكان، وإعلانها أمام الجميع، والجهر بها بأعلى صوت؛ لأني أعيش في مجتمع مظلم منغلق متوحّش، لا يمكن أن يتعامل أمثالي مع غالب أفراده إلا بمثل هذه الطرق. وأقسم لكم في الختام -بكل مقدساتكم- إنني أعرف العشرات من المنافقين الكذابين الشرفاء العظماء في الساحة الثقافية السعودية.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة