Culture Magazine Thursday  09/02/2012 G Issue 362
فضاءات
الخميس 17 ,ربيع الاول 1433   العدد  362
 
حصَانةُ توازُنِ القُوَى
عَدْوَى العَدُوّ
ياسر حجازي

 

تأتي هذه المقالة المتضمّنة مناقشة توازن القوى لقراءة الجدل بين الإسلام السياسي العربي والعلمانيّة العربيّة في طور الظلّ/ المعارضة، كجزء تابع لما نشرته (هنا/ في الثقافيّة-360): بعنوان: (الطريق إلى الإسلامانيّة)، وفاتحة لمقالاتٍ عاقبة أناقش فيها (الإسلامانيّة) كمصطلح مركّب بين الإسلام السياسيّ والعلمانيّة؛ تعريفه، عوامل نشأته، ضرورته التوافقيّة، إعادة تأهيل خطابه، وإعادة استراتيجيات السياسات الخارجيّة الغربيّة مع الإسلام السياسيّ في طور ما بعد الديكتاتوريّات.

ومركز هذه الجدليّة يقوم على توازن القوى داخل مجتمع ذي مرجعيّة وغلبة إسلاميّة؛ فتوازنُ القوى -بين فريقين مُتجادلين في نزاعٍ سياسيٍّ اجتماعيٍّ واقتصاديّ أيضاً- عاملٌ يحفظ وجودهما، يُوَقْعِنُ الجدل كمُسلَّمةٍ لا تميل إلى كفّةٍ دون أخرى، حتّى لكأنّ كلّ فريقٍ منهما يستمدّ مشروعيّة بقائه من الفريق الآخر؛ فما الثنائيّة هاهنا إقصائيّة، وإنْ حرصَ أو توهّمَ الأفرقاء أنّهم إقصائيّون، لأنّ الغاية لا تعني الإنجاز المُحقّق، فكلّ إنجازٍ غاية أو شبه غايةٍ، وليس كلّ غايةٍ هي إنجازٌ؛ فالواقعُ: أنّ التأثيرَ والتأثّرَ بينهما «علامةٌ» على فشل غايتهم الإقصائيّة لبعضهم البعض. وأنّ مسعى طرفٍ لإلغاءِ الآخر «علامةٌ» تؤكّد فاعليّته وفق النديّة والتكامليّة الضدّيّة. كما إنّ محاولات الإخلال بالتوازن وإحداث خروقاتٍ به، بحال من الأحوال لن تُلغي وجوده، بل هي المُشرْعنُ والمصدّقُ على قوّته وتأثيره. فما تعني نهاية الآخر زوالا للصراع، فما من أحاديّة إلاّ ويأتي نقيضها، من خارجها أو من داخلها. فهل كان بالإمكان أن تتأسّس أيّ من الحركات السياسيّة العربيّة ذات المرجعيّة الإسلاميّة أو العلمانيّة، وعلى المستويات المتعدّدة التي مرّت بها تلك الحركات (في الظلِّ-أو في المعارضة) إنْ كانت أنظمة الدول -التي نشأت فيها- متوافقة معها فكريّاً وتشريعيّاً؟

أليس علّة نشوء الفريقين -هاهنا- هي مخالفة كلا الفرقين للسلطة في القوانين والتشريعات وما دون ذلك من تفريعات، وفق مرجعيّاتهما المختلفة؛ الدينيّة لفريقٍ والمدنيّة لآخر.

إنّ واقعة التوازن في القوى مأخوذةً أو مدعومةً بالعامل الزمني تُفضي إلى ما أُسمّيه ب(عَدْوَى العَدُوِّ): وهي التأثيرُ والتأثّر -سلباً أو إيجاباً- الذي يحدث بانتقال عناصر الطرفين المتجادلين فيما بينهما بنسب مختلفة؛ وهي تعمل دون قصديّة، فلا تستأذن الطرفين في أعمالها الاندماجيّة، بل حالما يتكشّف للوعي أنّه وقعَ فريسة (العدوى) فإنّه أمام مسلكين:

المسلك الأوّل: محاربتها واستئصالها؛ حيث إنّ العدوى دخيلٌ تسلّل إلى مستويات دون رأس الهرم، وهنا تنشأ معركة داخليّة تفضي إلى انشقاقٍ، غايته في التوافقيّة مع الفريق الآخر، وعلّة كائنيته إنهاءُ حالة الجدل والالتفاف لما هو محلّ استحقاق، بما يحفظ أصوله ولا يلغي أصول الفريق المقابل. ووفق النموذج المتاح يكون الالتفاف حول وحدة المشروع الإسلامانيّ في مواجهة السلطة الديكتاتوريّة، أو مواجهة الاستحقاق التاريخيّ الذي بدأت ملامحه الأوّليّة تنجلي، بدلاً من استمرار حالة المعارضة المتوازنة العقيمة، المتجادلة فيما بينها والمتهاونة بمواجهة استحقاقاتها ضدّ السلطة.

المسلك الثاني: هو (تأصيل الدخيل)؛ أيْ قبول (عدوى العدُوّ) والعمل على شرعنتها، وتأصيلها، على أنّها جزءٌ من الأصول، وأنّها رائدة أصيلة وليست وافدة دخيلة. وعادة مَن يملكون القدرة والتأثير على (تأصيل الدخيل) هم على مستوى رأس الهرم؛ وغالباً ما تدرج هكذا عملية تحت مسمّى إعادة تأهيل الخطاب السياسيّ من قمّته. وهنا تظهر مقاومة من المحافظين على نقاء الأصول، ترفض التطوير والتأهيل.

لذلك فإنّ (تأصيل الدخيل) تعمل على استيعاب العناصر الدخيلة من الفريق المقابل، وإعادة تأصيلها وفق تعدّديّة التأويل، وإلحاقها بأصوله. مثلاً (الديمقراطيّة الدخيلة هي شورى أصيلة/ حريّة المعتقد-لا إكراه في الدين/ التعدّديّة-لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً/ التداوليّة- وتلك الأيّام نداولها بين الناس/ حقوق الإنسان والعلاقات الدوليّة- وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..)، ولنا عودة في مقال آخر لقراءة هذه الأصول وما يقابلها من أصول مدنيّة.

أمّا (عَدْوَى العدوّ): فهي البنية الرئيسة والناقلُ الذي يُسهم في المخرجات الانشقاقيّة أو الوسطيّة التقاربيّة بين الطرفين المتجادلين في ظلّ وجود أزمة/صراع (كلاهما في الظلّ، كلاهما يمثّلان معارضة للسلطة الأحاديّة)، والتي تتسارع بنقل وتبادل العناصر بين الطرفين ممّا يزيد من عوامل التشابه بينهما ويقلّص الفروقات؛ وهذه العدوى تتكاثر كُلّما تمكّنت (حصانة التوازن) من إستراتيجية ورؤية الفريقين للأزمة؛ وهذا العامل الجوهري في الجدل يؤهّل (عَدْوَى العَدُوِّ) أن تمارس أعمالها الاندماجي ّة فيما بينهما، بحيث يصعبُ عليهما استئصال ما علقَ بأصولهم أو فروعهم الفكريّة دون حدوث تصدّعات وأزمات داخليّة، فكيف إذا تبنّى رأس الفريق هذا الدخيل على أنّه أصيل.

أمّا حصانة التوازن: فهي وظيفة نفعيّة تُعطّل من الحلول والحوار، وتُفضي للرضوخ والاستسلام لبقاء الأزمة كما هي عليه، حمايةً للامتيازات والمكتسبات التي أفرزتها بيئة التوازن، وخشيةً من مخاطر تهدّد البقاء؛ فحماية التوازن تعني حماية البقاء، والمغامرة بالإخلال به تعني احتماليّة الانتهاء.

هكذا يتضّح أكثر أنّ المخرجات الناجمة عن الجدل/الصراع، التوافقيّة أو الوسطيّة، لم تتشكّلْ صُدفةً أو طفرةً، إنّما قد نشأَت نتيجة (عدوى العَدُوِّ) التي تحوّلها عوامل: (الزمن، حصانة التوازن، الأزمة، ضرورة التعايش، تشابه الهويّة، المصالح) إلى قدرة نافذة مؤثّرة.

وعلى قدر ما تنتشر (العَدْوَى) في المسائل القيّمة أو الجوهريّة (الأصول) وليس العارضة، على قدر ما قلّصت الفروقات بين الطرفين، وعجّلت في ظهور (فريق آخر) يعمل في البدء تحت مظلّتهما، وفق مصلحة (جذب الإيجابيّات، وطرد السلبيات)، لكنّه سرعان ما ينشقّ عنهما حينما تكون له الغلبة، ويغدو هو المهيمن، أي هو القوّة الجديدة التي تنهي حالة التوازن السابقة وامتيازاتها؛ حيث إنّ الحتميّة الجدليّة بين قوّتين -لا يقدر أحدهما أن يُلغي الآخر- تُفضي إلى انتاج قوّة ثالثة، حاوية ومهجّنة؛ ممّا لا يعني الغلبة لأحد الفريقين. فلعلّ الصراعات (الدوليّة) الكبرى أنتجت: أنّ كلّ قوّة تحملُ بذورَ أفولها بداخلها، كما هو حال الكائن الحيّ نفسه. ألم يكن انهيار الدولة العثمانيّة والسوفييت داخليّا؛ وهذا ما بدأ يقلق الكثير من مفكّري الحضارة الغربيّة بعد عواصف اقتصاديّة داخليّة، فالحلم بنهاية الصراع/الجدل وهمٌ إنساني؛ ففي «نهاية التاريخ» عند فرانسيس فوكوياما، يفترض: أنّ انتصارَ الرأسماليّة على الشيوعيّة السوفيتيّة هي بشارةٌ للإنسان الأخير (الجنّة الأرضيّة) ونهاية الصراع، وتلك فكرة طوباويّة لا تفلتُ من (الأَنَويّة والآنيّة)؛ حيث يمجّد (الأنا) بقاءَهُ بوهمه وظنّه بإلغاء (الآخر) عبر الإخلال بحالة التوازن معه، (والآنيّةُ) في غياب الوعي إذ يتغافل عن عاملي: الزمن، وحتميّة بروز آخر يكمّل الصراع (آخر خارجيّ، أو أخر داخليّ) ويضع حالة توازن جديدة؛ فالآخرُ لا يزول ولا يفنى إنّما يتغيّر، مثلما أنّ الصراعات لا تزول إنّما يتغيّر أطرافها، وفق التغيّر في موازين القوى.

أشير في الختام، أنّ مؤثّرات حصانة توازن القوى وأعمال عدوى العدُوّ الاندماجيّة، تختلف باختلاف حالات (توازن القوى)، إن كانت (داخليّة أو دوليّة) بين مجتمعين أو قوميّتين أو أيديولوجيتين، فالاختلاف والمؤثّرات تكون تبعاً لشكل الصراع، ومدى أحاديّة أو تعدّديّة مرجعيّات فكر الطرفين المتجادلين.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة