Culture Magazine Thursday  09/02/2012 G Issue 362
فضاءات
الخميس 17 ,ربيع الاول 1433   العدد  362
 
الاغتراب كأزمة عربية (1-2)
عبدالله العودة

 

في مقالات سالفة عدة حاولت قراءة حالة التغريب.. وفي مقالة «بين التغريب والاغتراب» كان الحديث عن حالة نفسية وثقافية أخرى لا تقل شراسة، وهي التي تقود إلى تبني خيار «العزلة» وطرح خيار الاغتراب والانسحاب من الحياة أو المجتمع وقضاياه وهمومه وقيمه أو العصر بشكل جزئي أو جوهري.

في دراسة من أهم الدراسات حول مفهوم الاغتراب فلسفياً في الفكر الغربي تحدث «ميلفن سيمان» عن هذه المعضلة وتطوراتها المفهومية في الفكر الغربي بشكل لم يسبق إليه، واعتمد عليه كل من تحدث عن الاغتراب لاحقاً.. في كتابه الذي يمكن ترجمته بعنوان «في معنى الاغتراب» (On the Meaning of Alienation) وجد سيمان أن الاغتراب له استخدامات تاريخية وفلسفية متعددة بدأت في القرن التاسع عشر مع كارل ماركس؛ فهو أول من استخدم هذا المصطلح بمعناه النفسي والفلسفي؛ ليصف حالة العمال في مجتمع رأسمالي. بعد بحث عريض حُصرت استخدامات لفظ الاغتراب في خمسة استعمالات رئيسية، وبالإمكان فهم هذه الاستعمالات كحالات وصفات الاستغراب..

الأولى: العجز.. فحين يحس الإنسان بالعجز في مجتمع لا يحكمه ولا يشارك في قراراته، ولا يضيف إليه ولا في إدارته شيئاً، تتملكه حالة من العجز والضجر والإحساس بانعدام الطاقة والقوة التي تزوده بالحياة والإنتاج.. وهذه بالتحديد هي التي جعلت ماركس يصف العمال في المجتمع الرأسمالي بالعجز؛ لأنهم يعملون ويقضون جهدهم في معامل الإنتاج، لكن من غير أن يصلهم نصيب مباشر من هذا الإنتاج أو يؤثر فيهم.. فحكمهم حكم السلع أو الحيوانات التي تعطَى ما تأكل به وتعيش دون أن تحس بالفرق أو العيش.. فهؤلاء العمال لا يديرون الشركة مع أنهم هم الصانعون الحقيقيون والمباشرون للإنتاج، بل يديرها «مديرون» هم في الحقيقة لا يصنعون الإنتاج، ولا يشاركون في العمل المباشر، بيد أنهم «يديرون» من مكاتبهم العمل إما عبر الأوراق أو عبر الإشراف..

حالة العجز.. تدفع إلى عدم الاهتمام بالمشاركة أو حتى ربما طلب المشاركة بالقرار.. فتتحول من حالة نفسية إلى مرض اجتماعي عام، يشمل كل هذه الطبقة، حسب ماركس.

لكن الذي لم يحدثنا عنه ماركس هو العجز السياسي في الاغتراب حين يحس مجتمع عربي بالعجز تجاه صناعة القرار.. بالعجز عن المشاركة، والعزوف وعدم الاهتمام على الإطلاق. وفي الوقت الذي تحدث فيه ماركس لأول مرة عن الاغتراب الاقتصادي طوّر ماكس فيبر ملاحظة ماركس؛ لتصبح نظرية؛ ليقول إن هذه الحالة ليست فقط في المجال الاقتصادي بل في كل مجالات الحياة؛ فالجندي يعاني الاغتراب حين يخوض الحرب بنفسه، ولا ينال من تلك الحرب ما يناله المدير الذي يصدر الأوامر، بينما يتناول القهوة في مكتبه بالعاصمة..

فيبر لم يحتج أن يبذل جهداً لكي يعمم هذه النظرية؛ فهي بالفعل تعني أن كل إنسان في مجتمع ما معزول عن المشاركة واتخاذ القرار، والذي لا يناله نصيب مباشر من جهده وطاقته ومحاولاته يحس بالاغتراب.. ويتجه نحو الانعزال والعجز والحرمان.. فهذا المغترب يصل إلى نتيجة عقلية ونفسية بأن وجوده لن يغير من المعادلة شيئاً، فيتوقع أن المشاركة غير ممكنة بهذا الاتجاه.. ولا فائدة من طلب المستحيل!

وبالطبع هذا الاغتراب - بعد إضافة جهد «فيبر» - سيضع ماركس ونظرياته نفسها في معمله، وسيجعلنا نحاكم ماركس ونظرياته.. بأنها كانت هي ذاتها شكلاً من أشكال الاغتراب حين يؤسس ماركس للطليعة التي تعزل نفسها عن المجتمع، وتقود التغيير نحو «المساواة» في الأجور والعمل واتخاذ القرار.. فماركس نفسه أيديولوجيا.. قادت محاولاته النظرية إلى التأسيس لأبشع مجتمع مغترب معزول عن العالم.. لا يملك من أمره شيئاً..

وفي السياق العربي.. حين تتملى حالة العجز والاغتراب هذه.. تستطيع القول إنها دفعت تيارات إسلامية للرفض والانكفاء وتأسيس عالمها الأيديولوجي الخاص.. ودفعت تيارات يسارية وليبرالية لليأس من الناس والمجتمع.. والوقوف ضد خياراته وقيمه ومبادئه.. ودفعت تيارات أخرى ذات اليمين والشمال لفرض الوصاية على المجتمع أو التحدث باسمه أو حتى ربما تحقير المجتمع وتبخيسه.. ووصمه بكل الأدواء والعلل.. لكي تثبت لنفسها أنها «نخبة» تملك الوعي الذي يفتقده المجتمع، وتلبث تردد ذلك كل مرة؛ لتسب وتشتم هذا المجتمع، في الوقت الذي تنقم عليه أنه لا يتقبلها ولا يحترمها.. ولا يتفهم «وعيها»..!

aalodah@hotmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة