Culture Magazine Thursday  06/12/2012 G Issue 388
الملف
الخميس 22 ,محرم 1434   العدد  388
 
ســــادن العربيّة
اقتباسات مــــــــــن أفكاره
عبد الرحمن الشبيلي

 

عن استخداماتها في اللغة المحكيّة وفي الحياة العامة، وفي التعليم وفي الاقتصاد، وهو في اجتهاده هذا لا يتنطّع في استخدامها، ولا يُعجِز سامعيه بغريب الألفاظ الفصحى، هذا فضلاً عن كونه مرجعاً في أصولها واشتقاقاتها وإعرابها. وإن اختيار مركز حمد الجاسر الثقافي له لخلافة مؤسسها الراحل في رئاسة تحرير مجلته الأثيرة لديه «مجلة العرب» -وهي التي عرفت بعنايتها بلغة العرب وآدابهم وتراثهم - لم يأت من فراغ، بل إن رئاسته للجنة العلمية التي تنظر في سياسة النشر في المركز، وتحدّد المطبوعات الجديرة بالنشر والإصدار من قِبل دار اليمامة للتأليف والترجمة والنشر، قد ضَمِنَ للدار أن تسير على خطى العلّامة المؤسس، وأن تنفّذ مقاصده في إنشائها فبل نحو خمسين عاماً. د. الضبيب، الذي يُعدّ اليوم أحد أبرز علماء العربية في هذه الجزيرة، وأحد ممثلي هذه البلاد في المجامع العلمية والعربية في العالم العربي، هو واحد ممن نفخر بسجلّهم في الدفاع عن اللغة، وكم نتمنّى أن نراه قريباً على سدٌة مجمع اللغة العربية الذي ظلّت بلادنا تترقّب إنشاءه منذ أعوام. ما يميّز جهود أبي عمرو في صون العربية - من طغيان الرطانة والعجمة ومن استحداث لغة جديدة بين الشباب خاصةٍ بالتواصل عبر الجوّال بدأت تكتسح حياتنا العامة - أنه يصدع برأيه في وسائل النشر والمنتديات، في كل مرة يحس فيها أن اللغة العربية تتعرّض للغزو في عقر جزيرتها وموطنها الأصل، فجاهد عبر مقالاته ومحاضراته ومؤلفاته بكل ما قَدِر عليه من وسائل المرافعة والإقناع، بضرورة أن تكون اللغة العربية في مهدها فوق كل اللغات منذ الصغر و في التعليم العام والعالي وفي الاستخدامات العلمية، دون أن يصادر حقّ من يريد تعلّمَ لغات رديفة أخرى وإجادتها بعد لغته الأم. ويمكن القول بشكل عام : إن جلّ كتابات الدكتور الضبيب في العَقدين الماضيين تدور حول هذا المحور وتلتقي عنده، فلقد حصرت العشرات من المقالات التي كتبها، و العديد من المحاضرات التي ألقاها في المحافل والصالونات المحلية والعربية، وستأتي هذه النقولات والاقتباسات على نموذجين فقط من كتاباته، كي تتبيّن المرتكزات التي ينطلق منها : في عام 2001 م، أصدر كتابه الموسوم : اللغة العربية في عالم العولمة، وفيه جملةً من الأفكار التي كتبها منافحاً فيها عن شرف اللغة العربية، ومطالباً بإحلالها المكانة التي أحلها بها القرآن الكريم، وفي عرضٍ وافٍ عن هذا الكتاب في المجلة العربية، ظهر في ذلك العام، أستخلص الفقرات التالية:

«أضحت اللغة العربية في مواجهة العولمة هماً مؤرِّقاً يشغل بال الغيورين على اللغة والثقافة والهويّة الحضارية للأمة العربية.. ويأتي هذا الشعور من الإدراك الواعي بجسامة التحدٌيات التي يحملها الزحف العولمي وخطورتها على وسائل الإعلام، وعلى التعليم و سوق العمل، وعلى مستوى النُّخَب في المجتمع. وقد دفع هذا الإحساس بالخطر عديداً من الغيورين على اللغة العربية، والمهمومين بهويّة الأمة الحضارية إلى التنادي عبر الدراسات والمقالات وغيرها، وإلى دقِّ ناقوس الخطر لتنبيه المسؤولين والمثقفين والمبدعين، فضلاً عن فئات المجتمع العربي المسلم إلى الخطر الذي يتهدد اللغة التي هي مصدر الهوية ومظهرها، في ظل الزحف العولمي والتبشير بزوال الحدود الطبيعية والمعنوية، وسيادة الفلسفة الرأسمالية والثقافة الغربية». ثم يقول العرض: «إن كتاب الدكتور الضبيب (اللغة العربية في عصر العولمة) هو صرخة نذير، لعله يجد الصدى الذي يلبّي ما يحمله كتابه من حلول واقتراحات علميةٍ وعمليةٍ لحماية اللغة العربية وتطويرها، وتكريس السلوك اللغوي الفصيح للتخاطب والإبداع، والحفاظ على الهوية العربية» . «يسعى المؤلف - كما يقول العرض - إلى الخروج من الدراسات التبجيلية للغة، وتلك التي تناولتها في التراث القديم ثم أعادت إنتاجها، إلى دراسة الواقع اللغوي للفصحى في هذا العصر تمهيداً للوصول إلى نتائج تعمّق الوعي باللغة الفصحى، وتساعد على الاقتراب منها في الكتابة والحديث وتستشرف آفاقها في المستقبل». «ويحاول المؤلّف - كما تقول المجلة العربية - تعيينَ مواضع الخلل، ووضعَ بعض العلامات على طريق الاهتمام بالفصحى، لا لكونها لغةَ الدين والثقافة والتراث وعنوان الهوية وأداةَ التواصل المشتركة بين أبناء الأمة وحسب، ولكن بوصفها أداةً من أدوات الرقي التي لا غنى عنها لأمة تنشد التقدم. إن اللغة والدين هما العنصران المركزيّان لأي ثقافة أو حضارة، ومن هنا فإن أي تحد لثقافةٍ ما ينطوي على تحد للغتها، فهل تواجه العربية تحدياً من هذا النوع في عصر العولمة؟ يجيب د. الضبيب على هذا السؤال بالإيجاب، مؤكداً أن اللغة تواجه تحدياتٍ شرسةً من قِبَل قوى المصالح المادية الناجمة عن الاتصال بالأجنبي، ومن التأثير الإعلامي القائم على الصخب والضجيج والتبشير باللغة الإنجليزية على أنها اللغةُ العالمية، بينما لا يزيد عدد المتكلمين بها عن (6.7%) من بين سكان العالم». ويردد. الضبيب هذا الشعور المبالغ به بأهمية اللغة الأجنبية إلى الانبهار بكل ما هو أجنبي، وإلى الظن الزائف بأن التقدم لا يأتي إلا عن طريق إتقان اللغة الأجنبية، وهو شعور ناتج عن الهزيمة النفسية التي يعاني منها العربي، والإعجاب بصانع الحضارة الغربية الذي يمثل المنتصر والغالب في هذا العصر!! ويشرح مؤلفُ الكتاب - كما يقول عرض الكتاب - الواقعَ اللغوي بدءاً بتداول الألفاظ الأجنبية في الأوساط الاجتماعية، وعلى لافتات المحلات، وفي مراسلات الشركات والمؤسسات، واشتراطات سوق العمل عند اختيار العاملين، مؤكداً أن اشتراط إجادة اللغة الإنجليزية يقف حائلاً الآن أمام المواطن العربي في وطنه دون الحصول على لقمة العيش، ويفتح الباب على مصراعيه للأجانب ليحلوا محله، مما أوجد أزمة لغوية، ومَسَخَ لسان المواطن العربي، وامتدت آثاره إلى مجال التعليم حيث ارتفعت الأصوات تنادي بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال منذ نعومة أظفارهم، حتى وصل الأمر ببعض المدارس الآن لتعليم المواد العلمية باللغة الأجنبية. ويذكّر هذا الواقعُ الأليمُ بواقع المشرق والمغرب العربي تحت الاستعمار، وما تم من محاولات لمسخ التعليم وطمس الهوية العربية في دول المغرب العربي، وفي بعض بلدان الخليج. ويناقش الكتاب دعاوى القائلين بأهمية تعليم اللغة الإنجليزية للصفوف الأولى من التعليم العام، وتدريس العلوم بها في الجامعات، واللغة الإنجليزية وسوق العمل، و اللغة الإنجليزية والمجتمع، و اللغة الإنجليزية ومقياس التقدم. ويفنّد المؤلف دعاوى القائلين بهذا بحجج منطقية ودلائل علمية بل وتجارب واقعية ناجحة، ويضرب المثل هنا بمصر التي احتفظت بلغتها العربية بفضل يقظة أبنائها المخلصين، وحققت كثيراً من التقدم يفوق عديداً من الدول الأفريقية التي خلف فيها المستعمر لغته. وعلى المستوى العالمي، يضرب المثل باليابان التي حققت نهضة علمية عجيبة، على الرغم من الضعف الشامل الذي تعانيه اللغة الإنجليزية بين اليابانيين، ومعنى هذا أن اللغة الأجنبية لم تكن عاملاً رئيساً في نهضة اليابان الحضارية. لقد أدّى تهميش اللغة الفصحى في حياتنا إلى التخلف الفكري والعلمي، وهي التي كانت على مر العصور وسيلة الإدراك والنقل للآداب والعلوم المختلفة، وعندما هُمّشت في حياتنا تراجعت قدراتنا الثقافية والعلمية، وتضاءلت لدينا القدرة على الابتكار والإبداع. ولكي يتم تفعيل اللغة الفصحى من جديد لتأخذ مكانها الطبيعي في المشروع النهضوي، يقترح د. الضبيب وسائل ثلاث: 1- بث الوعي بين الناس بأهمية الفصحى وإحيائها بين الكتّاب والمحدثين.

2- إصدار القرارات السياسية الضرورية التي تحفظ للغة مكانتها في المجتمع وتجعلها فاعلة فيه. 3ــ توجيه الاهتمام نحو الدراسات المنظمة والمستوعبة والمنهجية لدراسة واقع اللغة العربية، ومعرفة المزاج اللغوي العربي المعاصر، واستخلاص القواعد التي تخدم الاستعمالات الفصحى المعاصرة. ويضع د. الضبيب مسؤولية كبرى على الإعلام العربي بمستوياته وأجهزته ومسؤوليه، ويطالبه بتعزيز مكانة اللغة الفصحى في النفوس، كونها لغة المستقبل، وبإفساح مزيد من الوقت للفصحى وتقديمها في ثوب قشيب يغري على متابعتها، ورصد الأموال للترويج إعلامياً للفصحى والتعريف بها، وبإصدار التشريعات والأنظمة التي تحمي اللغة وتصونها من مزاحمة اللغات الأجنبية لها. ويقول د. الضبيب: إن الحديث عن اللغة الأجنبية لا يعني عدم فائدتها، ولا يعني الدعوة إلى الانعزال، وإنما توظيفها بما يناسب حاجة المجتمع، ويضيف أن أجواء العولمة المنفتحة يمكن أن تعين على إيجاد وسائل وآليات لصالح اللغة، كما يمكنها أن تفيد من الثورة المعلوماتية وبحوث تعريب الحواسب ومستجدات الترجمة الآلية، ويعتقد أن كل المؤشرات تشير إلى أن المستقبل للغة العربية، التي جعلها الله وعاءً لكلمته الباقية إلى يوم الدين {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، وهنا يقدم د. الضبيب بشرىً تقول إن دراسة أجريت في اليابان على اللغات العالمية تستهدف معرفة أكثرها وضوحاً صوتياً في استخدامات الحاسب الآلي، فأثبتت أن العربية تتصدر هذه اللغات من هذه الناحية «...... انتهى عرض المجلة العربية.

وفي العدد 65 من مجلة المعرفة الصادر عام 2009 م، ظهر حوارٌ موسّع مع الدكتور الضبيب، نقتطف منه الفقرات التالية: «لست أظن، فيما يخص القول بأن اللغة العربية لن تقوى ويصبح لها فعالية حضارية إلا بقوة أهلها، أن هنالك تلازماً بين قوة اللغة وبين فعاليتها في التأثير الحضاري، اللغة يمكن أن تكون قوية في بيئتها وليس لها ذلك التأثير الحضاري خارج حدودها، اللغة العربية مثلاً كانت قوية في العصر الجاهلي في بيئتها لكنها لم تكن ذات تأثير حضاري على العالم، الفرعونية القديمة كانت قوية في بيئتها ولم يكن لها تأثير حضاري على غيرها، المشاهد في هذا العصر أن اللغة اليابانية قوية جداً في بيئتها وليس لها إشعاع حضاري خارج إقليمها، ولو بحثت عن كلمة يابانية في اللغة العربية لما وجدت ذلك (إذا استثنينا أسماء السيارات والأجهزة اليابانية وهي أسماء لعلامات تجارية، وليس لها دور في الاستعمال اللغوي خارجٌ عما وضعت له). نعم؛ إذا قويت الأمة، وسيطرت عسكريـاً أو ثقافياً على بيئات واسعة كانت أو ضيقة فإنهـا في هذه الحالة يكون لها تأثير حضاري، في عصر شكسبير كان المتحدثون باللغة الإنجليزية لا يتعدى عددهم خمسة ملايين نسمة، وكانت هذه اللغة محصورة فيما يسمى بإنجلاند وجنوب اسكتلاندا فقط، ولم تكن دخلت إلى مقاطعة ويلز ولا إلى جزيرة أيرلندا (فيما يسمى بريطانيا الآن)، أما في أوروبا فلم يكن لها وجود بالمرة، ومع ذلك فقد كتبت بها أروع أعمال الإنجليز، وهي أعمال شكسبير، فهل كانت اللغة ضعيفة في بيئتها؟ لا.. وإنما كانت محدودة الانتشار، ولقوتها في بيئتها استطاعت أن تستوعب العلوم والآداب وأن يبدع أهلها بها، اللغة الفرنسية في القرن الثامن عشر كانت أقوى تأثيراً من الإنجليزية، فقد كانت لغة الثقافة والفنون ولم تستطع الإنجليزية منافستها في أوروبا على الرغم من بداية القوة البريطانية في هذا العصر واتساع نفوذ الإنجليز السياسي والعسكري، اللغة القوية في مجتمعها (وهذا ما نريده للعربية) هي التي تنقل هذا المجتمع من التخلف إلى التقدم، وتساعد على اتساع نطاق العلوم والثقافة في المجتمع، أما اللغة الأجنبية فإن الاعتماد عليها وإضعاف اللغة الأم يؤدي بهذا المجتمع إلى التبعية العلمية والفكرية، وليس وراء التبعية إلا القضاء على الهوية، ومسخ الشخصية، واستمرار الضعف والتخلف». ثم يقول د. الضبيب في الحوار: «اللغة الأجنبية سلاح ذو حدين: إما أن تتعامل معها بحذر بحيث لا تطغى على لغتك الأم، وبحيث تتخذها وسيلة لإغناء هذه اللغة من خلال الترجمة، وإشاعة العلوم والمعارف المستقاة من هذه اللغة باللغة العربية بين أبناء أمتك، وحينئذ تكون قد خدمت نفسك وأمتك ووضعت هذه الأمة على عتبات التقدم، وإما أن تفرض اللغة الأجنبية على الجميع في التدريس والحديث والكتابة، وحينئذ تعزل لغتك عن معترك العلوم والتقنية، وتعزل أمتك أيضاً، وتصبح تابعاً تتلقى ما يقذف به إليك الغرب من منتجات دون أن تكون لك إسهامات تنسب إلى أمتك أو تفيدها في الحياة، أن تدرس وتكتب وتتحدث باللغة الأجنبية معناه أن تتحول إلى (خواجة) غير معترف به من الخواجات أنفسهم، كما أن إسهاماتك كلها تنسب لهم (وهذا ما حدث بالنسبة للنابغين العرب الذين نبغوا في الغرب) فكل إسهاماتهم لم يستفد منها إلا المؤسسات والشركات الغربية، وبالتالي عدت هذه الإنجازاتُ إنجازاتٍ غربيةً» . «إن تبنّي اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأخرى فى كل مجالات الحياة هو بمنزلة الانتحار الذي تقدم عليه الشعوب المتخلفة دون أن تدري، ويكفي أن تعلم أن كثيراً من الشعوب في إفريقيا وغيرها سادت فيها اللغات الأجنبية وأصبحت لغاتها الرسمية، التي تتحدث بها، وتكتب بها، ظناً منها أنها ستكون جزءاً من هذه الأمة المتقدمة أو تلك، ولكنها لم تحصد سوى التخلف والبؤس والفرقة، بين تابعين لتلك الأمم لا يستطيعون فكاكاً منها، وبين محافظين على الهوية والشخصية» «ما حدث في كل الحضارات القديمة والمعاصرة أن اللغة الأجنبية قد تصدى لمعرفتها بعض العلماء والتراجمة الذين نقلوا ما فيها إلى اللغة الأم، ثم نشروا العلوم باللغة الأم بين قومهم المحتفظين بلغتهم والمعتزين بها، ومن خلال هذه العملية انتشر العلم في مجتمعاتهم واتسعت آفاقه، واستطاعوا بعد ذلك الابتكار، والنقص والإضافة، إلى هذا العلم أو ذاك، وإذا أردت الدليل فانظر إلى تاريخ الحضارة الغربية المعاصرة، وإلى ما وصلت إليه اليابان الحديثة من تقدم تجد أن طريق الترجمة وتوطين العلوم باللغة الأم كان هو الطريق الوحيد نحو النهضة». «إن ضعف اللغة العربية في الوقت الراهن يعود بالدرجة الأولى إلى أبنائها الذين تنكروا لها وضيّقوا أمامها سبل الحياة، ثم كان الاستعمار الخارجي سبباً في ضعف اللغة ومحاولة إلغائها من حياة العرب في البلدان التي استولى عليها، وكانت المقاومة شديدة في ذلك الوقت لإدراك الجميع أن الاستعمار إنما يريد ربط هذه البلدان بقومه وثقافته لتثبيت أقدامه». «وفي استفتاء أجرته مجلة الهلال سنة 1920م عن مستقبل اللغة العربية بين مجموعة من المثقفين كان كثير منهم يرى أن انقشاع الاستعمار سيساعد على ازدهار اللغة العربية، وكانوا يتطلعون إلى اليوم الذي تقوم فيه الحكومات الوطنية فتمكن للغة الأم، لكن المؤسف أن ما حدث هو العكس فقد رحل الاستعمار ولكنه خلف من بعض أبناء هذه البلدان من هم أشد عداء للغة العربية من المستعمرين، إما جهلاً بأهمية اللغة في النهضة، وإما رغبة في الحصول على مكاسب وقتية في الشركات والمؤسسات الأجنبية التي انتشرت في البلاد العربية، وإما بسبب العمى الحضاري الذي يصيب التبعيين ويجعلهم لا يرون الدنيا إلا من خلال عيون سادتهم الأجانب». « إن اعتراف كثير من التربويين اللغويين بالإخفاق في تعليم اللغة العربية علامة صحة، ودليل على التوجه الرشيد نحو حل هذه المشكلة، الحقيقة أن تعليم اللغة العربية في مدارسنا ومعاهدنا يجري ضمن ظروف غير مواتية للنجاح، نحن أولاً أخفقنا في تحديد فلسفة تعليمنا للغة، لمن نعلمها وعلى أي الأسس، ليس لدينا دراسات تبين القدر الذي نحتاج إليه من النحو بناء على مزاجنا اللغوي المعاصر، أو احتياجنا من القواعد النحوية في مجالات الحياة المختلفة». «مازلنا نخلط بين حاجة المتخصص وحاجة المتعلم العادي الذي يريد أن يعصم لسانه ويده من الخطأ، ركزنا على حشد أكبر كمية من القواعد وحشو أدمغة التلاميذ بها دون النظر إلى مدى احتياجهم إليها» . «كان الإمام ابن حزم، يرى أن تعليم النحو يجب أن يكون كالملح في الطعام، بناء على ذلك كان علينا أن نهتم بالطعام وهو مادة اللغة، ثم نضيف إليه ما نحتاج إليه من ملح، ما حدث هو أننا اهتممنا بالملح على حساب الطعام، فأفسدنا الطعام ونفّرنا المتعلمين، اللغة السليمة لا تكتسب بكثرة القواعد المحشوة في الأذهان والمحشورة في الكتب، وإنما تكتسب بالممارسة وهي على مستويات مختلفة، هذه الممارسة هي التي تجمع ما يسمى بالمهارات اللغوية: الاستماع والحديث والاستيعاب، مع القراءة والكتابة وغيرها، أهملنا نحن هذه المهارات، فالطالب يلتقي باللغة مفرقة في كتب مختلفة، مقطعة الأوصال لا رابط بينها، ولا يكاد يلم بها بوصفها وحدة متكاملة، ثم هو لا يعطى وقتاً كافياً لممارسة هذه اللغة قراءةً وكتابةً واستماعاً وتحدثاً، هدف المدرس أن ينهي الكتاب المقرر، وأن يحفظ الطالب القواعد، ويحل الأسئلة والتمرينات، أما مقدار استفادة الطالب من ذلك كله فليس في الحسبان! كان أسلافنا القدماء يبعثون أبناءهم إلى البادية لا ليتعلموا القواعد، ويدركوا العلل النحوية، وإنما لكي يسمعوا اللغة، ويتحدثوا بها، وكان هذا يعصم ألسنتهم عن اللحن أكثر مما يفعل النحو». ثم يواصل د. الضبيب فيقول: «منذ أربع سنوات زرت روضة للأطفال أنشأها الدكتور عبدالله دنان في سورية ودهشت، لأن أطفالاً بين الرابعة والسادسة من العمر يتحدثون الفصحى بطلاقة دون أن يأخذوا حرفاً من النحو، يتحدثون العربية سليقةً وهم لا يقضون في المدرسة أكثر من ست ساعات يومياً، الوصفة السحرية لهذه الروضة أن لا يُجرَى أيُ حديث في المدرسة إلا بالفصحى، كل العاملين في المدرسة يخاطبون التلاميذ بالفصحى ولا يسمحون لهم بالكلام إلا بها». «وحديث السليقة يجرنا إلى حديث آخر وهو البيئة اللغوية التي يعيش فيها طلابنا، لاشك أن بيئتنا السائدة بيئة عامة، لكن أليس بالإمكان أن نجعل من المدرسة بيئة لغوية نظيفة، لم نستطع حتى الآن أن نعد هذه البيئة، وهي أمر مهم إذا كنا نهتم بلغة أبنائنا، كل لغات العالم تعلم ببيئات نظيفة لغوياً، غير متساهلة في اللغة المعيارية إلا اللغة العربية، فلا يعلمها إل ا عوام وأشباه بالعوام، لابد لنا إذن من أن نعمل على إعداد مدرسين في المدارس يعون هذا الهدف جيداً، ويحققون ما نصبو إليه من خلق البيئة النظيفة لغويًاً». «لست أرى تعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية لعدة أسباب منها : أن المرحلة الابتدائية هي مرحلة تأسيس بالنسبة للطفل في سنه المبكرة وهي المرحلة التي يبدأ فيها تشكل شخصيته وانتماءاته، ولذلك فإن التركيز في هذه المرحلة ينبغي أن يكون على الثوابت، وأهم الثوابت في هذه المرحلة هما الدين، واللغة العربية». «إن التعريب في التعليم الجامعي يقصد به إلقاء الدروس الخاصة بالطب والعلوم البحتة والتطبيقية على الطلاب باللغة العربية، وإعداد أو ترجمة الكتب الدراسية والأساسية بها، ومطالبة الطلاب بكتابة بحوثهم وأوراقهم الفصلية باللغة العربية، وإجراء اختباراتهم بهذه اللغة. والتعريب يجعل الطلاب أكثر استيعاباً للمادة العلمية وتمكناً منها وفهماً لها ما دامت قد قدمت لهم بلغتهم الأم، وقد أثبتت الدراسات العلمية ذلك، وإن الأمم الناهضة قد بدأت خطواتها نحو امتلاك العلم والتقنية من خلال تعليم هذه العلوم باللغة الأم، وإن دول العالم المعاصر المتقدمة والنامية التي بسبيلها للتقدم جميعها ـ إلا ما ندر ـ تدرس الطب والعلوم بلغاتها القومية، ولقد أمضى العرب ما يقارب ثمانين عاماً يدرسون هذه العلوم باللغة الأجنبية، ومع ذلك فإنهم فشلوا في امتلاك العلم والتقنية وتوطينها عن هذا الطريق، والتعريب لا يعني الانقطاع عن تعليم اللغات الأجنبية، بوصفها لغات مهمة يطل منها الطبيب والعالم والمفكر على الجديد في ميدانه، فلابد من تكثيف تعليمها بهذا المفهوم لا بمفهوم كونها لغة للتدريس. وقد ثبت فشل هذه السياسة التعليمية على مدى السنوات الثمانين السابقة ( وهي عمر التعليم الجامعي الحديث في البلاد العربية) التي علمت بها العلوم والطب من خلال اللغة الأجنبية، فلم يجن الوطن العربي أي تقدم يذكر في هذا المجال، وتكرس اعتماده في جميع فنون التقنية على الأجنبي، ولم ينتج شيئاً ذا بال ينافس به على مستوى العالم، وسبقته بلدان بدأت معه في البدايات الأولى، وشعوب هي أقل منه عدداً وأحدث منه حضارة.

ويواصل الدكتور الضبيب دفاعه عن اللغة العربية في هذا الحوار بالقول : القرار في التعريب ليس قراراً تعليمياً ثقافياً، فقد قال المختصون رأيهم بضرورة التعريب، كما قال الوزراء والمسؤولون رأيهم في المسألة، ولم يبق إلا دعم هذا الرأي بالقرار السياسي الحاسم الذي يعيد للغة سيادتها في بلادها، ويقدر الأمة على المشاركة الجادة في الحضارة المعاصرة، ويخرجها من التبعية العلمية والثقافية الذليلة.اللغة العربية وسوق العمل. إن أهل هذه البلاد عرب مسلمون، وهم الغالبية العظمى الذين ينبغي أن تراعى أحوالهم في هذا المجال، و اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، ومن هنا فإن لها السيادة في جميع المواقع ولا يجب أن يزاحمها في هذه المواقع أي لغة، وإن وجود الأجانب عندنا يفترض أن يكون مؤقتاً، ولذلك فإننا لا يمكن أن نشكل حياتنا في بلادنا على هوى هؤلاء الأجانب، بل الواجب أن يشكلوا هم حياتهم بما يناسب وضعنا، وهذا هو الوضع الطبيعي في جميع أنحاء العالم، فالألماني لا يحادث العامل التركي في بلاده باللغة التركية أو لغة وسيطة كالإنجليزية، وإنما يحدثه بلغته الألمانية، وكذلك الفرنسي لا يتكلم مع العامل الإفريقي ببلاده باللغة الوسيطة وإنما يكلمه بلغة الدولة وهي الفرنسية، فلماذا نكون نحن بدعاً بين الأمم ونفرض على هؤلاء أن يتعلموا الإنجليزية ليتكلموا بها معنا كما نفرض على أنفسنا تعلم الإنجليزية كي نتفاهم معهم، ألست ترى معي أن هذا الوضع شاذ؟ لماذا لا تكون معرفة اللغة العربية ميزة تعطي الأفضلية للعامل الذي يلم بها كي يقدم إلى المملكة، شأننا في ذلكم شأن الدول الأخرى التي تحرص على بث لغاتها وثقافاتها في أرجاء العالم، إن في ذلك فائدةً لنا حيث يتعرّف هؤلاء على ثقافتنا ويعرفوننا على حقيقتنا ويتعاطفون مع قضايانا. ثم إن اشتراط اللغة الإنجليزية للعمل في سوق بلادنا تسبب في قفل أبواب العمل أمام شبابنا المتخرج حديثاً من الثانوية أو الجامعة، وجَعلَ الفرصَ مفتوحةً أكثر أمام الأجانب، وهذا ما لا يحدث في أي بلد يحرص على تشجيع العنصر الوطني وإحلاله مكان الغريب، قد تكون اللغة الإنجليزية مطلوبة في بعض المناصب والمهام القيادية والفنية الدقيقة، ولكنها بكل تأكيد ليست ضرورية في معظم الأعمال التي تجري في السوق. ويختم د. الضبيب دفاعه عن سيادة اللغة العربية في هذا الحوار بالقول : « إنني لست ضد تعلم أي لغة أجنبية، ولا أشك في جدوى تعلم اللغات، ولكني أطالب بتنظيم العلاقة بيننا وبين هذه اللغات بحيث لا تطغى على لغة ديننا وقوميتنا، وهي اللغة التي يجب أن تكون لها السيادة في الوطن، والواقع أن تشجيع العامية لا يقل خطراً عن تشجيع اللغة الأجنبية، فأي موقع تطرد منه الفصحى لتحله إحداهما بدلها يعد انهزاماً للفصحى، وبالتالي يشكل خطراً على الثقافة العربية ويسهم في إضعاف الأمة وفقدان هويتها أو تمزيقها. وبعد ؛ هكذا يتبيٌن بعد هذه الاقتباسات الطويلة التي اكتفيت بها باتّخاذها نماذجَ من كتابات د. الضبيب بشأن صون اللغة العربية، ومن حواراته الساخنة التي يسدّ فيها المنافذ على مخالفيه في الرأي ويقارع الحُججَ بأُخرَ مُقنعة، يتبيّن مدى التزامه بهذه المدرسة التي ارتبطت في العقود الأخيرة باسمه وبشخصه، في نهج يؤيّده فيه من يؤيّد، ويختلف معه فيه من يختلف، وسيظل هؤلاء وأولئك يتمسّكون بآرائهم ومواقفهم، يحميهم أدب الاختلاف، والاحترامُ المتبادلُ بين الطرفين. تحيّة للزميل، مع احتفاء مؤسسة حمد الجاسر الخيرية به هذا العام، عَلَماً من أعلام اللغة والتراث في الوطن العزيز، وتحية إكبار للنهج الذي يسلكه للدعوة لاحترام مكانة لغة القرآن الكريم. وتحيّة لأقرانه من علماء العربية الذين يقفون على هذا الثغر المحصّن من ثغور الهويّة الدينية والقومية والحضارية للعرب والمسلمين. مدّ الله في عُمر أبي عمرو لمديد من العطاء في خدمة التراث واللغة العربية.

* د. أحمد الضبيب هو رئيس تحرير مجلة «العرب» وعضو مجمعي اللغة العربية بالقاهرة ودمشق، وعضو مؤازر في المجمع العلمي العراقي، وعضو الأكاديمية المغربية، بمناسبة تكريمه من قِبل مؤسسة حمد الجاسر الخيريّة.

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة