Culture Magazine Thursday  09/02/2012 G Issue 362
فضاءات
الخميس 17 ,ربيع الاول 1433   العدد  362
 
خصوصية الخطاب الأدبي.. وجماليات الانزياح(4)
عمر بن عبد العزيز المحمود

 

لقد كان الاهتمام المبالغ فيه بِجمالية (الانزياح) عند كثير من المناهج النقدية الحديثة سبباً مباشراً في ضعفها وعدم قدرتها على منح الناقد التقنيات التي يستطيع من خلالِها معالَجة الخطاب الأدبي، وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى عدم الثقة بِها، ومن ثم تَهافتها وسقوطها، والاضطرار إلى قيام مناهج جديدة يُحاول تعويض ما أخفقت فيه أخواتُها.

وإذا كنت قد أشرتُ إلى إخفاق المنهج البنيوي في التعامل مع (الانزياح) في جزء سابق فإن هذا الإخفاق سيبدو أوضح حين يكون الحديث عن المنهج التفكيكي الذي وصل به الأمر إلى التشكيك في اللغة، من خلال التشكيك في العلاقة بين الدال والمدلول، وعدم الثقة في يقينية المعنى المتولدة منهما، ومن ثم فإن عدم وجود هذه العلاقة سيؤدي حتماً إلى عجز اللغة بل موتها، والقضاء على الوظيفة الأساس التي يفترض أن تؤديها، وهي وظيفة التواصل الإنساني، ولذا تضحي الدلالة في نظرهم مؤجلة على نحو دائم، ومنتشرة لا يمكن الحصول عليها، أما المتلقي فهو صاحب السلطة في تحديد طبيعة هذه الدلالة وماهيتها، وما دام الأمر كذلك فإن الباب سيظل مفتوحا على مصراعيه أمام كل قارئ وقراءة، دون أن يكون هناك ضوابط معينة يرجع إليها في تحديد المعنى المقصود من الخطاب الأدبي، ولا قواعد متفق عليها لاستكناه الدلالة المرادة من النص، وهذا يؤدي بدوره إلى تحول العملية النقدية من عملية فنية متميزة، يفترض أن يكون لها قواعدها الثابتة وضوابطها المعلومة إلى مجرد قراءات عبثية وممارسات فوضوية، وتخمينات وافتراضات لا تنطلق من أي أساس نقدي أو علمي.

لكن فهم كثير من المناهج النقدية الحديثة للانزياح وتعاملهم مع هذه التقنية الجمالية على أساس هذا الفهم ينبغي ألا يغفلنا عن إدراك الأهَمية الكبرى التي يَحتلها في الخطاب الأدبي، بوصفه الحد الفاصل الذي يُميِّز هذا النوع من الخطابات عن غيره، بل إنه -كما أشرت أكثر من مرة- هو السبب الرئيس في تفاوت القيم الدلالية والجمالية بين الخطابات الأدبية، فالمبدع حين يصل إلى مرحلة متقدمة من الخبرة والنضوج الفني، وحين يَمتلك قدراً كبيراً من الثقافة اللغوية والنحوية والبلاغية، بالإضافة إلى الموهبة الإلهية، فإنه سيكون قادراً على إنتاج انزياحات تَحمل قيمة جَمالية أكثر من ذلك المبدع الذي تنقصه هذه الثقافة والموهبة، وتلك الخبرة والتجربة، ومن ثم فإن كيفية التعامل مع الانزياحات اللغوية والتركيبية والفنية وطريقة تقديمها إلى المتلقي هي النقطة الأساس من نقاط قوة ذلك النص، وهي التي سيكون بمقدورها ترجيح كفته على غيره من الخطابات الأدبية، ولا أدل على ذلك من أن الشعراء الذين ما زال الناس يتغنون بنصوصهم، ويسهرون جراها ويختصمون، هم أولئك الذين استطاعوا التعامل مع هذه التقنية الجمالية بصورة متميزة استثنائية.

وإذا كان مطلوب من المبدع التنبه إلى هذه القضية المهمة أثناء مُمارسته للعملية الإبداعية فإن الإلحاح على هذا التنبه سيضحي أكبر ضرورة بالنسبة للناقد القارئ حين يُمارس قراءته النقدية، ولا شك أن ما قلناه عن المبدع من ناحية ضرورة امتلاكه للخبرة والثقافة سيكون حاضراً في هذا السياق، إذ لا يمكن للناقد تذوق جماليات النصوص، ومعرفة مواطن جمالها وضعفها، والقدرة على الموازنة بين النصوص.

وقد أدرك كثير من النقاد العرب المعاصرين هذه الأهمية، فهذا الدكتور (طه وادي) يؤكد في كتابه (جَماليات القصيدة المعاصرة) على أن اللغة «هي المادة الأساسية المشكِّلة لوجودنا الثقافي والحضاري، وبالضرورة هي الأساس أيضاً في عملية الإبداع الفني، لذلك فإن لكل أديب طريقة خاصة في استخدام الكلمة وتركيب الجملة من حيث النحو البلاغي، إن الأديب لا يركِّب الجملة ليعبِّر بِها عن معنى تقريريٍّ مألوف، وإنَّما يتعامل مع اللغة بطريقة تفجِّر فيها خواص التعبير الأدبي، وتَجعل للعبارات والأنساق والجمل قوَّة، تتعدَّى الدلالة المباشرة، وتنقل الأصل إلى المجاز، لتفي بِحاجة الفنِّ في التعبير والتصوير»، ويقرر الدكتور طه بعد ذلك بأنه «يَجب أن ندرك أنَّ التركيب/التشكيل اللغوي هو المادة الحقيقية المشكِّلة لفنِّ الأدب؛ لِهذا ينبغي بذل جهد كبير في التعرف على كيفية استخدام الأديب للغة».

أما الدكتور (مُحمَّد عبد المطلب) فهو يؤكِّد في كتابه (قراءات أسلوبية في الشعر الحديث) على أنَّ «الشعرية منوطة بالمعجم من ناحية، والنحو من ناحية أخرى، حيث تكون السيطرة لخطّ النحو على خطِّ المعجم، لتشكيله حسب مقولاته المحفوظة، بِما يُخرجه عن المألوف، أي: ينقل الصياغة من منطقة الحياد التعبيريّ إلى منطقة الأدبية»، ويوافقه الدكتور (كمال أبو ديب) في كتابه (في الشعرية) مؤكِّداً خصوصية لغة الشعر بوصفه من أبرز أنواع الخطابات الأدبية، حيث يرى بأن: «الشعرية خصيصة علائقية، أي أنها تُجسِّد في النصِّ لشبكةٍ من العلا قات، التي تنمو بين مُكَوِّنات أولية، سِمتها الأساسية أنَّ كلاًّ منها يُمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعرياً، لكنَّه في السياق التي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواشجة مع مكوِّنات أخرى، لها السمة الأساسية ذاتُها، يتحوَّل إلى فاعلية خلق للشعرية، ومؤشِّر على وجودها».

ويُمكن القول في ختام هذا الموضوع إنَّ معظم الفنون الجمالية التي يعمد المبدع إلى استخدامها والتعامل معها في نصه الإبداعي مبنية في الأساس على تقنية (الانزياح)، سواء على مستوى اللفظ كالاستعارة والمجاز المرسل، أو على مستوى الدلالة كالكناية، وينبغي التأكيد هنا على أنَّ (الانزياح) ينبغي أن يكون توجُّهاً للشاعر والناقد معا، فكلاهُما يَجب أن يَجتهد في تصوير نتاجهما إلى القارئ المستهلك لِهذا الخطاب الذي يأمل منه أن يكون مُخالفاً لِما اعتاد على قراءته وتلقيه من بقية أنماط الكلام العادي.

Omar1401@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة