Culture Magazine Thursday  07/06/2012 G Issue 376
قراءات
الخميس 17 ,رجب 1433   العدد  376
 
شعراء مقلون
من شعراء الأندلس (ابن جاخ البطليوسي)
زياد حمد السبيت

 

يزخر الأدب العربي بوافر من ألوان الفنون قلما تجده في أمة من الأمم الأخرى، إذا نظرنا إلى الشعر كفن من فنون الأدب تيسر للعرب من شرقها إلى غربها وجدنا الكتب والمعاجم والموسوعات قد ملأت بأسماء الشعراء منذ االعصر الجاهلي حتى يومنا هذا. بيد أن هناك رقعة من الأرض ازدان فيها الشعر العربي حتى أصبح يضاهي أهله الأصليين على اختلاف أعراقهم فيها ألا وهي الأندلس شبه الجزيرة والتي حباها الله بنعمة حتى قال أحدهم (خص الله تعالى بلاد الأندلس من الريع، وغدق السقيا ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان ودرور الفواكة، وكثرة المياه وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية، وكثرة السلاح، وصحة الهواء وبيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك.... إلخ). ولك في كتب المتقدمين والمتأخرين من الأندلسيين وغيرهم لخير زاد ومعين لاكتشاف ذلك.

ابن جاخ البطليوسي

عندما أردت الكتابة عن ابن جاخ كانت المصادر والمراجع تحول بيني وبينه وكثيراً حاولت عبثاً أن أجد له ترجمة وافية في بطون الكتب ولكنني لم أظفر بذلك، فلا يعرف عنه سوى كنيته (ابن جاخ البطليوسي) نسبة إلى مدينة بطليوس (وهي مدينة تقع على نهر وادي آنه عند الحدود البرتغالية) وهو شاعر جيد الشعر له قصائد وأبيات جميلة وبديعة لا تقل شرفاً وجودة عن قصائد المشهورين من شعراء الأندلس كابن زيدون وولادة وغيرهما، ولا أدري لماذا أغفله ابن بسام في ذخيرته وابن خاقان في قلائده؟ على أن المقري أورد نتفاً من أخباره في نفح الطيب.

ولقد ترجم لابن جاخ الحميدي المتوفى سنة (488 هـ) في جذوة المقتبس وجعله ممن ذكر بالكنية ولم يتحقق من اسمه على أنه كان معاصراً له ولربما أخطأ حين قال ويطيل فلا نجد له قصائد طوالاً إذا استثنينا قصيدة واحدة من ثلاثة عشر بيتاً، وقد تبعه في ذلك الضبي المتوفى سنة (599هـ) الذي نقل من الحميدي حرفياً إلا أنه صحف في كلمة (الأمي) فجعلها (أسي)، إما سهواً منه أو ممن تلقفته أيادي الوراقين، وقد تكون له قصائد طويلة وعديدة ولكنها لم تدون أو ضاعت بين أيدي الرواة والمؤرخين فلم تصل إلينا كحال كثير من الشعراء.

كان ابن جاخ يعيش في مدينة بطليوس يعمل في الصباغة وهذا ينفي كلام نيكل عندما أشار إلى أنه أعمى فكيف لأعمى أن يمتهن صباغة الثياب؟.. إلا أن يكون رجلاً مستطيعاً بغيره كالمعري، وكانت بطليوس حينذاك تحت يد بني الأفطس وقد اضطرب ملكهم، فساءت أحواله وكسدت بضاعته فقرر الرحيل إلى مملكة أشبيلية، حيث العيش الرغد والحياة المستقرة عند بني عباد، وليس في إيدينا الكثير من الأخبار عنه إلا أننا نجده قد مكث في مملكة إشبيليا زمناً ليس باليسير منذ وفادته على المعتضد ومنادمته فيما بعد مع ابنه المعتمد. ولابن جاخ شعر رقيق في النسيب والوصف، عده المقري من أعاجيب الدنيا يقول ابن جاخ:

ولما وقفنا غداة النوى

وقد أسقط البين ما في يدي

رأيت الهوادج فيها البدور

عليها البراقع من عسجد

وتحت البراقع مقلوبها

تدب على ورد خد ندي

تسالم من وطئت خده

وتلدغ قلب الشجي المكمد

أيّ شاعر لا يقرأ ولا يكتب تستجيد قريحته هذا الجمال؟.. إن لم يكن شاعر مليء بالإحساس المرهف والفطرة والموهبة والذوق العربي الأخاذ، عند ذلك لا يجد عنتاً في استخراج المعاني والألفاظ التي تضع ذلك المشهد في صوره فنية رائعة تأخذك إلى أيام العذريين كالمجنون وجميل وكثير، وأنظر إلى هذا المجاز الرائع البديع عندما يقلب المصيبة إلى مدح وفخر حينما يواسي الأمير المتوكل عندما سقط من فرسه هي بلا شك لا تتأتى إلا لشاعر مجرب محنك يقول:

لا عتب للطرف ان زلت قوائمه

ولا يدنسه من عاتب دنس

حملت جوداً وبأساً فوقه ونهى

وكيف يحمل هذا كله الفرس

ولعل ابن جاخ حباه الله بسرعة بديهة وجواب حاضر ولربما كانت تلك من أهم المميزات التي جعلته مقرباً ومحبوباً عند الخاصة والعامة ولم يتأت له ذلك إلا من خلال مخزون لغوي وموهبة فطر عليها جعله يرتجل الشعر ارتجالاً دون أن يزور شيئاً في نفسه فيأتي بالحسن ولا يخطأه فعرفه كبار القوم قبل صغارهم ومما يدل على سرعة بديهيتة وتمكنه أن ابن جاخ قصد فخر الدولة أبا عمرو عباد بن محمد عباد (المعتضد) فلما وصل إليه ودخل عليه قال له أجز: إذا مررت بركب العيس حييها

فقال ابن جاخ في الحال: يا ناقتي فعسى أحبابنا فيها ثم زاد وقال:

ياناق عوجي على الأطلال عل بها

منهم غريب يراني كيف أبكيها

أو كيف أرفض طيب العيش بعدهم

أو كيف أسبل دمعي في مغانيها

إني لأكتم أشواقي وأسترها

جهدي ولكن دمع العين يبديها

وأيضا ما ذكره علي بن ظافر حيث قال: أخبرني من أثق به قال: ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عباد لنزهة بظاهر أشبيلية في جماعة من ندمائه وخواص شعرائه، فلما أبعد أخذ في المسابقه بالخيول فجاء فرسه بين البساتين سابقاً، فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت فسدد إليها عصا كانت في يده فأصابها وثبتت على أعلاها فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه فرأى ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال: أجز: كأنها فوق العصا

فقال: هامة زنجي عصى

فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله وأمر له بجائزة سنية.. ومما يجري في هذا الحديث عن مهارة ارتجاله وبديهيته ما قال أيضاً علي ابن ظافر: وأخبرني أيضاً أن سبب اشتهار ابن جاخ هذا أن الوزير أبا بكر بن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس، لا يستقر ببلد ولا يستفزه عن وطره وطن، وكان كثير الطلب لما يصدر عن أرباب المهن من الأدب الحسن فبلغه خبر ابن جاخ هذا قبل اشتهاره، فمر على حانوته وهو أخذ في صناعته، والنيل قد جر على يديه ذيلا وأعاد نهارهما ليلاً، فأراد أن يعلم سرعة خاطره فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء وأشار إلى يده وقال: كم بين زند وزند

فقال ابن جاخ: ما بين وصل وصد

فعجب من حسن ارتجاله ومبادرة العمل واستعجاله وجذب بضبعه وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعة. وحكاية علي بن ظافر هذا تدل على أن شهرة ابن جاخ لم تكن في بطليوس وأن ابن عمار زاره في حانوته قبل اشتهاره.

فابن جاخ لم يكن شاعر بلاط قبل رحيله إلى أشبيلية فالمصادر لا تذكر له في بطليوس غير صناعته ولا تذكر أنه كان منقطعاً إلى بني الأفطس أو غيرهم من وجهاء بطليوس حتى تغير الحال وأضحت بطليوس بين كماشتين، القشتاليون من جهة وبني عباد من جهة أخرى.. فأصبح ليلهم كليل امرىء القيس.

وحسبي أن أشير إلى حادثة طريفة وجميلة لابن جاخ عندما وفد على بلاط بني عباد هي في حد ذاتها حكاية ظريفة تنم عن شاعر ذكي أراد بحسن التخلص أن يصل إلى ما يطمح إليه قال المقري: ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد أن ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته، فدخل الدار المخصوصة بالشعراء، فسألوه، فقال: إني شاعر، فقالوا: أنشدنا من شعرك فقال:

إني قصدت إليك ياعبادي

قصد القليق بالجري للوادي

فضحكوا منه وازدروه، فقال بعض عقلائهم: دعوه فإن هذا شاعر، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرج في سلكهم فلم يبالوا بكلام الرجل وتنادروا عليه فبقي معهم.

وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص لا يدخل فيه على الملك غيرهم وربما كان يوم الاثنين فقال بعضهم لبعض: هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا، ويجترئ على الدخول معنا، فاتفقوا على أن يكون هو أول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم، ويكون ذلك حسماً لعلة إقدام مثله عليهم، فلما كان اليوم المذكور وقعد السلطان في مجلسه ونصب الكرسي لهم، رغبوا منه أن يكون هذا القادم أول متكلم في ذلك اليوم، فأمر بذلك، فصعد الكرسي وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم فقال:

قطعت يا يوم النوى أكبادي

وحرمت عن عيني لذيذ رقادي

وتركتني ارعى النجوم مسهدا

والنار تضرم في صميم فؤادي

فكأنما آلى الظلام آلية

لا ينجلي إلا إلى ميعاد

يا بين بين أين تقتاد النوى

أبل الذين تحملوا بسعاد

ولرب خرق قد قطعت نياطه

والليل يرفل في ثياب حداد

بشملة حرف كأن ذميلها سرح

الرياح وكل برق غادي

والنجم يحدوها وقد ناديتها

يا ناقتي عوجي على عباد

ملك أذا ما أضرمت نار الوغى

وتلاقت الأجناد بالأجناد

فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني

وترى الرؤوس لقي بلا أجساد

يأيها الملك المؤمل والذي قدما

سما شرفا على الانداد

إن القريض لكاسد في ارضنا

وله هنا سوق بغير كساد

فجلبت من شعري اليك قوافيا

يفنى الزمان وذكرها متمادي

من شاعر لم يضطلع ادبا

ولا خطت يداه صحيفه بمداد

فقال له الملك: أنت ابن جاخ؟ فقال: نعم، فقال: اجلس قد وليتك رئاسة الشعراء، وأحسن إليه ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد من بعده.

ابن جاخ شاعر مقل مطبوع جل شعره في الوصف والنسيب والمدح ولم يلق من الشهرة والصيت إلا كما ذكرنا في دولة بني عباد ولقد أهمله كثير من المؤرخين والرواة فلم يصلنا من شعره إلا النزر اليسير، وهو بعد شاعر بعيد عن التكلف تأتي صوره وتشبيهاته عفوية من ثقافته التي جبل عليها وإن كان لا يقرأ ولا يكتب ويرجح الدكتور عمر فروخ وفاته سنة (480 هـ) فسقوط أشبيلية بيد المرابطين كان سنة 484 هـ وبعدها لا نرى لابن جاخ وجوداً، فإما إنه مات أو اعتزل الحياة والناس، فالمصادر التي بين أيدينا لم تحدد سنة وفاته كما أنها لم تحدد سنة ولادته، ولكن جل تلك الأحداث وقعت في القرن الخامس الهجري إبان حكم ملوك الطوائف للأندلس.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة