Culture Magazine Thursday  09/02/2012 G Issue 362
فضاءات
الخميس 17 ,ربيع الاول 1433   العدد  362
 
تحولات امرأة نهرية
التلصص
ليلى إبراهيم الأحيدب

 

أقرأ الآن رواية التلصص التي كتبها الروائي المصري الجميل صنع الله إبراهيم، صاحب رواية (وردة) و(ذات) و(اللجنة) وأعمال أخرى عديدة وجميلة. كتب صنع الله هذه الرواية مستلهماً حقبة الأربعينات، من خلال عين البطل/ الطفل الذي يتلصص على نوافذ الحياة ليروي لنا حكايته وحكاية أبيه الذي يلازمه ملازمة الظل. من عين ذلك الطفل نرى العالم من حوله، ونعرف الحكايا المخبئة، والقصص المبتورة، بوعي طفل وذاكرته تبدأ الرواية وبها تنتهي أيضاً.

كنت أشعر وأنا أقرأ الرواية أنني بحجم قامة ذلك الطفل السارد، وأن الأشياء حولي جديرة بالتلصص ومغامرة الكشف، بدءاً من ظل الأب الذي يهمين على مقاطع الرواية ووصولاً لظل الأم الشاحب الذي يعبر كطيف غامض.

الجميل في الرواية هذا البناء المحكم الذي قدمه صنع الله (لمعنى التلصص)، فجميع ما نقرأه في الرواية هو تلصص ذلك الطفل على حيوات أخرى تقودنا مباشرة إلى حياة بطل الرواية، هذا المعنى يرسخه المؤلف عبر فصول الرواية، فالعنوان يقودنا لمعمار الرواية الخارجي والداخلي، لا شيء يخرج في الرواية عن معنى التلصص، فالتفاصيل المنثورة بدقة في كل مفاصل النص يرويها بطل الرواية متلصصاً ومتداخلاً مع ذكرياته عن أمه تلك القيمة الغالية التي كان يتلصص أيضاً على أبيه ليعرف حكايتها وسرها، والمكان يحضر من ثقب الباب أو شرفة الشقة أو خط سير الأب والابن مرسوماً بدقة فنان مبدع، وصنع الله في روايته الجميلة منح التلصص معاني واسعة، فالتلصص هو الدرب الوحيد الذي يقطعه الطفل - أي طفل- ليعرف ويكتشف عالمه، وهو الأذن الثالثة والعين الثالثة التي تمنح بطل الرواية أفقاً واسعاً ليحكي حكايته.

باختصار التلصص هو بطل النص ومعماره وتفاصيله المحكمة ونادرة تلك الأعمال التي تكون رؤيتها بكل هذا الإتقان بحيث تقرأها فتنثال معك الحكاية وتأخذك نحو عوالمها بدءاً من عتبة العنوان وأنت تستشعر المعنى والمبنى، وتقودك لأسئلة الكتابة وسرها وأنت تقرأها مبهوراً بالكلمة والبناء والجمال المعتق، تتوقف لتتأمل النهر الذي يجري بك نحو الحكاية، وتعيد قراءتها مرة أخرى لتعرف سر الصنعة في الكتابة! سر هذا الشغف الذي تلمسه وأنت تقرأ، ونادرة تلك النصوص التي تسرقك من عالمك لعوالمها، وعندما تستفيق تعيد القراءة لتعرف كيف كتبها، لكنك مهما حاولت لن تعرف سر الصنعة!

وفي ظني سر صنعة كل كاتب معقود بناصية موهبته ومدى اكتمالها وكمالها ومعقود أيضاً بمدى شغفه بنهر الكتابة ومدى مهارته في الغوص فيه عميقاً وتقديم عالم مواز يستطيع أن يحيا من خلاله بطل النص في وجدان القراء بحيث يتمثلون شخصيته ويطرحون أسئلته ويخرجون من الرواية ومعاني خالدة لا تزال عالقة بأذهانهم.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة