Culture Magazine Thursday  10/05/2012 G Issue 373
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الآخر 1433   العدد  373
 
مناهج التأويل تكامل أم تطارد
أ. د. خالد بن محمد الجديع

 

يعطي تأويل الأثر الأدبي مساحة من القول أثناء مواجهة النصوص، فهو درجة أعلى من إبانة المعاني الوهلية للنص، ومعه يدخل المنجز الفني إلى عوالم مفتوحة تتيح للناقد مزيدا من الحركة الفاعلة في تحليله.

لكني أحسب أن الدرس النقدي لم يعد يسمح الآن بأن نذيل عنوانات معالجاتنا بقولنا: دراسة تأويلية، ذلك أن التأويل تتنازعه حزمة من المناهج التي ينبغي أن تكون هي المناص عند لحظة الانطلاق، فالانطباعات التأويلية الذاتية لا محل لها اليوم بعد أن ثبَّتَتْ مناهج التحليل مفاهيمها وآلياتها.

وعلى أن كل تلك المناهج تشترط المنطقية في التأويل وأن يكون متساوقا مع البنية العامة للعمل، لكن هذا الشرط لا يكفي لجعل التأويل علميا، فكل منهج من مناهج التأويل يقدم رؤية مختلفة ومداخل مغايرة للمنهج الآخر.

ولعل أهم إحراجات هذه المقالة يكمن في وجود مجموعة من الأعمال النقدية التي قدَّمها من يصنفون على أنهم كبار النقاد، فالقارئ قد يصدم بتحول النقد لديهم إلى شعوذات كلامية لا تمت إلى الدرس النقدي المؤسس بصلة.

وعندما يكرَّم هذا الناقد الكبير على مستوى الوطن العربي فإن صنيعه النقدي يكتسب مشروعيته، ويتم تثبيت النسق الذي سار عليه ومن ثم حراسته من لدن القراء بوصفه عملا نقديا متميزا.

هذه المعضلة الكبرى هي التي جعلت بعض الدارسين يصدف عن قراءة مثل تلك الأعمال النقدية التي يختفي فيها الجانب المنطقي، ويتراجع الإقناع، وتغيب عنها المنهجية؛ ذلك أنها تسير في طرق ملتوية لا حظ لها من العلم إلا جائزة هذا الناقد التي تؤكد أننا نعيش أزمة نقد حقيقية.

يتحول صاحب الجائزة إلى سلطة مبطنة تملي رؤاها الهيولية بالعصا الغليظة، ولسان حاله يقول: أنتم من منحني الجائزة، وعليكم أن تقبلوا ما أقول، وإذا كان هناك من صدَّ صدودا عن مثل هذه الأفكار التأويلية فإن هناك من قبلها ورحب بها حتى لو كانت دون ضوابط ومقاييس.

ناقد بحجم مصطفى ناصف يتلاعب بقارئه كثيرا ويدخله إلى متاهاته ومفاوزه التي لا تعرف لها مدخلا من مخرج، يكتب ليلا فتسبق أحلام اليقظة أحلامه المنامية، يمسك بقلمه ويكتب دون رقابة من منهج أو مراعاة لقارئ، عليك أن تحلم معه، وربما استيقظ من حلمه وتركك داخله وحدك لا تعرف كيف تخرج من هذا العالَم المشوَّش وكيف تتعامل مع هذه المفردات الحلمية غير المتجانسة على الأصعدة كافة.

وربما خفتت هذه الضلالات وتلك الهلاوس عند كمال أبو ديب الذي أمسك بأطراف مجموعة من المنهجيات بشكل مخاتل وتمكن من إقناع القارئ بهضمه إياها على مستوى التنظير، ثم انطلق على صعيد المراس مع النصوص إلى حالات من اللاوعي التي يؤمن بأنها مكمن الإبداع النقدي، فتتداعى فيها الدوائر والخطوط والأشكال الهندسية دون حسيب ولا رقيب ودون محاولة جادة منه للربط بين ترسيماته وأفكاره.

لا تقصد هذه المقالة إلى ضرب الأمثلة وإلى تتبع الإشكالات النقدية بقدر ما تروم ضبط المجال التأويلي الذي أضحى مقننا في كثير من مناهج الدراسات الأدبية.

ليس هناك منهج تأويلي واحد بل مناهج متباينة، وأحسب أنه لا يصح اليوم إفراد هذه الكلمة دون ربطها بمنهجها، لأن مثل هذا الصنيع سيقود إلى بهلوانيات تجعل من المنجز النقدي مرتعا خصبا لمن يريد اللعب بالبيضة والحجر.

لقد دخلت أفكار جادمير التأويلية مناهج النقد وتكيفت معها تعديلا أو إضافة أو حذفا، وكانت أفكاره بذورا لم تؤت ثمارها وحدها، بل من خلال اندغامها في مناهج النقد التالية.

فإذا كان التفكيكيون وعلى رأسهم ميشيل فوكو وجاك دريدا لم يتمكنوا من تقديم مسارات تأويلية واضحة يسلكها الناقد، وغرقوا في لجج انفتاح النص الذي نظَّروا له ولم يستطيعوا السيطرة عليه بعد فتحه فإن التأويل في مناهج أخرى بدا أشد وضوحا وأكثر انضباطا.

فالسميائية التأويلية أطفأت نار التأويل التي التهمت كل شيء من خلال تقديم مداخل قارَّة للمعالجة، فالعلامة هي منطلق التأويل ومناصه، ولا تُختار هذه العلامة إلا من خلال محددات تسوِّغ اقتناصها دون غيرها في ألفاظ النص وكلِمه، هي بأنواعها سواء أكانت أيقونة أم قرينة أم رمزا تدل القارئ على طريق لاحب مملوء بالإشارات الإرشادية.

يرى أومبرتو إيكو رائد السيميائية التأويلية أن النص آلة كسول، وأنَّ على الناقد أن ينشط التراكيب لملء بياض النص، وأنبه هنا إلى أن البياض مع إيكو ليس البياض بوصفه أيقونة (فراغا كتابيا أو نقطا) وإنما هو التأويل للعبارات الظاهرة لا المضمرة.

هذا منهج تأويلي واضح المعالم إن أردت أن تسلكه فعليك أن تخضع لشروطه ومقاييسه، وثمة منهج تأويلي آخر مرتبط بنظرية التلقي، لكنه لم يأت مع رائدها هانس روبرت ياوس، بل مع تلميذه فولفغانغ إيزر، فإذا كان الأستاذ نظَّر لأفق الانتظار وللمسافة الجمالية وللتلقي التعاقبي فإن تلميذه لم يقف عند هذه الحدود، بل أضاف مفاه يم جديدة تتمثل في القارئ الضمني وفي اللا تحديد.

ومع عنصر اللاتحديد التي قدمه إيزر - بعد أن طوّر عملية القراءة التي اقترحها رومان إنجاردن - ندخل عالم التأويل في نظرية التلقي، حيث يجرنا الحديث إلى ما يسميه إيزر فجوات النص في محاولة تقعيدية يقدمها لإعادة تعبئة الأثر الأدبي من جديد، وهنا يكون القارئ شريكا في إنتاج النص مع المبدع الذي ترك فراغات داخل عمله، فجاء الناقد ليملأها بتأويلات غير تقليدية وغير مسبوقة.

إن القارئ في نظرية التلقي يبحث عن النص الغائب في النص الحاضر، ومن هنا يبدو المنجز الأدبي دون تلقٍ فاقد الأهمية والقيمة معا، لأن هناك قطبين أساسيين في النظرية هما القطب الجمالي والقطب الفني.

وأنبه هنا إلى أن مفهوم القطب الجمالي في نظرية التلقي ليس كمفهوم الجماليات في المنهج الإنشائي الذي يعني أدبية النص (شعرية الشعر - سردية السرد)، وإنما يقصد بالقطب الجمالي ذلك المتلقي الذي يسهم في بناء النص (القطب الفني) وإنتاج دلالته ويمنحه قيمته الإبداعية، ومن هنا علينا أن نستعمل مع كل منهج مصطلحاته إذا أردنا تحري الدقة في صياغة الآراء النقدية.

ويأخذ التأويل مع التداولية مسارا مختلفا، فهي تبحث في القصدية، وتركز على المراد من الكلام، فعندما أقول على سبيل المثال: النافذة مغلقة، فإني لا أقصد المبتدأ والخبر النحويين، وإنما قد أعني أن الغرفة مظلمة ونحتاج إلى أن نفتح النافذة ليدخل الضوء، وقد أعني أن الجو حار ولو فتحنا النافذة لتلطف، وربما قصدت أن الغبار موجود في الغرفة رغم إحكام إغلاق النافذة... إلى آخر هذه المقصديات التي يُعنى بها التداوليون.

مدار التأويل في المنهج التداولي محكوم بمسار القصد الذي يجعل الحركة داخل النص أكثر انضباطا وأبعد عن التفسيرات الاجتهادية الهلامية غير المستندة إلى خلفيات المنهج وآلياته.

ولأهمية الحِجاج في النظرية التداولية فإن التأويل فيه يحمل خصوصية لا تعطيها المفاهيم التداولية العامة، فالرد على ما لم يقل من الكلام ويفهم من سياقه مضمار طويل في الدرس الحِجاجي، يحرص فيه المحاجّ على أن يلمح فيما يستحق الإلماح ويصرح في مواطن التصريح.

ويمكن أن تُعَدَّ مقالتي السابقة (أبو زيد وخابية النبيذ: قراءة حجاجية للخطاب الوعظي عند الحريري) ضربا من التأويل الحجاجي الذي يستند إلى مفاهيم هذا الباب الرئيس من أبواب النظرية التداولية.

وإذا جئنا إلى النقد الثقافي نجد أن التأويل معه يأخذ طابعا مغايرا، فالأنساق المضمرة المختبئة تحت الأنساق الظاهرة هي مجال الحركة في التأويل الثقافي، ومن حظ هذا المنهج أن الدراسات التطبيقية في مجال التأويل عديدة، وكثير منها يضم إلى جانب الالتزام بمفاهيم المنهج وآلياته إقناعا نقديا يستحق الاحترام.

ولي وقفة قادمة بإذن الله مع التأويل الثقافي كما بدا عند يوسف عليمات وأحمد المرازيق من خلال كتابيهما عن جماليات التحليل الثقافي.

وختاما فإني آمل أن تكون هذه المقالة قد أسهمت في ربط التأويل بالمنهج وعدم ترك الحبل على الغارب ليقول من شاء ما شاء.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة