Culture Magazine Thursday  06/09/2012 G Issue 378
فضاءات
الخميس 19 ,شوال 1433   العدد  378
 
في «خبوب» أمريكا المحافظة
عبدالله العودة

 

في جولة سياحية على مناطق مختلفة من ولاية «بنسلفانيا» في أمريكا.. كنت أتلهف لمعرفة تلك المجموعة الدينية المحافظة المسماة بالآميش «Amish» التي تتوزع في أماكن مختلفة من أمريكا ، وتتكثف في هذه الولاية وبمدينة «لانكستر» بالخصوص.. هذه المجموعة التي لطالما شبهوها بتلك المجموعة الدينية الأخرى من بقايا «إخوان من طاع الله» فكرياً في خبوب بريدة «أريافها». في أدبيات المجموعتين فكرياً وعقدياً..هناك اختلاف جذري عقدياً بين مجموعة مسيحية عانت ظروف الاضطهاد الديني والسياسي في أوربا وبين مجموعة مسلمة عانت ظروفاً مختلفة قادت لتأسيسها واختارت شكلاً من أشكال الرفض السلمي (أو هكذا بدت لعدة عقود) والاغتراب عن «مجتمع فاسد دينياً وسياسياً».. وبرغم هذا الاختلاف في العقيدة إلا أن الظروف الاجتماعية والموقف من المجتمع العام ومن أدوات التقنية ومن التعامل مع «المدارس» الرسمية ومن الحياة العصرية بدا بالفعل متشابهاً إلى حد غريب.

ومن أغرب أوجه التشابه بين هذين المجموعتين.. هو تلك الصفة التي تتصف بها أكثر الجماعات محافظة دينية في كونها تجهز كل فترة لانشقاق ديني داخل هذه المدرسة المحافظة وتكثر انشقاقاتها وفروعها بل ربما اختصمت بشكل شرس داخل مدارسها ولبثت سنين طويلة تشغب على نفسها وفرقها الصغيرة وتمتلئ أدبياتها بالردود على انشقاقاتها وفروعها وفرقها الصغيرة في شغل شاغل عن هذا العالم الصاخب بكل شيء من حولهم.

طائفة الآميش هي بالأصل فرقة من «مينونايتس» المشكّلة في سويسرا في القرن السابع عشر الهجري حين بدأت تزايد في المحافظة على فرقتها الأم.. وحتى داخل الآميش كل فترة أو كلما مر حدث يمس الفرقة تتفرق على نفسها شعباً وطوائف حتى أن حدثاً نوعياً مرّ بالآميش في القرن التاسع عشر حين قبلوا فكرة الاجتماع بمؤتمر خاص بهم يجمع أشتاتهم فكانت فكرة المؤتمر نفسها محل جدل منعت الأكثر محافظة من الحضور ودفعته لشن حملة داخلية ضد هذه الفكرة فتأسست بعدها أكثر من فرقة داخل الآميش.. وهكذا ما كان يحصل بالتحديد في «خبوب بريدة» فأتذكر الشيخ عبدالكريم الحميد حينما زرته أكثر من مرة في بيته ومسجده كيف كان يجهز ردوده الكثيرة وكيف أن «أهل الوقت» يشغبون عليه..

وهو لا يصنف نفسه من «أهل الوقت» فأهل الوقت هم أهل هذا العصر بكافة أشكالهم وأفكارهم وطوائفهم ومشاربهم. ومع كل ذلك فقد كان هو بنفسه يشكل انشقاقاً على المدرسة التقليدية للإخوان في الخبوب وغيرها الذين يتفاوتون في قبولهم للمدارس أو تعاملهم مع التقنية.. كما تتفاوت مجموعات الآميش نفسها في هذه الموضوعات أيضاً.. لكنهم يتفقون دائماً في الإعداد النفسي لاشعورياً للانشقاق الدوري، والولع بالردود على المخالفين والمنشقين، والانشغال بالفروقات الداخلية عن العيش داخل المجتمع ومعرفة مشاكله العامة.

عبدالكريم الحميد والإخوان القريبون منه لهم موقف قريب جداً من أكثر مجموعات الآميش في التعامل مع التقنية والسيارات والمدارس الحكومية والتصوير الأصوات الصاخبة بما فيها الموسيقى طبعاً وغيرها.. فهم جميعاً يحرمون تصوير ذوات الأرواح (وبرغمعدم استعمال هذه المفردة إلا أن حتى الآميش يحرموت تصوير الحيوانات وليس الإنسان فقط وكل ما يحمل روحاً) ويحرمون استعمال الكهرباء ويرفضون دخول الهاتف والتلفاز والفاكس والجوال وكل التقنية الحديثة.. كما يرفضون استعمال السيارات.. ويلتزمون زياً محافظاً وساتراً للنساء والرجال أيضاً.

ويشتركون أيضاً جميعاً في رفضهم التعامل مع كل منتجات الدولة الحديثة فهم يشكلون مدارس خاصة بهم لإتاحة بديل عن المدارس الحكومية التي يرفضونها، ويستعملون الخيول والعربات كبديل عن السيارات وأدوات النقل الحديثة بالعموم، ولذلك فإن الوضع القانوني للآميش كان يشكل مأزقاً قانونياً في أمريكا حتى قبلت الحكومة الأمريكية بعدم إلزام الآميش بدفع الضرائب لأنهم لا يستفيدون من تسهيلات الدولة ومرافقها.

وأتذكر جيداً في بيت الشيخ عبدالكريم الحميد قبل أكثر من عشر سنوات وفي مشهد طريف مع أصدقاء حينما أدخلنا بيته الخاص (ونادراً ما يفعل) مشترطاً أن لا نحمل أياً من «الخوارق الشيطانية» كما أسماها وهي الجوال والبيجر -حينها- وأشباهها.. فدخلنا على هذا الأساس إلا أن أحد الأصدقاء الذي لم يلتزم بالشرط هرّب جهاز «بيجر» في جواله حتى إذا حسن الحديث رنّ بيجر صاحبنا فقامت قيامة الشيخ عبدالكريم وطرد صاحبنا وبدأ يلعن هذه الخوارق الشيطانية الخبيثة ومنتجات الكفرة.

وفي «لانكستر»- بنسلفانيا، أستحضر هذا الموقف ونحن ندخل بيتاً للآميش شارطين عدم إيذائهم بالتصوير والأدوات الحديثة في مشهد يذكر بتوافقات النفس الإنسانية وقربها من بعضها حتى لو كانت في أصقاع مختلفة من الأرض.. حيث الدوافع النفسية والاجتماعية والسياسية تجمع الشتيتين.

وكالعادة في هذه المجموعات المحافظة جداً كالآميش في «لانكستر» وإخوان من طاع الله في «الخبيبية»-إحدى أرياف بريدة.. تزداد العلاقات الاجتماعية أهمية وحميمية..

ويقترب الجميع من حياة الزراعة والاعتماد على الأعمال اليدوية لإيجاد بديل للعيش عن فكرة الوظيفة الرسمية أو التعامل مع الأدوات الحديثة.. وفي داخل هذه المجموعات يكثر معرفة الناس ببعضهم وحرص بعضهم على بعض وحتى وصايتهم على بعض فمن يخالفقواعد المجموعة يصبح منشقاً مخالفاً ضالاً.. يتم طرده ، وهذا السلوك دائماً ما يستفز الأشخاص الذين يحملون بذرة الاستقلال والطموح على التمرد الشرس والكفر بقيم المجموعة وتحديها.. وهذا ما يحصل دائماً.. فالروائية «كيت لويد» كتبت رواية عن مغادرة الآميش والتمرد عليهم والتصالح مع المجتمع العام عنوانها «Leaving Lancaster» في طريقة مشابهة لتلك التي تحدث عنها الكاتب منصور النقيدان في كتاباته عن «إخوان من طاع الله» في الخبيبية وعبدالكريم الحميد.

قد تكون المحافظة بهذا الشكل ورفض الأدوات الحديثة وقطع العلاقة مع منتجات الدولة الحديثة والاغتراب الكلي فكرياً وسلوكياً عن المجتمع شكلاً من أشكال الاعتراض النفسي الذي يستعمل مقولات وأدبيات دينية لرفض الاعتراف بسيطرة هذه المنتجات الحديثة ورفض سيطرة آليات الدولة الحديثة.. فمشكلة الآميش وإخوان الخبيبية ليس وجود فكرة المدارس..بل المدارس الرسمية التي تحمل أثقالاً ثقافية وفكرية ودينية معها وسيطرتها على منتج التعليم وأدواته.. فكان هذا نوعاً من المقاومة ورفض الاستسلام للثقافة السائدة المسيطرة.

وأخيراً.. لا تزال كل المجموعات «المحافظة جداً» حاضرة وموجودة في بلاد كثيرة تشترك في أشياء عديدة وتجمعها ظروف نفسية وسلوكية واجتماعية كثيرة وقد تفرقها أشياء أخرى، ولكنها مع كل ذلك يسمح لها بالعيش، ويتاح لها حرية الاختيار.. وتكون معلماً من معالم المنطقة ومجالاً رحباً للدراسة والبحث والمعرفة.. أو هكذا ينبغي أن تكون.

abdalodah@gmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة